رسالة في حكم علاج السحر بسحر مثله
عبد الرحمن بن حسن النفيسه



تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد:
ففي هذا العصر الذي تتكاثر فيه الفتن، وتتزاحم فيه المحن، تواجه أمة المسلمين سيلاً من الشبهات، وأنماطاً شتى من المقولات، يراد منها إلهاؤها عن مشكلاتها، وصرفها عن تنميتها، وإصلاح شئونها. كما يراد منها بذر الاختلاف والشقاق بين أطرها، والتصادم بين فئاتها، فتكون فريسة لمن يريد افتراسها، وضحية لمن يريد القضاء على مقوماتها، وأسس حضارتها.
وقد وحد المنظمون لهذه الفتن بغيتهم حين انساق قوم من هذه الأمة وراءهم؛ إما جهلاً وإما إعجاباً بهم فيصدقونهم فيما يقولون، ويزينون لهم ما يفعلون، فصاروا عوناً لهم فيما يبتغون؛ فهذا يقول جهاراً: إن العدو إذا غزا بلداً من بلاد المسلمين واحتلها وجب على أهلها أن يطيعوه ولا يعصوه؛ لأنه - كما يقول - يعد ولياً لأمرهم بعد أن تغلب عليهم، ثم يأتي بأدلة لا يصح أبداً الاستدلال بها.
وهذا آخر يقول لأمته: بأن عليها أن تسالم الطرف الآخر، حتى لو تعرض لنبيها بسوء؛ لأن المسالمة -كما يقول- مما يأمر به الإسلام. ثم تنعطف الفتن إلى مسائل أخرى، فهذا مفتٍ يجيز للمرأة المسلمة أن تتزوج من على غير دينها..وهذا مفت آخر يدعوها أن تنزع حجابها..وهذا آخر يرى أن الصوفية أحسن ما تركن إليها النفوس، وتسكن لها القلوب، وتنشرح لها الصدور، ويدعو الأمة إلى الانغماس في التلذذ بالأسرار والإشارات الصوفية، والإعراض عن شئون الأمة وآمالها وآلامها.
وفي قائمة الفتاوى من هذه الأنماط: تصاعدت الفتوى بجواز حل السحر بسحر مثله، بمعنى: أن من تعرض للسحر عليه أن يذهب إلى السحرة لعلاجه رغم ما هو معروف عما في هذا العلاج من الشرك والكفر بالله.. ومن المؤسف بل المؤلم حقاً أن هذه الفتن بكل ما فيها من التجاوز والأخطار لا توجه إلا إلى هذه الأمة من بين الأمم، والهدف سلبها إرادتها، والتعدي على عقيدتها وقيمها، والعبث بأخلاقها.
وحول مسألة علاج السحر بالسحر وردت إلى "مجلة البحوث الفقهية المعاصرة" عدة أسئلة من الإخوة القراء يسألون فيها عن هذه المسألة، والحكم الشرعي فيها، وبراءة للذمة نتعرض لهذه المسألة بإيجاز.
وينبغي أولاً تعريف السحر، وما ورد في الكتاب والسنة عن تحريمه، ثم معرفة ما إذا كان يجوز العلاج به.
أما تعريفه لغة: فقد ذكره الأزهري بقوله: "السحر عمل تُقُرِّبَ به إلى الشيطان وبمعونة منه، كل ذلك الأمر كينونة للسحر، ومن السحر الأخُذة تأخذ العين، حتى يظن أن الأمر كما يُرى، وليس الأصل على ما يُرى.." ثم قال: "وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته، قد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه".
أما في الاصطلاح: فقد عرفه البيضاوي في تفسيره بقوله: "والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يحصل إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس". وعرفه القليوبي بأنه: "مزاولة النفوس الخبيثة لأقوال أو أفعال، ينشأ عنها أمور خارقة للعادة". أما التهانوي فقال: "إن السحر تقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بها إلى الاستعانة بالشياطين" وعرفه ابن العربي بأنه: "كلام من يعظم به غير الله".
وقد اختلف في حقيقة السحر ومعناه؛ فجمهور العلماء على أنه على نوعين:
الأول: أنه مجرد شعوذة وإيهام لا يعدو أن يكون فعلاً معتاداً، فهذا ليس بسحر حقيقة، ولكنه يسمى سحراً لغة، وقد ذكر أبو بكر الجصاص أنه: "كل أمر خفي سببه، ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع، ولا حقيقة له ولا ثبات". وقال بهذا أيضاً الإمام ابن حزم وأبو جعفر الاسترآبادي الشافعي، واستدلوا على قولهم هذا بقول الله- عز وجل - عن سحرة فرعون: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى)، وقوله -عز ذكره-: (سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم). والمعنى: أنهم موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، فأخبر أن ما ظنوه سعياً منها لم يكن حقيقة وإنما كان تخييلاً.
وبهذا المعنى: فإن السحر متى أطلق لفظه يعد نوعاً من الشعوذة التي تمثل خفة الحركة والسرعة، فيظن من يرى هذه السرعة أنها حقيقة.
النوع الثاني: إن السحر حقيقة لا مراء فيها، وإن تأثيره ينصب على تغيير المزاج والسلوك، فيكون مرضاً من الأمراض. ويدل على حقيقته وتأثيره في النفوس، أن الله أمر نبيه –صلى الله عليه وسلم- أن يتعوذ من شر الساحرات بقوله - عز وجل -: (ومن شر النفاثات في العقد)، كما أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تعرض للسحر، وذلك حين سحره "لبيد بن أعصم" أحد المنافقين في المدينة.
تحريم السحر:
لا خلاف في تحريم السحر وكفر صاحبه، والأصل في ذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله - تعالى -: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)، إلى قوله - تعالى -: (يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)، وقوله: (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى).
وأما تحريمه في السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة، منها: ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر..)).
ومنها: قوله - عليه الصلاة والسلام – ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك)).
ومنها: ما روي أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة أربعين يوماً)).
ومنها: ما رواه عمران بن الحصين- رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له)). وقال –صلى الله عليه وسلم- : ((ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد))، فهذه الأحاديث تدل كل الدلالة على أن السحر في مختلف مسمياته وأصنافه التي تؤثر في النفس وتمرضها يعد حراماً، وأن صاحبه يعد كافراً، وأن من يصدقه هو في الجرم والخطيئة سواء.
ولم يختلف الأئمة - رحمهم الله - في هذه المسألة، ففي مذهب الإمام أبي حنيفة أن السحر حرام بلا خلاف بين أهل العلم، واعتقاد إباحته كفر، ويكفر الساحر بتعلمه وفعله، سواءً اعتقد الحرمة أم لا، ويقتل ولا يستتاب إذا عرفت مزاولته لعمل السحر؛ وذلك لسعيه بالفساد في الأرض. وفي مذهب الإمام مالك يعد مرتداً، وقد عرف الدردير الردة أنها: "كفر المسلم بصريح من القول أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه كإلقاء مصحف بقذر وسحر". وفيه: "إن تعلم السحر كفر وإن لم يعمل به". وفي المذهب أن عقوبة الساحر القتل. وفي مذهب الإمام الشافعي إذا اعتقد حل السحر كفر، وفي مذهب الإمام أحمد يكفر الساحر بتعلم السحر وفعله، سواءً اعتقد تحريمه أو إباحته، وعلى هذا جماهير الأصحاب.
هذه بإيجاز حقيقة السحر وتحريمه وعقاب من يفعله صنعاً وتعليماً، والسؤال هو عما إذا كان يجوز شرعاً لمن أصيب به أن يذهب إلى ساحر يحله عنه؟
والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: حل السحر بسحر مثله:
والمراد علاجه بما يسمى النشرة، وهنا ينبغي أولاً تعريفها: فقد عرفها ابن منظور في "لسان العرب" بأنها: "رقية يعالج بها المجنون والمريض تنشر عليه تنشيراً، وقد نَشَّر عنه، قالوا للإنسان المهزول الهالك كأنه نشرة، والتنشير من النشرة عنه، وهي كالتعويذ والرقية، قال الكلابي: وإذا نُِشَر المسفوع كان كأنما أنشط من عقال، أي يذهب عنه سريعاً، قال: فلعل طبّاً أصابه يعني سحراً ثم نَشَّره بقول (قل أعوذ برب الناس) أي رقاه". وفي "النهاية" لابن الأثير: "النشرة ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مساً من الجن، سميت بنشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال".
وعلى هذا لا يفهم من اسم النشرة على إطلاقها بمفهومها اللغوي أنها حل السحر بالسحر فحسب، وإنما هي نوعان: نوع محرم، ونوع مباح، وقد فهم ذلك الإمام ابن القيم فقال: "هي نوعان: حل سحر بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، فإن السحر من عمله، فيتقرب إليه الناشر والمنتشر بما يجب فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز بل مستحب.
وقد استدل من قال بجواز النشرة -أي حل السحر بالسحر- بثلاثة أمور: أولها: حديث عائشة -رضي الله عنها- ومفاده: "أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سُحِرَ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، فقال: ((يا عائشة، أَعلمتِ أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم، رجل من بني زريق حليف ليهود، كان منافقاً. قال: وفيم؟ قال: في مُشطٍ ومشاطة قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان. قالت: فأتى النبي –صلى الله عليه وسلم- البئر حتى استخرجه، فقال: هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين. قال: فاستخرج، قالت فقلت: أفلا -أي تنشرت؟- فقال: أما والله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً)). وقد ذكر ابن حجر في شرح الحديث تعدد رواياته، ففي رواية عيسى بن يونس (قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته)، وفي رواية وهيب (قلت: يا رسول الله فأخرجه للناس)، وفي رواية ابن نمير (أفلا أخرجته؟ قال: لا)، وكذا في رواية أبي أسامة، قال ابن بطال: "ذكر المهلب أن الرواة اختلفوا على هشام في إخراج السحر المذكور، فأثبته سفيان وجعل سؤال عائشة –رضي الله عنها- عن النشرة، ونفاه عيسى بن يونس وجعل سؤالها عن الاستخراج، ولم يذكر الجواب مما يدل على تعدد الروايات حول الاستخراج، فقيل: إنهم أخرجوه فرموا به، وفي رواية عمرة وحديث ابن عباس أنهم وجدوا وتراً فيه عُقد، وأنها انحلت عند قراءة المعوذتين".
وفي رواية البخاري "أفلا أخرجته"، وعن مسلم عن أبي كريب عن أبي أسامة (أفلا أحرقته)، وقال النووي: (كأنها طلبت أن يخرجه ثم يحرقه)، وذهب القرطبي فجعل الضمير في أحرقته للبيد بن أعصم، أي أن عائشة –رضي الله عنها- استفهمته عن ذلك عقوبة له على ما صنع من السحر، فأجابها بالامتناع، ونبَّه على سببه، وهو خوف وقوع شر بينهم وبين اليهود لأجل العهد، فلو قتله لثارت فتنة.
قال ابن حجر: "ويحتمل أن يكون من النشر بمعنى الإخراج، فيوافق رواية من رواه (فهلا أخرجته) ويكون لفظ هذه الرواية (هلا استخرجت) وحذف المفعول للعلم به، ويكون المراد بالمخرج ما حواه لا الجف نفسه".
قلت: فهذه الأقوال المختلفة حول الحديث لا تدل أبداً على أن عائشة- رضي الله عنها- قد سألت على وجه التوكيد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن النشرة بقولها (أفلا تنشرت)؛ لأنه إذا كان المقصود أن يعالج بالسحر كما قد يتوهم بذلك متوهم ضعيف الدراية؛ فرسول الله –صلى الله عليه وسلم- منزه مطلقاً أن يفعل ذلك أو يقول به، وهو من نزل عليه القرآن بتحريم السحر، كما أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- منزهة أن تسأله هذا السؤال، وهي في بيت النبوة ومهبط الوحي، ولو فرض أنها قد سألته هذا السؤال فهو إما أن يكون بلفظ (أفلا أخرجته) أو يكون بمعنى (فهلا حللته) بما يقتضيه حله بالتعوذ منه، وهو هنا بمعنى -النشرة المباحة- كالدعاء، ويدل على هذا ما رواه ابن عباس -رضي الله عنه-: أن العُقد التي وجدت في الوتر انحلت عند قراءة المعوذتين وهما (سورة الناس) و(سورة الفلق) أو يكون السؤال (فهلا عاقبته) أي: عاقبت لبيد بن أعصم بالإحراق، والمراد به الإحراق المجازي، أي العقاب الذي يستحقه على فعله.
وعلى هذا فلا حجة أبداً لمن جعل كلمة (أفلا تنشرت) دليلاً على جواز هذا الفعل المحرم، وذلك من وجهين: أولهما: أن كلمة (أفلا تنشرت) لم تثبت، وذلك بدليل تعدد الأقوال في رواية الحديث. وثانيهما: أنها لو ثبتت جدلاً فالمراد التنشر بالمباح.
الأمر الثاني: الاستدلال بقول سعيد بن المسيب: "إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع"، وأنه لما سئل عما إذا كان لا يرى بأساً إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه، فقال: "هو صلاح".
والجواب عنه من ثلاثة وجوه:
أولها: إن في علاج السحر بالسحر ضرراً متأتياً من كونه شركاً وكفراً بالله بدليل قوله - تعالى -: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). وقول رسوله –صلى الله عليه وسلم- : ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر..)). ومن المعلوم من الدين بالضرورة أنه ليس هناك ضرر أعظم من الشرك بالله كما قال - تعالى -: (إن الشرك لظلم عظيم). وقد استثناه الله من مغفرته لعباده في قوله - عز ذكره -: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
الوجه الثاني: إن في علاج السحر بالسحر ضرراً متأتياً من كونه تداوياً بمحرم، فقد سئل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن التداوي بالخمر فقال: ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)). وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((تداووا ولا تتداووا بحرام)). وفي التداوي بالمحرم مخالفة لنهي رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وقد أمرنا بامتثال أمره واجتناب نهيه في قول الله - تعالى -: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
الوجه الثالث: إن في السحر فساداً، فلم يحرمه الله إلا لفساده مثله مثل الخمر في فسادها، والربا في فساده، والفواحش في فسادها، فكل ما حرمه الله يعد فاسداً في ذاته ومفسداً لما يوضع فيه، فالفساد والصلاح ضدان لا يجتمعان؛ فلا يكون السحر إذاً صالحاً للتداوي به.
قلت: ومن تدبر قول سعيد بن المسيب وفهمه حق فهمه يدرك أنه لم يقل صراحة أو ضمناً أو إشارة بجواز حل السحر بمثله، فقوله: "إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع" قول عام لا يدل في معناه اللغوي الظاهر على أن السحر ينفع ولا يضر، وأما قوله: "إنه لا يرى بأساً إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه وقال: هو صلاح" فلا يفهم منه أيضاً لا صراحة ولا ضمناً ولا إشارة جواز ذهاب المسحور إلى الساحر ليطلق عنه، فمن توهم ذلك يقال له: أليس المراد من قوله: "من يطلق عنه" أن يكون هذا الإطلاق بالمباح كما حدث لِلعُقَدِ التي عقدت لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فانحلت بعد قراءة المعوذتين.. إن سعيد بن المسيب -وهو التابعي الجليل- لا يمكن أن يقول بجواز الذهاب إلى السحرة للتداوي عندهم، وهم يسجدون للشياطين، ويذبحون لهم، ويلقون كتاب الله في الزبل والأقذار.
وفي كل الأحوال نحن أمام كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وقد بَيَّنا لنا بوضوح أن السحر شرك وكفر، وهذا يقتضي حكماً وعقلاً أنه ضار غير نافع، وأن النفع لا يكون إلا فيما أباحه الله لعباده.
الأمر الثالث: الاستدلال بأن الإمام أحمد سئل عمن يطلق السحر عن المسحور فقال: "لا بأس به". والجواب عن هذا: أن أحداً لا يستطيع أن يثبت أنه - رحمه الله - قال بجواز حل السحر بسحر مثله. وجوابه (بعدم البأسية) عمن يطلق السحر جواب صحيح؛ ذلك أن المسحور إذا وجد من يحل عنه السحر بعلاج معنوي كالرقى، أو مادي مباح فهذا لا بأس به، ويدل على هذا أنه لما سئل عن رجل يجعل في الطنجير ماءً، ويغيب فيه، ويعمل كذا نفض يده منكراً لهذا الفعل وقال: "ما أدري ما هذا. قيل له أترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر؟ فقال: ما أدري ما هذا"، وإذا كان قد ورد في مسنده - رحمه الله - أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن النشرة -وهي هنا علاج السحر بمثله- قال: ((هي من عمل الشيطان))، فهل يعقل إذاً أن يقول الإمام أحمد - وهو المحدث الورع التقي وصاحب المسند - بجواز حل السحر بسحر مثله؟ إن هذا لشيء عجاب!
الأمر الرابع - نعم: قيل إن بعض علماء الحنابلة أو واحداً منهم قال بجواز حل السحر بسحر ضرورة خلافاً لعلماء الأمة الأعلام، وقد أجيب عن هذا من عدد من أئمة الحنابلة، قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير، فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال؛ لأن ذلك محرم في كل حال، وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه، فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه، ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر. والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخف بالعزائم لم يساعده. وأيضاً فإن المكره مضطر إلى التكلم به، ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين: أحدهما: أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم فلا يؤثر بل يزيده شراً، والثاني: أن في الحق ما يغني عن الباطل".
وقال في موضع آخر: "والذين أجازوا التداوي بالمحرم قاسوا ذلك على إباحة المحرمات كالميتة والدم للمضطر، وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها- أن المضطر يحصل مقصوده يقيناً بتناول المحرمات، فإنه إذا أكلها سدت رمقه وأزالت ضروراته، وأما الخبائث بل غيرها فلا يتعين حصول الشفاء بها؛ فما أكثر من يتداوى ولا يشفى بها! ولهذا أباحوا دفع الغصة بالخمر؛ لحصول المقصود بها وتعيينها له، بخلاف شربها للعطش، فقد تنازعوا فيه فإنهم قالوا: إنها لا تروي.
الثاني: أن المضطر لا طريق له إلى إزالة ضرورته إلا الأكل من هذه الأعيان، وأما التداوي فلا يتعين تناول هذا الخبيث طريقاً لشفائه، فإن الأدوية أنواع كثيرة، وقد يحصل الشفاء بغير الأدوية كالدعاء والرقية، وهو أعظم نوعي الدواء.
والثالث: أن أكل الميتة للمضطر واجب عليه في ظاهر مذهب الأئمة وغيرهم.. وأما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة وإنما أوجبته طائفة قليلة.
وفي فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ورسائله عن النشرة قال - رحمه الله -: "وكلام الأصحاب هنا بين أنه حرام ولا يجوز إلا بضرورة فقط، ولكن هذا يحتاج إلى دليل، ولا دليل إلا كلام ابن المسيب: ومعَنا حديث جابر في ذلك، وقول ابن مسعود، وقول الحسن، لا يحل السحر إلا ساحر وهو لا يتوصل إلى حله إلا بسحر، والسحر حرام وكفر. أفيعمل الكفر لتحيا نفس مريضة أو مصابة؟.. فالرسول –صلى الله عليه وسلم- منع وسد الباب ولم يفصل في عمل الشيطان ولا في المسحور".
قلت: إن وضع الفعل المنافي للعقيدة - وهو هنا التداوي بما هو شرك وكفر - تحت مقتضى الضرورة أمر محرم على الإطلاق، إذ يحرم على المسلم أن يقف على باب ساحر يراه يدوس على كتاب الله ويضعه في الزبل، ويسجد للشيطان ويذبح له، -تعالى الله عن فعل الظالمين علوّاً كبيراً- ثم يطلب منه العلاج، وإن اجتهد أحد العلماء، كالذي اجتهد من علماء الحنابلة - رحمهم الله - فرأى في ذلك ضرورة، فهذا الاجتهاد له احتمالان:
الأول: قياس التداوي بالسحر على جواز الأكل للمضطر من الميتة المحرمة، وفي إجابة شيخ الإسلام ابن تيمية ما يكفي للرد على هذا الاجتهاد، إذ لا يجوز قياس حالة المضطر لإنقاذ حياته على حالة أخرى تخالفها في المبنى والمعنى؛ ذلك أن المسحور لا يعد مضطراً لكي يتداوى بالشرك والكفر، فالسحر مرض مثله مثل أي مرض آخر؛ فيجب علاجه بما يلائمه من الرقى والأدوية المباحة. وعلى أي حال فإن الاجتهاد أياً كان مصدره لا معنى له ولا حجة إذا كانت النصوص واضحة بخلافه.
الاحتمال الثاني: قياس التداوي بالسحر على مسألة النطق بالكفر في حال الإكراه مع اطمئنان القلب بالإيمان، كما قال –عز وجل- (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان). وهذا القياس غير صحيح، فمع أن حفظ النفس من الضرورات الشرعية إلا أن اللجوء إلى السحرة للتداوي بشركهم وكفرهم لا يعد إكراهاً، بل هو اختيار يعرف المختار أنه يتعامل مع شرك وكفر صريح، مع أن له ما يغنيه عن هذا الاختيار بالعلاج بالأدوية المباحة وفي كل الأحوال فالمرجع في ذلك كتاب الله وسنة رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- وقد حرما السحر صنعاً وتعليماً ودواء.
الوجه الثاني: علاج السحر بالمباح:
لا خلاف بين العلماء في أن أفضل علاج للسحر واتقائه يكون بالأدعية والتعوذات والأوراد المشروعة، فمن ذلك قول الإمام ابن القيم: "ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلَهية، بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار، والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عُدَّتُهُ وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئاً من الله معموراً بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يُخِلُّ به يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له. ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه".
وقد ذكرنا من قبل أن الأدوية الإلَهية التي ذكرها الإمام ابن القيم تكون للسحر بعد وقوعه، ووقاية منه قبل وقوعه، فما من شك بأن القلب المعمور بذكر الله وخشيته، والائتمار بأوامره واجتناب نواهيه، والمداومة على الأذكار المشروعة سياج وحصن من حبائل الشيطان ورسله. ومن المأثور في ذلك قراءة آية الكرسي بعد الصلاة المفروضة، وقراءة سورة (الإخلاص) و(الفلق) و(الناس) ثلاث مرات بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب. ومن ذلك أيضاً قراءة آخر سورة البقرة، والتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، والحرص على الأدعية المأثورة.
ومن المأثور في علاج السحر بالأدعية المعنوية والمادية ما ذكره ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه: "أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقوافل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله".
ومن ذلك أيضاً: ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: "بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور (فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين*ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون). إلى آخر الآيات الأربع، وقوله: (إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى)".
وفي رد الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - على من قال بأنه لم يرد عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- شيء مما يقول ابن أبي سليم ولا ابن القيم، وأنّ ما ينقل عن وهب ابن منبه قد يكون من باب البدع، قال الشيخ "إن هذا القول غلط؛ لأن التداوي بالقرآن الكريم والسدر ونحوه من الأدعية المباحة ليس من باب البدع بل هو من باب التداوي. وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((عباد الله، تداووا ولا تتداووا بحرام)). وثبت في سنن أبي داود في كتاب الطب أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قرأ في ماء في إناء وصبه على المريض؛ وبهذا يعلم أن التداوي بالسدر وبالقراءة في الماء وصبه على المرضى ليس به محذور من جهة الشرع، إذا كانت القراءة سليمة وكان الدواء مباحاً".
قلت: وبناء على ما سبق، وجواباً عن سؤال الإخوة السائلين فإن القول بجواز حل السحر بسحر مثله قول غير صحيح، بل هو باطل من ثلاثة وجوه:
أولها: تهافت الأدلة التي ساقها أو يسوقها هؤلاء الذين قالوا بهذا الجواز.
ثانيها: أن القول بهذا ليس له سند شرعي لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من أقوال العلماء المتقدمين والمحدثين، بل هو محرم بكل المقاييس الشرعية التي أشير إلى بعضها في هذه المسألة.
وثالث الوجوه: أن القول بهذا مع مخالفته للأدلة الشرعية الصريحة ذو خطر عظيم؛ لأنه يعني السماح للسحرة بمعالجة الناس بكفرياتهم وشركياتهم وأباطيلهم؛ إذ لا يتصور عاقل أن يكون للسحرة عيادات ثم يقف المرضى - كما ذكرنا آنفاً- على أبوابهم يطلبون العلاج منهم وهم يرونهم أو يعلمون أنهم يدوسون بأقدامهم على كتاب الله العزيز، ويضعونه في الزبل، ويذبحون للشياطين، ويسجدون لهم ويتوسلون إليهم. فتعالى الله وتقدست أسماؤه وصفاته وتنزه كتابه العزيز عما يقول ويفعل الظالمون.
والله المستعان على ما يصفون.
ولا يسعنا إلا أن ندعو الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه