حفظ القرآن أوّل مراتب الطّلب
عبد الله سعيد بازومح
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
فهذه رسالة موجزة في بيان أصل من أصول التلقي والطلب عند أهل السنة والجماعة أخلَّ به كثير من طلاب العلم وهو حفظ القرآن العظيم وضبطه، إذْ أنك تجد كثيراً من الطلبة لا يعتنون بحفظه، بل أشد من ذلك تجد بعضهم لا يحسن تلاوته نظراً!.
فهذا خطأ يجب تداركه، إذ كيف يُترك أصل الأصول ثم يُبتغى بعد ذلك العلم ويُطلب، فلهذا جاءت هذه الرسالة لبيان هذا الأصل المهم.
واللهَ أسأل أن ينفع بها كاتبها وقارئها فهو خير مأمول، وبه أستعين.
ثم إنه لا يخفى على أحد ما للعلم من فضل ومكانة، فهو تركة الأنبياء وتراثهم، وأهله عصبتهم وورّاثهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، فبه يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحّد، وبه تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام.
واستشهد الله - عز وجل - بأهل العلم على التوحيد، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته.
ويكفي في شرفه؛ أنّ فضْلَ أهلِه على العبادِ كفضْلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكب، وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها، وأن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر، وحتى النمل في جحرها، وأن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير.
وأمر اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله المزيدَ منه، فقال: (وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً)[مدارج السالكين لابن القيم/ تحقيق رضوان جامع رضوان 2/180-181].
حكم تعلم العلم الشرعي:
الأول: العلم الواجب العيني، وهو معرفة ما أمر الله به؛ من التوحيد والطهارة وإقامة الصلاة.... إلخ. ومعرفة ما نهى الله عنه من الشرك والمحرمات حتى تجتنب. وهذا العلم هو الذي أشار إليه الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - في ثلاثة الأصول بقوله: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل؛ الأولى: العلم".
ويدخل في هذا القدر الواجب، حفظ سورة الفاتحة مع حفظ سورة أو آية معها، قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: ((الذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم، ما لابدّ منه في صلاته، وإقامة دينه، وأقل ما يجب على الرجل من تعليم القرآن فاتحة الكتاب وسورتان))[انظر طبقات الحنابلة لأبي يعلى الحنبلي/ مكتبة شبكة المشكاة الإسلامية ص75].
وقال الإمام أبو محمد بن حزم - رحمه الله -: ((فالذي يلزم كل إنسان من حفظ القرآن فهو: أمُّ القرآن، وشيء من القرآن معها، ولو سورة أي سورة كانت، أو أي آية، فهذا لابدّ لكل إنسان منه))[أنواع العلوم، ص30)] وهي رسالة صغيرة مطبوعة، وقال من أشرف على طباعتها: اعتمدنا في طبعنا لهذه الرسالة على "رسائل ابن حزم" تحقيق الأستاذ: إحسان عباس 3/161].
القسم الثاني: العلم الواجب الكفائي، وهو العلم الذي إذا قام به البعض - ممن تحصل بهم الكفاية- سقط الوجوب عن الآخرين.
ويدخل في هذا القدر حفظ ما زاد عن القدر الواجب عيناً من حفظ القرآن، وأفضل ذلك حفظ القرآن العظيم كاملاً بضبط وإتقان.
وهذا القسم هو الذي يميّز طالب العلم عن غيره، إذْ أن العامة يكتفون بالواجب عليهم ويتركون ما وراء ذلك، لما فيه من المشقة والجهد. وقد قيل: لولا المشقة ساد الناس كلُّهم...
وسائل التعلم:
(الحفظ، والفهم، والعمل).
1) الحفظ:
بقدر ما يحرص الطالب على الحفظ، يعظم قدره في النفوس، ولذلك قيل: احفظْ فكل حافظ إمام. وأشرفُ محفوظٍ كتابُ اللهِ، ولهذا كان صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - يعظّمون الحافظ لسورتي البقرة وآل عمران، فكيف بحافظ القرآن كاملاً! قال أنس - رضي الله عنه -: (كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ في أعيننا)، وكانوا يتنادون في يوم اليمامة: (يا أصحاب سورة البقرة) حتى فتح الله عليهم رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين[تفسير ابن كثير 1/47].
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "من تعلّم القرآن عظمت قيمته" [صفة الصفوة لابن الجوزي 2/151].
والحفظ يعسر على طالب العلم في البداية، لكن مع الدوام والاستمرار يسهل شيئاً فشيئاً، والأصل في هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما العلم بالتعلم))[أخرجه الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله عنه، انظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم (342) وصحيح الجامع برقم (2328)]، بل مع الاستمرار قد يصل الطالب إلى مرحلة ما إذا سمع شيئاً أو قرأه حفظه وأثبته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وحافظة الإنسان مثل الضرع، يَدرُّ بالامتراء ويخفُّ بالترك والإهمال.
2) الفهم:
المقصود من كلام الله -عز وجل- فهم معانيه والعمل به، وليس تلاوته وحفظه على أنه مجرد ألفاظ وقوالب لا معاني لها، قال ابن تيمية - رحمه الله -: "العادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم - كالطب والحساب - ولا يستشرحوه[أي: يطلبوا شرحه وتعلمه]، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟!" [مجموعة الفتاوى لابن تيمية/ اعتنى بها أنور الجزار وعامر الباز 7/177].
ويقول أيضاً: "بل تعلم معانيه - أي القرآن - هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد في الإيمان"[مجموعة الفتاوى 7/217].
ومعاني القرآن متفاوتة من حيث الوضوح والغموض على طالب العلم، ولا يصح أن نقول إن جميع معاني القرآن غامضة وغير مفهومة، وذلك أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، يفهم معانيه الإنسان العربي رغم العامية التي طرأت على الألسن، قال الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - في معرض حديثه على لسان أهل الجزيرة العربية -: "واعتبرْ في الحال الحاضرة - على الرُّغم من لوثة العجمة، وهجنة العامية - فإنه لم يزل عندهم بقيّة صالحة في السليقة العربية، فإذا قرؤوا النص من كتاب أو سنة، فهموا المعنى المراد باطمئنان"[خصائص جزيرة العرب لبكر أبو زيد ص93-94]، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فمن ادّعى علمه فهو كاذب "[مجموعة الفتاوى 7/206].
وإذا أشكل على المرء معنىً من المعاني، فليرجع إلى كتب التفسير أو ليسأل أهل العلم، وشفاء العيِّ السؤال، قال - عز وجل -: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتُم لا تَعلَمُونَ).
فتحصيل العلم يكون بالحفظ والفهم، ولا يغني أحدهما عن الآخر.
3) العمل به:
من وسائل حفظ العلم وضبطه العمل به، قال الشعبي ووكيع بن الجراح - رحمهم الله -: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به" [جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر/ تحقيق أبي الأشبال الزهيري 1/709]. وإن من المجرّب - كما ذكر غير واحد - أنّ من حفظ آياتٍ ثم صلّى بها صلاة الليل وأعاد ذلك مرّات وكرّات، فإن ذلك يزيد الحفظ رسوخاً في ذهنه[معالم في طريق طلب العلم لعبدالعزيز السدحان، ص196].
وثمرة العلم العمل، وقد كان السلف يتعلمون ليعملوا لا ليستكثروا من المعارف والعلوم، قال أبو عبدالرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً[مجموعة الفتاوى 7/177].
قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "لو اعتصم رجل بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب كان غاوياً"[مجموعة الفتاوى 11/540].
التدرج في طلب العلم:
التدرج في الطلب أصل مهم، ومنهجية سلفية ينبغي مراعاتها وعدم تجاوزها، فعن يونس بن يزيد قال: قال لي ابن شهاب: "يا يونس لا تكابر العلم، فإن العلم أودية فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه ولكن خذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الليالي والأيام"[جامع بيان العلم وفضله 1/431].
وقال ابن عبدالبر - رحمه الله -: "طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعدّيها، ومن تعداها جملة فقد تعدّى سبيل السلف - رحمهم الله -، ومن تعدّى سبيلهم عامداً ضلّ، ومن تعدّاه مجتهداً زلّ"[جامع بيان العلم وفضله 2/1129].
وتالله؛ ما امتاز المتأخرون عن المتقدّمين إلا بالتكلّف والاشتغال بالأطراف، التي كانت همة القوم مراعاة أصولها، وضبط قواعدها، وشدّ معاقدها، وهممهم مشمّرة إلى المطالب العالية في كل شيء. فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن! و(قد جعل الله لكل شيء قدراً)[مدارج السالكين 1/131].
وإذا تعلّم طالب العلم ما وجب عليه عيناً، فإن أولَ ما يبدأ به مشوارَه العلمي بعد ذلك؛ حفظُ القرآنِ العظيمِ وضبطُه، لأنه أصلُ العلومِ وأشرفُها، وسائرُ علومِ الشريعةِ تفيءُ إليه.
وهذه المنهجية مسطورة في كتب العلم ومحفوظة، فهي ليست وليدة اليوم، بل هي منهجية متوارثة قدمها السابقون لللاحقين، فلا ينبغي تعديها أو العدول عنها، ولا يليق بطالب علم يحوي في صدره أنواع الأبواب ومختلف المسائل، وهو لا يحفظ القرآن.
قال ابن عبدالبر - رحمه الله -: "القرآن أصل العلم، فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان ذلك له عوناً كبيراً على مراده منه. ومن سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..." الخ[جامع بيان العلم وفضله 2/1130].
وقال أيضاً: "أول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه، ولا أقول إن حفظه كله فرض؛ ولكني أقول إن ذلك شرط لازم على من أحبّ أن يكون عالماً فقيهاً ناصباً نفسه للعلم، ليس من باب الفرض"[جامع بيان العلم وفضله 2/1129].
وقال الخطيب البغدادي - رحمه الله -: "ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل، إذ كان أجلَّ العلوم، وأولاها بالسبق والتقديم" [الجامع لآداب الراوي والسامع؛ نقلاً من كتاب: من هدي السلف في طلب العلم للشيخ محمد بن مطر الزهراني، ص62].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدّم على كثير مما تسميه الناس علماً وهو إما باطل أو قليل النفع.
وهو أيضاً مقدّم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين"[مجموعة الفتاوى12/35].
وقال ابن جماعة - رحمه الله -: "يبتدئ أولاً بكتاب الله فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمُّها وأهمّها" [تذكرة السامع والمتكلم؛ نقلاً من كتاب: من هدي السلف في طلب العلم ص62].
وقال الشيخ العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد - رحمه الله -: "وكان من رأي ابن العربي المالكي أن لا يخلط الطالب في التعليم بين علمين، وأن يقدم تعليم العربية والشعر والحساب، ثم ينتقل منه إلى القرآن.
لكن تعقّبه ابن خلدون بأن العوائد لا تساعد على هذا، وأن المقدَّم هو دراسة القرآن الكريم وحفظه).
ثم قال - رحمه الله - بعد ذلك: "وقد كان الطلب في قُطْرنا بعد مرحلة الكتاتيب والأخذ بحفظ القرآن يمر بمراحل ثلاث لدى المشايخ في دروس المساجد..." [حلية طالب العلم لبكر أبو زيد، ص27].
فانظر - رعاك الله - كيف كان القرآن مقدّماً على غيره.
وقال الشيخ المحدِّث عبدالعزيز بن أحمد الحميدي - حفظه الله -: "السلف - رحمهم الله - ما كانوا يبدءون بطلب أي نوع من أنواع العلم قبل أن يتمّوا حفظ كتاب الله - جل وعلا -...
إذ كيف يتجاوز كتاب الله عز وجل ثم يُبتغى بعد ذلك العلم ويطلب! وهو أصل العلوم، ومنبع الهدى، والآيات البينات التي أنزلها الله عز وجل وأودعها صدور أهل العلم: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ).
فعن قصدٍ وتخصيصٍ كان أئمة الهدى في القرون الماضية لا يتجاوزون أبداً حفظ كتاب الله قبل أن يتموه، ولا يسمحون أصلاً لطالب علم- من أبنائهم أو من طلابهم - أن يطلب حديثاً أو فقهاً أو تفسيراً وهو لـمّا يحفظ كتاب الله - تعالى -.
فهذه القضية مع أنها بدهية إلا أنها في جلّ طلاب العلم في هذا الزمن مهملة أو مهمشة أو تعطى حكماً ثانوياً ليس حكماً أصلياً[ليت بعضهم إذ أهملوها سكتوا، وكفوا ألسنتهم عن إخوانهم الذين بذلوا جهدهم، وفرّغوا جلّ وقتهم، من أجل حفظ كتاب الله وضبطه، بل شغّبوا عليهم مظهرين في ذلك النصح، ولكن؛ كم من مريد للخير لا يصيبه؟!].
ثم يقول بعد ذلك مؤكداً على هذه المسألة: (أول سمة في منهج طالب العلم على أصول قواعد أهل السنة حفظ كتاب الله - عز وجل -، لأن طالب العلم يُرجى منه في المستقبل أن يكون مفتياً ومعلماً وموجهاً وناصحاً وخطيباً ومذكّراً، فكيف يحسن ذلك وهو لا يحسن إيراد الآيات من كتاب الله؟ بل ربما لا يحسن تلاوتها على الوجه الصحيح!
هذا خلل كبير يجب أن يُتدارك، ولو أوقف طالب العلم من أجله كل برامجه العلمية! يجب أن يتدارك ولو على كِبَر[ذُكِرَ في [طبقات الشافعية 8/16] عند ترجمة أحمد بن الخليل بن سعادة البرمكي: أنه "كان فقيهاً أصولياً متكلماً مناظراً ديّناً ورعاً ذا همة عالية، حفظ القرآن على كبر، وكان وهو قاضي القضاة يجيء إلى الجامع بدمشق وربما كان بالطيلسان، يتلقن على من يقرئه القرآن كما يتلقن الأطفال".
قلت: إن أمثال هذه الهمم أصبحت مفقودة في زماننا إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
بل إنك تعجب من طلبة العلم الذين تتراوح أعمارهم من العشرين إلى الثلاثين ويقولون: قد مضى وقت الحفظ!! سبحان الله؛ طالب علم لا يحفظ!. العلم ما حوته الصدور لا ما خُطّ في السطور، ثم هل هناك علم أعظم من كتاب الله؟ أنسينا حديث: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه؟!)) أم أنها طغت علينا لوثة العجلة والفوضوية واللامنهجية في الطلب؟! لطفك اللهم][مادة صوتية مسجلة بعنوان: المنهجية في تلقي العلم لعبدالعزيز الحميدي].
ومما يدل على أن العلماء كانوا لا يسمحون لطالب العلم أن يبدأ بشيء وهو لم يحفظ كتاب الله - تعالى -: ما ذكره الذهبي في السير عن شيخ الحرم الإمام عبدالملك بن جريج - رحمه الله - قال: "أتيت عطاء - يعني ابن أبي رباح - وأنا أريد هذا الشأن، وعنده عبدالله بن عبيد بن عمير، فقال لي ابن عمير: قرأتَ القرآن؟ قلت: لا. قال: اذهب فاقرأه، ثم اطلب العلم. فغبّرت زماناً حتى قرأت القرآن"[سير أعلام النبلاء للذهبي 6/327].
وعن أبي العيناء - رحمه الله - قال: "أتيت عبدالله بن داود - الخريبي - فقال: ما جاء بك؟ قلت: الحديث. قال: اذهب فتحفَّظ القرآن. قلت: قد حفظتُ القرآن. قال: اقرأ (وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ)(يونس: 71)، فقرأت العُشر حتى أنفذته"[سير أعلام النبلاء 9/351].
وقال الإمام عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي - رحمه الله -: "لم يدعني أبي أشتغل في الحديث، حتى قرأت القرآن على الفضل بن شاذان الرازي، ثم كتبت الحديث" [سير أعلام النبلاء 13/265].
وفي ترجمة الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة - رحمه الله -، يقول حفيده محمد بن الفضل بن محمد - رحمه الله -: "سمعت جدي يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة، فقال اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك. فاستظهرتُ القرآن. فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت. فلما عيّدنا، أَذِن لي. فخرجت إلى مرو، وسمعت بمرو والروذ من محمد بن هشام صاحب هشيم، فنُعي إلينا قتيبة"[سير أعلام النبلاء 14/371-372].
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "ولقد أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع تلاميذ هؤلاء، أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولم يحفظ القرآن، فقال: لو حفظت القرآن أولاً كان أَوْلى، فقال: وهل في القرآن علم؟!"[الفوائد لابن القيم ص110].
الشاهد من هذا نصيحته لهذا الطالب بقوله: لو حفظت القرآن أولاً كان أوْلى.
وذَكَرَ الشيخ محمد بن قاسم - رحمه الله - أنه عندما أراد في أول عمره مساعدة والده الشيخ عبدالرحمن بن قاسم - رحمه الله - في جمع وترتيب فتاوى ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية اشترط عليه أن يُتمّ حفظ القرآن أوّلاً. قال: فأتممت حفظ القرآن كاملاً في ستة أشهر، وبدأت في مساعدته في إنجاز هذا المجموع العظيم[ورثة الأنبياء لعبدالملك القاسم، ص14].
ولقد أحسن صالح بن عبد القدوس حيث يقول:
يا أيها الدارس علماً *** لن تبلغ الفرع الذي رمته
ألا تلتمس العون على درسه *** إلا ببحث منك على أسّه [جامع بيان العلم وفضله 2/1140].
ومن قرأ في تراجم علماء الأمة المتقدمين منهم والمتأخرين، فسيجد أن حرصهم على حفظ القرآن وضبطه، سمةٌ رئيسةٌ، ومعْلمٌ بارزٌ، في أول مراحل الطلب:
قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله -: "حفظتُ القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظتُ الموطأ وأنا ابن عشر سنين) ويقول: (كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلمّا ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء"[صفة الصفوة 2/148، وجامع بيان العلم وفضله 2/1134].
وذُكِر في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه (ختم القرآن صغيراً، ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية حتى برع في ذلك)[الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لمرعي الكرمي].
وذَكر السخاوي في [الضوء اللامع 2/36)] عند ترجمة الإمام ابن حجر - رحمه الله - أنه حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين عند الصدر السقطي شارح مختصر التبريزي [نقلاً عن صلاح الأمة في علو الهمة 1/549 للعفاني].
والإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - (استظهر القرآن قبل بلوغه العشر)[الشيخ محمد بن عبدالوهاب؛ عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية لأحمد بن حجر آل بو طامي، ص15].
والشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي أتمّ حفظ القرآن في سن العاشرة، ثم بعد ذلك واصل طلب العلم؛ فتعلم رسم المصحف العثماني والتجويد وأخذ بذلك سنداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ودرس بعض المختصرات في الفقه... [ترجمة الشيخ العلامة المفسر الأصولي محمد الأمين الشنقيطيٍ/ مطبوعة ضمن آثار الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي 1/20].
والشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - (حفظ القرآن في الحادية عشرة، وقيل: في السادسة عشرة... ثم واصل بعد ذلك طلبه للعلم في مختلف الفنون)[الهمة العالية لمحمد الحمد ص302].
والشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - حفظ القرآن قبل البلوغ، ثم بدأ في تلقي العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض[جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز لمحمد الحمد].
والشيخ حمود العقلا - رحمه الله - حفظ القرآن وعمره ثلاثة عشر عاماً، وذلك في عام 1359هـ، ثم بعد ذلك بسنتين ضبط الحفظ والتجويد، ثم في عام 1367هـ رحل للرياض لطلب العلم[ترجمة الشيخ حمود العقلا، لعبدالرحمن بن محمد الهرفي].
والشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - (قرأ القرآن الكريم على جده من جهة أمه عبدالرحمن بن سليمان بن آل دامغ - رحمه الله - فحفظه، ثم اتجه إلى طلب العلم)[ترجمة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، كتبها فهد بن ناصر السليمان في كتاب شرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين ص13].
ومثل هذه الصور ما ورد عن كثير من السلف أنهم يختمون القرآن في صلاة الليل كل ثلاث ليالٍ، أو أقلّ أو أكثر، ولم تكن عندهم المصاحف الصغيرة التي انتشرت في زماننا وتفننت المطابع في طباعتها، حتى آل الأمر بكثير من الأئمة في صلاة التراويح أنهم يقرؤون نظراً من هذه المصاحف لا حفظاً من صدورهم، وإلى الله المشتكى.
ومن صور الضبط والإتقان عند السلف:
قال مجاهد: "صليت خلف مسلمة بن مخلد فقرأ سورة البقرة فما ترك واواً ولا ألفاً" [سير أعلام النبلاء 3/425].
وقال أبو بكر بن عياش - رحمه الله -: "كان الأعمش يعرض القرآن، فيمسكون عليه المصاحف فلا يخطىء في حرف"[سير أعلام النبلاء 6/235].
فعلينا أن نقتفي آثار من سلف، وهذه هي بداية طريقهم في طلب العلم، وكل من سار على الدرب وصل.
شمّرْ وَجِدَّ لأمرٍ أنتَ طَالبُهُ. *** إذ لا تُنال المعَالي قطُّ بِالكَسلِ
أسأل اللهَ الكريم المنان أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين