مقال منقول من موقع الجمعية العلمية السعودية للغة العربية
اللغة العربية على كرسي القضاء
إن العربية لسان الوحي المبين , ولغة التعبد لله رب العالمين . قال تعالى ( نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين ) وهي لسان أفضل هذه الأمم كلها عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
ولقد قال الله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ولن تحصل هذه العبادة إلا أن يتعلم الفرد من العربية ما يقيم به هذا الدين . وهذا فيما يخص عامة الناس , أما طالب العلم فلابد أن يطلب العربية لا على أنها علم آلة فحسب يتوصل بها إلى فهم علوم الشريعة , بل يتشربها فناً فناً على أنها علم قائم بذاته.
وإني متعجب من تزهيد بعض المشايخ ! في العربية , وما أكثر ما يكررون (خذ من العربية ما تفهم به الفقه )!!! هذه المقولة السيئة التي أنتجت طلبة علم مقلدين لا يعرفون من الاجتهاد إلا اسمه !! وما مثله هذا إلا كما قال الباري عزوجل : ( كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ), وأعضد كلامي هذا بكلام إمام من أئمة الإسلام هو الإمام الشاطبي ؛إذ يقول : (الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلابد من اشتراط العلم بالعربية ) ويقول : (إن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا؛ فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة؛ فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم؛ فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولًا) .
ولو حاولنا أن نحصي علماء العالم العربي ونصنفهم حسب مقدرتهم العلمية لعُرِفَ قدر من اعتنى بهذه اللغة العظيمة , ولعرفنا أن أصحاب هذه المقولة هم في ذيل هذه القائمة , ولا نثرب على من يُثْني على العربية وهو معترف بقصوره تجاهها فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه . إنما التثريب على من عجز السباحة في بحرها ثم هو يقلل من فائدتها وقديما قيل: ( الإنسان عدو ما يجهل ) ولهذا المثل ما يصدقه في كتاب الله قال تعالى ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) وقال تعالى ( وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ) .
وموضوعنا هنا إنما هو شيء قليل من أهمية هذه اللغة وهو اعتلاؤها كرسي القضاء للفصل بين المختلفين , وقد كانت تقضي بين المتخاصمين بشتى فنونهم الدينية . ولعلي أعرض بعض الأمثلة :
فمن التفسير :
ما جاء عن نافع بن الأزرق أنه قال لنجدة بن عويمر قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به (يقصد ابن عباس) .فقاما إليه فقالا : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله ، فتفسرها لنا ، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب.
مع أن ابن عباس إمام المفسرين كلهم إلا أنهما لم يرتضيا منه حتى يحكم القاضي على كلامه .
فقال ابن عباس : سلاني عما بدا لكما . فقال نافع : أخبرني عن قول الله تعالى : (عن اليمين وعن الشمال عزين ؟
قال العزون الحِلق الرقاق . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :
فجاؤوا يُهرعون إليه حتى * * يكونوا حول منبره عزينا
قال :أخبرني عن قوله : وابتغوا إليه الوسيلة قال الوسيلة الحاجة . قال وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت عنترة وهو يقول :
إن الرجال لهم إليك وسيلة * * إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قال : أخبرني عن قوله : شرعة ومنهاجا قال :الشرعة الدين ، والمنهاج الطريق . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم ، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول :
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى * * وبين للإسلام دين ومنهاجا
قال :أخبرني عن قوله إذا أثمر وينعه ؟ قال : نضجه وبلاغه . قال وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت قول الشاعر :
إذا ما مشت وسط النساء تأودت * * كما اهتز غصن ناعم النبت يانع
قال : أخبرني عن قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في كبد ؟ قال :في اعتدال واستقامة .قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم ، أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول :
يا عين هلا بكيت أربد إذ * * قمنا وقام الخصوم في كبد
قال :أخبرني عن قوله تعالى : يكاد سنا برقه؟ قال : السنا الضوء . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث يقول :
يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلا * * يجلو بوء سناه داجي الظلم
إلخ الحوار وقد جاء في الإتقان للسيوطي .
فخرج الخصم وهو راضٍ بحكم هذا (القاضي العادل) .
ومن الفقه :
يقول تعالى : ( ... وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ..)
فمن أركان الوضوء التي بينتها الآية مسح الرأس ولكن العلماء اختلفوا في المقدار الواجب مسحه على قولين : الأول : مسح بعض الرأس والثاني : جميع الرأس .
وخلافهم نشأ من الخلاف في دلالة ( الباء ) الفريق الأول يقول : الباء للتبعيض ؛ ولهذا نمسح بعض الرأس والفريق الثاني قالوا : إن الباء زائدة .
وهانحن نحتكم إلى القاضي الحكيم فالراجح الذي قال به أئمة العلم ومنهم شيخ الإسلام : أنه القول الثاني ولكن لم يقولوا إن الباء زائدة بل قالوا ( إن الباء للإلصاق , وهي لا تدخل إلا لفائدة فإذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه أفادت قدرا زائدا كما في قوله تعالى : ( عينا يشرب بها عباد الله ) فإنه لو قيل : يشرب منها لم تدل على الري فضمن يشرب معنى يروي فقيل يشرب بها فأفاد ذلك أنه شرب يحصل معه الري , وكذلك المسح في الوضوء والتيمم , لو قال : فامسحوا رؤوسكم , لم تدل على ما يلتصق بالمسح فإنك تقول : مسحت رأس فلان , وإن لم يكن بيدك بلل , فإذا قيل : فامسحوا برؤوسكم , ضمن المسح معنى الإلصاق , فأفاد إنكم تلصقون برؤوسكم شيئا بهذا المسح ) .
ومن الحديث :
وعلم الحديث على قسمين : رواية ودراية .
فأما الرواية وهي: العلم بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها . ولا ريب أن المعرفة اللغوية المتقنة أداة ضرورية في نقد هذا الخطاب , وتنقيحه عما يشوبه من وضع أو كذب أو تحريف لفظي أو دلالي .
وأما الدراية وهي : معرفة القواعد المعرفة بحال الراوي والمروي من حيث القبول والرد .
ولاشك أن للمعرفة اللغوية أثرها في ضبط الراوي لما يرويه .
و لعلي أذكر فائدة قال بها شيخ الإسلام تدل على تعمقه في اللغة واحتكامه إليها .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( يتخرج على معنى الاختصاص الذي يدل عليه اللام حكم شرعي , وهو النهي عن مشاركة الكفار في أعيادهم وذلك مستنبط من قوله عليه الصلاة والسلام : ( أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الاحد فجاء الله بنا فهدينا ليوم الجمعة ... ) فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت أو الأحد خالفنا هذا الحديث , وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي إذ لافرق )
ومن العقيدة :
تنازع الناس في مسألة (هل الاسم هو المسمى أم لا ؟) ذهبت الجهمية والمعتزلة والرافضة إلى أن الاسم غير المسمى بناءً على قولهم بخلق الأسماء والصفات , وفي مقابل ذلك ذهبت طائفة من أهل السنة إلى أن الاسم هو المسمى , وهم لا يريدون بذلك أن اللفظ المؤلف من الحروف هو نفس الشخص المسمى به , بل أرادوا من ذلك أن اللفظ (وهو الاسم ) هو المراد بالمسمى , فإنك إذا قلت : يا زيد , فليس مرادك دعاء اللفظ بل مرادك دعاء المسمى , فصار المراد بالاسم هو المسمى .
ولنذهب ونحتكم إلى القاضي العادل ..
يرى سيبويه أن الاسم غير المسمى ( وقد توهم المتوهمون أن مقصده في ذلك مقصد الجهمية والمعتزلة وليس الأمر كذلك بل هو موافق لأهل السنة ) ؛ وذلك أن اللفظ (الاسم ) المؤلف من الحروف له حقيقة موجودة في اللسان مسموعة بالأصوات متميزة عن المسمى ومنفصلة عنه فلما كان كذلك كان الاسم غير المسمى من هذا الوجه .
وقال ابن القيم وهو يوجه ما ذهب إليه سيبويه : ((اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا له حقيقة متميزة متحصلة فاستحق أن يوضع له لفظ يدل عليه لأنه شيء موجود في اللسان مسموع بالآذان فاللفظ المؤلف من همزة الوصل والسين والميم عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا واللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان وهو المسمى واللفظ الدال عليه الذي هو الزاي والياء والدال هو الاسم وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم عبارة عنه فقد بان لك أن الاسم في أصل الوضع ليس هو المسمى ولهذا تقول سميت هذا الشخص بهذا الاسم كما تقول حليته بهذه الحلية والحلية غير المحلى فكذلك الاسم غير المسمى ..
صرح بذلك سيبويه , وأخطأ من نسب إليه غير هذا وادعى أن مذهبه اتحادهما )