صائمون لكن متناقضون


د. محمد ضاوي العصيمي




هناك صفة أشار إليها القرآن في مواضع كثيرة، وقبح أهلها، وذمهم ومقتهم بها قال الله -تعالى-: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}؛ فهذه الآية جاءت في بعض المتناقضين من اليهود الذين كانوا يتورعون عن غش الناس، ويأمرونهم بالبر والطاعة، بينما هم واقعون في أعظم صور التناقض المتمثلة في عدم إيمانهم برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم .

جاء رجل إلى ابن عباس وهو يستأذنه في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فقال له -رضي الله عنهما-: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات فافعل، قال: وما هن؟ قال: الأولى قوله -تعالى-: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}، قال: أحكمت هذه؟ (أي عملت بها بما جاء فيها)، فقال الرجل «لا»، والثانية قوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} «قال: أحكمت هذه؟ قال الرجل «لا»، الثالثة قول العبد الصالح شعيب -عليه السلام- {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح} أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك.
خبر أحد المتناقضين
وقد ذكر لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - خبر أحد المتناقضين وهو ذلك الرجل المتزين بلباس الشرع والمتظاهر بمظهر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، كما جاء في حديث أسامة في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار؛ فتندلق به أقتابه؛ فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه؛ فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان، ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه»، فهذا مثال ظاهر لما قد يؤديه التناقض بصاحبه.
صور التناقض
وإن المتأمل لأحوال الناس في هذا الزمن يرى أنواع التناقض ظاهرة وكثيرة من أي زمن مضى، وحسبي أن أذكر بعضا من أنواع التناقض المتمثلة في تصرفات بعض الصائمين والصائمات حتى نتجنب مشابهتهم والاقتداء بهم.
الصيام رياء
فمن المتناقضين ذلك الرجل وتلك المرأة اللذان يصومان رمضان رياء، أو يقومان لياليه طلبا للمدح والثناء، ويفعلان الخير مراعاة لنظر الخلق، فمثل هؤلاء لم يقدروا الله حق قدره، ومثل هؤلاء قد أتعبوا أنفسهم، وأهلكوا أبدانهم وفوق هذا ليس لهم عند الله أجر ولا نصيب قال -تعالى- في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» رواه مسلم عن أبي هريرة.
التصرف بخلاف المعرفة
ومن المتناقضين كذلك ذاك المرء الذي يدعي معرفة الخير وطرقه، ولكنه يتصرف بما يخالف هذه المعرفة، فتجده يعرف فضل قراءة القرآن ولم يكلف نفسه النظر في المصحف، ويعرف فضل الصدقة فتجده من أشح الناس وأبخلهم على الفقراء والمحتاجين، ويعرف فضل قيام الليل وفضل العشر الأواخر لكنه لم يبذل أسباب القيام والصلاة؛ فهذا لم يواطئ قوله فعله، ويصدق فيه قوله -تعالى-: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}.
الإفطار المتعمد في نهار رمضان
ومن التناقض أيضا ما نراه من بعض من يفطر في هذا الشهر مع معرفته وعمله بتحريم ذلك، وأنه من كبائر الذنوب كما قال الإمام أحمد: «من أفطر متعمدا في نهار رمضان ولا عذر له فهو عندنا شر من الزاني والسارق وشارب الخمر»، ومن قبيح فعل هؤلاء هو جرأتهم على الفطر استهتارا، واستهزاء ومجاراة لأحوال الفساق.
عدم الصلاة
ومن المتناقضين ذاك الذي يصوم ولكنه لا يصلي؛ فهذا من أعظم أنواع التناقض الظاهرة في شهر الصيام، فترك الصلاة كفر بالله تعالى على الصحيح من قول العلماء، فكيف ينفع مع الكفر صيام؟ فمثل هذا يقال له: «أتعبت نفسك وأجهدتها بترك الأكل والشرب، واعلم أنه ليس لك عند الله أجر ولا نصيب».
إطلاق العنان للجوارح
من أنواع التناقض الظاهرة تجويع بعض الناس لنفسه، ومنعها من الأكل والشرب مع إطلاق العنان لسائر الجوارح؛ فتجده لا يتورع عن غيبة المسلمين وتتبع عوراتهم، وعن الكذب والسب والشتم، وليعلم أن الجوع والعطش لم يكن مقصود الصيام يوما؛ فالله غني عن تجويع بطوننا وظمأ أفواهنا، قال جابر: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار يوم صومك، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء».
مشاهدة الحرام
ومن التناقض كذلك أنك تجد كثيرا من الداعين في قنوت الوتر يسألون الله ويلحون عليه، ويدعونه بقولهم: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك» وبعد أقل من ساعة، تجده وقد انصرف إلى الحرام يشاهد النساء في الفضائيات، وفيها ما فيها من خلاعة ومجون، ومسلسلات فيها من القصص التي تيسر فعل المعصية والشذوذ والزنا والاستهزاء بأهل التدين، وغيرها مما تعف الألسن عن ذكرها أليس هذا من التناقض؟
التململ من صلاة التراويح
ومن أنواع التناقض كذلك أن بعض الناس تجده في أمر قليل وحقير من أمور الدنيا يقف الساعات وينتظر الأيام دون كلل أو ملل، بينما تجده وقد ظهرت عليه علامات الضجر والتأفف والملل في صلاة التراويح أوفى صلاة التهجد، يود لو أن الإمام اكتفى بقراءة آية أو آيتين أو ركعة أو ركعتين، وليته استشعر أنه يقف بين يدي أعظم من وقفت له الخلائق، وأجل من ناجاه صفوة الأنبياء والملائكة وهو (الله) جل في علاه.
تضييع أوامر الله بعد رمضان

ومن التناقض أيضا: ذاك الصائم الذي حرص على ألا يخدش صومه أثناء النهار بقول أو فعل، وتلك المرأة المتبرجة التي تورعت عن كثير من المحرمات من تبرج وسفور من وضع الأصباغ وتعريض المسلمين للافتتان بها، إلى هنا وكل هذا حسن لكن يتجلى التناقض عند مثل هؤلاء أنهم سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من تضييع لحدود الله وحرماته بعد الإفطار، فالمتبرجة عادت إلى تبرجها، والمعرض إلى إعراضه ومثل هؤلاء ظنوا أن الله إنما أمر بطاعته واجتناب معصيته زمن الصيام ليس إلا! وقد ذكر العلماء أن من أسباب رد الحسنة وعدم قبولها اتباعها بالسيئة، قال بعض السلف: من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها، وقال كعب: من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر عصى ربه فصيامه عليه مردود، قال -تعالى-: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}.