تحذير أهل الطاعة من الهذيان المثبِّط عن صلاة الجماعة
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
وبعد، ففي أوائل عام 1430هـ كتبت رسالة طُبعت بعنوان: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أسباب قيام الدولة السعودية وبقائها))، ذكرت فيها اثني عشر دليلاً على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظم شأنهما، وأنه لهذه الأهمية العظيمة قام الملك عبد العزيز رحمه الله مؤسس المملكة العربية السعودية قبل مائة عام بإنشاء هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــ وذلك من أجلِّ أعماله وأعظم حسناته ــ تحقيقاً لقول الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104]، وأن ابن كثير رحمه الله قال في تفسير هذه الآية: ((يقول تعالى: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))، وقال: ((والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه))، ثم ذكر حديث درجات تغيير المنكر، وأيضاً لما في ذلك من حفظ الله لهذه البلاد من الشرور؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله يحفظك))، ولأن ذلك من أعظم أسباب حصول النصر من الله والتمكين في الأرض، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد : 7]، وقال: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج : 40 - 41]
وأنه منذ إنشاء تلك الهيئات استمرت مؤسسة من مؤسسات الدولة في عهده رحمه الله وعهود أبنائه الذين وَلُوا الأمر من بعده، وهي من الميزات التي تميزت بها هذه البلاد على غيرها من البلاد الأخرى التي لا توجد فيها مثل هذه المؤسسة، وقد حصل بسببها خير عظيم ومنافع، واندفع بها شرور كثيرة، وأنه قد جاء في المادة (23) من النظام الأساسي للحكم الذي صدر أخيراً في عهد الملك فهد رحمه الله: ((تحمي الدولة عقيدة الإسلام وتطبق شريعته وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتقوم بواجب الدعوة إلى الله)).
وأنه مع عظم شأن هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه البلاد وعموم نفعها واهتمام ولاة الأمر بها، فقد وجد من بعض الكتَّاب من ينال منها ويتصيد أخطاءها ويقلل من شأنها، وأن من متبعي الشهوات من يتمنى أن يكون للهيئات تنظيم يقص أجنحتها ويشل حركتها ويحدُّ من نشاطها لتكون اسماً بدون مسمى وجسداً بلا روح، يكون المعروف فيه ما أُجمع على أنه معروف، والمنكر ما أُجمع على أنه منكر، يتسنَّى فيه لمن يهوى الانفلات واتباع الشهوات أن يقول مثلاً: إن كشف وجه المرأة واختلاطها بالرجال جائز، وإن حضور صلاة الجماعة في المساجد ليس بلازم، وإن في إغلاق الحوانيت لأداء صلاة الجماعة شلاًّ للحركة الاقتصادية ـ وقد قيل ذلك من قبل في بعض الصحف ـ بدعوى أن في ذلك خلافاً، فينتقي متبعو الشهوات ما يناسب نفوسهم الأمارة بالسوء، والواجب عند الخلاف التعويل على ما يؤيده الدليل لا الأخذ بما تشتهي النفوس وتميل إليه،ثم نقلت عن عشرة من العلماء نقولاً في ذلك، منها قول سليمان التيمي: ((إذا أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله))، وقول ابن عبد البر تعليقاً عليه: ((هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً))، ثم ذكرت بعض الأدلة على وجوب الحجاب وتحريم الاختلاط، وكتبت في ذلك أيضاً رسالة بعنوان: ((وجوب تغطية المرأة وجهها وتحريم اختلاطها بغير محارمها)) طُبعت في عام 1430هـ، وكتبت كلمة نشرت في 24/2/1431هـ بعنوان: ((دعاة التغريب ومصطلحهم ((التعددية)) و((الأحادية)) لانتقاء ما يوافق أهواءهم))، وأما صلاة الجماعة فقد أوردت تسعة أدلة على وجوب أدائها في المساجد وعدم التخلف عنها، وهي:
(1): قول الله عز وجل: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُم ْ ... } الآية. [النساء : 102]
ففي هذه الآية أوضح دليل على وجوب صلاة الجماعة؛ لأنها لم تسقط حتى في حال الخوف، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه آداب المشي إلى الصلاة: ((وهي واجبة على الأعيان حضراً وسفراً حتى في خوف؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } الآية))، وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان (1/420): ((تنبيهان:
الأول: آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة؛ لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم، إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف؛ لأنه عذر ظاهر.
الثاني: لا تختص صلاة الخوف بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل مشروعيتها باقية إلى يوم القيامة، والاستدلال على خصوصها به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } الآية استدلال ساقط، وقد أجمع الصحابة وجميع المسلمين على رد مثله في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية، واشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير: بيِّن لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره)).
ثم ذكر أن أربعة شذُّوا في ذلك وقالوا: إن صلاة الخوف لم تشرع بعده صلى الله عليه وسلم واحتجوا بمفهوم الشرط في قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ } الآية، ثم قال: ((ورُدَّ عليهم بإجماع الصحابة عليها بعده صلى الله عليه وسلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (صلّوا كما رأيتموني أصلي)، وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم)).
وأحد هؤلاء الأربعة الذين شذوا في هذه المسألة إبراهيم بن إسماعيل بن علية، قال فيه الذهبي في الميزان (1/20): ((جهمي هالك، كان يناظر ويقول بخلق القرآن)).
ومن أمثلة فعل الصحابة رضي الله عنهم صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء في سنن أبي داود (1246) والنسائي (1530) ـ واللفظ له ـ بإسناد صحيح عن ثعلبة بن زهدم قال: ((كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فقام حذيفة فصف الناس خلفه صفين: صفاً خلفه، وصفاً موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا))، وهذه الصفة إحدى صفات صلاة الخوف الست التي جاءت في أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوردتها في شرحي كتاب آداب المشي إلى الصلاة المطبوع ضمن مجموع كتبي ورسائلي (5/246).
(2): قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة : 43]، ففي قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } الأمر بإقام الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وفي قوله: { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} الأمر بأدائها جماعة، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية من سورة البقرة: ((وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة))، وقال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنّة (7/273): ((وقيل: المراد به الصلاة في الجماعة؛ لأن الركعة لا تدرك إلا بإدراك الركوع)).
(3): قوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده! لقد هممت أن آمر بحطب ليُحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)) رواه البخاري (644) ومسلم (1481) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أورده البخاري في (باب وجوب صلاة الجماعة)، وأورد في الباب أثراً معلقاً عن الحسن قال: ((إن منَعَتْه أمُّه عن العشاء في الجماعة شفقة عليه لم يُطعْها))، قال الحافظ ابن حجر في شرحه (2/125): ((ولم ينبه أحد من الشراح على وصل أثر الحسن، وقد وجدته بمعناه وأتم منه وأصرح في كتاب الصيام للحسين بن الحسن المروزي بإسناد صحيح عن الحسن في رجل يصوم ـ يعني تطوعاً ـ فتأمره أمه أن يفطر، قال: فليفطر ولا قضاء عليه وله أجر الصوم وأجر البر، قيل: فتنهاه أن يصلي العشاء في جماعة، قال: ليس ذلك لها؛ هذه فريضة)).
والعَرْق في الحديث العظم عليه بقية اللحم، والمرماتان ما بين ظِلفي الشاة من اللحم، والمعنى: أن المنافقين الذين يتخلفون عن الجماعة يزهدون في الثواب العظيم في صلاة الجماعة، ويحرصون على متاع الدنيا ولو كان شيئاً يسيراً، فهم لا يشهدون الجماعة ولو علموا أن لحماً يسيراً في المسجد في وقت صلاة العشاء لشهدوها؛ لأن همهم الدنيا دون الآخرة.
(4): قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) رواه البخاري (657) ومسلم (1482) عن أبي هريرة رضي الله عنه، والمعنى: أن الصلوات في الجماعة ثقيلة على المنافقين، ولكن العشاء والفجر أثقلها؛ لأن العشاء تقع في أول الليل بعد التعب والكدح في النهار، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبلها والحديث بعدها، رواه البخاري (568) ومسلم (1463) عن أبي برزة رضي الله عنه، والنوم قبل صلاة العشاء سبب في فواتها، والحديث بعدها قد يمتد فيكون سبباً في فوات الفجر، ولأن صلاة الفجر تقع في الوقت الذي يطيب فيه الفراش ويُتلذّذ فيه بالنوم، ولهذا جاء في أذانها: الصلاة خير من النوم، والمعنى: أن ما تُدعون إليه ـ وهو الصلاة ـ خير من النوم الذي أنتم متلذّذون فيه.
(5): حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فقال: شاهد فلان؟ فقالوا: لا، فقال: شاهد فلان؟ فقالوا: لا، فقال: شاهد فلان؟ فقالوا: لا، فقال: إن هاتين الصلاتين من أثقل الصلوات على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً)) الحديث، رواه أحمد (21265) والدارمي (1273) وأبو داود (554) بإسناد حسن.
(6): حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له، فلما ولَّى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم، قال: فأجب)) رواه مسلم (1486)، وروى أبو داود (552) بإسناد صحيح عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله! إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: لا أجد لك رخصة)).
ففي هذين الحديثين دلالة واضحة على وجوب صلاة الجماعة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في التخلف عنها لرجل أعمى، فمن باب أولى من يكون صحيحاً معافى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) رواه البخاري (6412) عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو أول حديث عنده في كتاب الرقاق.
(7): قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)) رواه ابن ماجه (793) عن ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك (1/245) وقال: ((صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)) ووافقه الذهبي.
والحديث يدل على تأكد وجوب صلاة الجماعة على الأعيان.
(8): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((مَن سرَّه أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سُنَّة نبيكم، ولو تركتم سُنَّة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف)) رواه مسلم (1488).
والحديث يدل على أن المحافظة على الصلوات الخمس في المساجد من أسباب لُقيِّ الله مسلماً والخروج من الدنيا على نهاية حسنة كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 102] ، ويدل على أن في التخلف عن صلاة الجماعة في المساجد وأدائها في البيوت تركاً لسنّة النبي صلى الله عليه سلم وأن ذلك من الضلال، ويدل على بيان عظم الأجر والثواب للمصلين في المساجد، ويدل على أن من علامات النفاق عند الصحابة رضي الله عنهم التخلف عن صلاة الجماعة، ويدل على أن الصحابة رضي الله عنهم يحافظون على الصلوات في المساجد ولو كانوا في شدة المرض لما يعلمونه من عظيم الأجر والثواب في صلاة الجماعة مع أنهم معذورون لو تخلفوا عنها، وهذا بخلاف المنافقين الذين قال النبي صلى الله عليه سلم عن تخلفهم عن صلاتي العشاء والفجر: ((ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً)).
(9): قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء الآخرة والصبح أسأنا به الظن)) رواه الحاكم في المستدرك (1/211) وقال: ((صحيح على شرطهما)) ووافقه الذهبي.
ومعنى قوله: ((أسأنا به الظن)) أي: اتهمناه بالنفاق، كما بيَّن ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله المتقدّم: ((ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق))، وقوله: ((ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنّة نبيكم، ولو تركتم سنّة نبيكم لضللتم)).
فهذه جملة من الأدلة على وجوب صلاة الجماعة، وأما قوله صلى الله عليه سلم: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) رواه البخاري (645) ومسلم (1477) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقوله صلى الله عليه سلم: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً)) رواه البخاري (648) ومسلم (1472) عن أبي هريرة رضي الله عنه، فإنه يدل على أن من صلّى وحده صحّت صلاته وفاته أجر عظيم وسلم من أن يكون تاركاً للصلاة، ولكنه يكون آثماً لعدم أدائها جماعة؛ لدلالة النصوص المتقدّمة على ذلك.
ولا يسوغ لأحد من متبعي الشهوات التهوين من شأن صلاة الجماعة بدعوى أن في المسألة خلافاً؛ لأن الأدلة المذكورة واضحة الدلالة على وجوبها على الأعيان؛ وذلك للزومها على جميع أفراد الجيش حال الخوف، وهمِّ الرسول صلى الله عليه سلم بتحريق البيوت على أهلها المتخلفين عن الجماعة في الوقت الذي تؤدَّى فيه الجماعة في المسجد ولو أدَّوها جماعة في البيوت، ووصف المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنفاق والضلال، وعدم ترخيص النبي صلى الله عليه سلم للرجل الأعمى بالصلاة في بيته، وكون سامع النداء إذا لم يُجب لا صلاة له إلا من عذر، وكون علامة النفاق عند الصحابة رضي الله عنهم التخلف عن صلاة الجماعة.
ودلَّ قول الله: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ َ} [العنكبوت : 45]، على أن المحافظة عليها لاسيما في الجماعة سبب للسلامة من الوقوع في الفحشاء والمنكر، وقد جاء في القرآن الكريم التلازم بين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات، قال الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم : 59]، فلا يجوز لمسلم يرجو ثواب الله ويخشى عقابه أن يتهاون في الصلاة وأدائها جماعة أو يهوِّن من أمر صلاة الجماعة، كما فعل ذلك بعض الكُتَّاب في بعض الصحف.
وهاتان المسألتان اللتان مثلت بهما لانتقاء هواة الانفلات ما يوافق أهواءهم، وهما تهوين شأن السفور واختلاط النساء بالرجال، وتهوين شأن صلاة الجماعة كانت الكتابة عن هذا التهوين من التغريبيين ومن كان على شاكلتهم من الصحفيين، ثم حصل في أواخر العام الماضي (1430هـ) إقدام اثنين من المتكلفين ممن ينتسب إلى العلم الشرعي على الكتابة في الصحف في مسألة السفور والاختلاط رددت على الأول منهما بكلمة بعنوان: ((لماذا النشاط المحموم في تأييد اختلاط الجنسين في بلاد الحرمين؟!)) نشرت في 18/11/1430هـ، وعلى الثاني بكلمة بعنوان: ((أسوأ هذيان ظهر حتى الآن في فتنة اختلاط الجنسين في بلاد الحرمين)) نشرت في 10/1/1431هـ، وجاء بعدهما ثالث كتب في الموضوع في أول هذا العام رددت عليه بكلمة نشرت في 20/1/1431هـ بعنوان: ((وأخيراً وصلوا في استنطاقهم لتأييد اختلاط الجنسين إلى مؤسسة دينية ثالثة!)).
يتبع