من جُملة الأساليب التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في توجيه أصحابه، أن جعل للألفاظ المتداولة معاني جديدةً، أو لفتَ النظر إلى معانٍ خفية لم يكن يُفطن إليها.
ونذكر في هذا الفصل نماذج من ذلك:
1 - الغنى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»[1].
حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوَّم الإنسان في المجتمع الإسلامي من خلال أخلاقه وسلوكه، لا من خلال انتفاخ جيوبه وكثرة أمواله.
وهذا هو الميزان الحق الذي ينبغي أن يقوم به الإنسان: ميزان الفضائل والقيام.
والحديث السابق تقرير لهذا المعنى.
ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك، بل ضرب لأصحابه مثلًا من واقعهم الذي يعيشونه فعن سهل بن سعد قال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»[2].
أراد صلى الله عليه وسلم، أن يبين لهم الخطأ في تقويم الناس من خلال أموالهم، ولفت نظرهم إلى الطريقة الحقة، وهي النظر إلى دين الإنسان وخلقه.
فليس المقياس هو الفقر والغنى، فقد يكون الغني صالحًا فاضلًا، ويكون الفقير سيئًا، وقد يكون العكس..
2 - الإفلاس:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: «إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»[3].
أجل، ذلك هو الإفلاس.
3 - القوة:
عندما نذكر القوة، يتبادر للذهن: الأجسام الضخمة والعضلات المفتولة، والبنية القوية.. وتلك ولا شك قوة.
ولكنه صلى الله عليه وسلم، أراد أن يلفت نظر أصحابه إلى معنى آخر من معاني القوة، وهو معنى أدق وأحق بأن يحمل أحرف هذه اللفظة فقال لأصحابه: «ما تعدون الصُّرَعة فيكم؟» قالوا: الذي لا يصرعه الرجال. قال: «ليس بذلك: ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب»[4].
إن التحكم بالنفس وضبطها في حالة هيجان الغضب، هو القوة فعلًا.
وهذا أمر مشاهد، فقليل جدًا أولئك الذين يستطيعون ضبط أنفسهم في هذه الحالة، وهم أهل لأن يوصف الواحد منهم بالصُّرَعة.
4 - بقيت إلا الكتف.
عن عائشة رضي الله عنها: أن شاة ذبحت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزع منها على الجيران والفقراء.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عنها فقال: «ما بقي منها؟» قالت: ما بقي منها إلا كتفها. فقال صلى الله عليه وسلم: «بقي كلها غير كتفها»[5].
إن الباقي حقيقة هو ما ادخر عند الله تعالى من أجر وثواب. وهكذا، وبهذا المعنى بقيت الشاة كلها غير كتفها.
5 - مال الوارث:
عن عبدالله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟».
قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: «فإن ماله ما قدَّم، ومال وارثه ما أخر»[6].
يجمع الإنسان المال طول حياته، ثم يموت ويتركه، فالذي تركه هو مال الوارث.
وإذن فمال الإنسان هو الذي يقدمه أمامه مدخرًا له عند الله تعالى أما ما حرص على عدم التصرف فيه وتركه حتى جاءه الموت، فهو مال وارثه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يلفت النظر إلى أن أكثر الناس يكون مال وارثهم أحب إليهم، بمعنى أنهم يدخرون المال ولا ينفقون منه حتى يكون للوارث.
وهذا ما أوضحه حديث أبي هريرة حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول العبد: مالي، مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى. أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس»[7].
_________________
[1] متفق عليه (خ 6446، م 1051).
[2] أخرجه البخاري برقم (5091).
[3] أخرجه مسلم برقم (2581).
[4] أخرجه مسلم برقم (2608).
[5] أخرجه الترمذي برقم (2470).
[6] أخرجه البخاري برقم (6442).
[7] أخرجه مسلم برقم (2959).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/133856/#ixzz5lXMrvF7j