أهمية الاجتهاد في النوازل

رجاء بنت صالح باسودان*

تشهد المجتمعات الحالية تطوّراً علميّاً وتحوّلاً كبيراً في المجتمع من شأنه أن يحدث نوازل جديدة غير مألوفة تستدعي الاجتهاد فيها ، فالحاجة قائمة لتجدّد وتحوّل المجتمعات وفي هذا المقام يقول الإمام الشاطبي[1]"إن الوقائع في الوجود لا تنحصر ، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة ، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره ، فلا بدّ من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها ، ولا يوجد للأّولين فيها اجتهاد ؛ وعند ذلك فإمّا أن يترك الناس فيها مع أهوائهم ، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي ، وهو أيضاً اتّباع للهوى ، وذلك كلّه فساد"[2]
وتبرز أهمية الاجتهاد في النوازل في الآتي :
1- تحكيم الشريعة في جميع جوانب الحياة :
إنّ من أبرز آثار الاجتهاد - فضلاً عن شمول نصوص الشريعة لكثير من جوانب الحياة - الحفاظ على العقيدة بتطبيق قواعد شريعتها على ما يحدث لها من نوازل ، وبالتّالي قطع الطريق على من يريد العمل بالقوانين الوضعية . وهذا ما يؤكد عليه بعض المعاصرين ، حيث يقول الدكتور مسفر بن علي القحطاني[3]: "كانت المسائل الجديدة التي لم تبحث وليست لها أحكاماً معلومة في الشريعة من أهم ما يتذرّع به دعاة القوانين ، فإذا قام العلماء بالاجتهاد والبحث في أحكام الجديد من النوازل والوقائع لم يكن هناك مسوّغ للأخذ بالقوانين المستوردة"[4]ويضيف الدكتور عابد السفياني[5]قائلاً : "فالأمّة التي تتّخذ من الاجتهاد قاعدة لها لمواجهة الحوادث التي تنزل بها ، يكون هذا الاجتهاد من مقوّمات بقائها ، مما يرفع في معنوية أبناء هذه الأمة ويزيد إيمانهم بالمنهج الرباني"[6]
2 - صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان :
لقد دأب أعداء الإسلام على إثارة العديد من الشبه ، منها : شبهة عدم صلاحية تطبيق الشريعة في هذا الزمان ، وذلك بالتشكيك في نصوصها وقدرتها على احتواء التغيير الحادث على مرّ الأزمنة والعصور . ويردّ أحدهم على هؤلاء : بأن الأصل في أوامر الله وأحكامه هو الثبات والبقاء . وأنّ هذا التطوّر المستمر يقتضي ظهور وقائع جديدة في حياة الناس تقتضي حكماً شرعياً لها ، ما دام من المقطوع به أن الشريعة محيطة بأفعال المكلفين ، ولا يكون ذلك إلا بالاجتهاد[8]قال الإمام الشافعي[9]: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدّليل على سبيل الهدى فيها"[10]، ويمكن وصف الاجتهاد بأنه وعاء النوازل وبه نميّز حكمها في الشرع[11].
3 - تجديد الفقه الإسلامي :
كان الصحابة – رضوان الله عليهم - بعد عصر النبوة إذا حدثت لهم حادثة ، ولم يجدوا لها في كتاب الله ، أو سنة رسوله شيئاً ، اجتهدوا واشتهر عنهم ذلك ، فكانوا يحاولون قدر جهدهم حلّ ما يعترضهم في حياتهم من مشكلات ، فسهّل طريق الاجتهاد لمن جاء بعدهم لأن يقتفوا أثرهم ، فقعّدوا القواعد ، ووضعوا الأسس ، وأرسوا الأصول ، ودوّن الفقه، وحفظت لنا المصنّفات والمؤلّفات القيّمة ، ويتجدّد الفقه بتجدّد النوازل والحوادث . يشير الدكتور "القحطاني" إلى هذا بقوله : "فالاجتهاد والبحث في أحكام النوازل له دوره الكبير في تجديد وتنمية الفقه في النّفوس ، وفي واقع حياة الناس . وأنّ الاجتهاد في بحث أحكام النوازل قد يلجئ المجتهد والفقيه على التأليف والتصنيف في قضايا ومسائل لم تكن مدوّنة من قبل في كتب الفقه الأولى ، كمسائل المعاملات المصرفية ، وقضايا التأمين ، والمسائل الطّبية المعاصرة وغيرها.ولا شكّ أنّ هذا الأمر يثري حركة الفقه الإسلامي ، ويزيدها نموّاً وتجدّداً نحو معالجة أوسع لحاجات النّاس والمجتمع"[12]
ويضيف الدكتور محمد فاروق النبهان[13]بأنه : سوف يظلّ فقه النوازل - وهو فقه الفتاوى - السّاحة الرّحبة لنمو قاعدة الاجتهاد ، التي تغني فكرنا الإسلامي بالجديد من الآراء الفقهية[14]
4- رفع الحرج عن الأمة :
يقصد بالحرج : "كلّ ما أدّى إلى مشقّة زائدة في البدن أو النّفس أو المال حالاً أو مآلاً"[15]فيكون رفع الحرج : "إزالة ما يؤدّي إلى هذه المشاق"[16]
ومن الأدّلة التي دلّت على هذا الأصل قوله تعالى : {... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ... }[17]
ورفع الحرج أصل كليّ تعود إليه جملة من الأحكام ، فهو قاعدة عامّة من أصول الدين يتكئ عليها من تردّد في نازلة ، واشتبه عليه الأمر[18]
تعد هذه أبرز الأمور المتعلّقة بأهمية الاجتهاد في النوازل ، وهي تحتاج إلى صدق المتابعة للجيل القدوة - من المجتهدين - والإخلاص والتجرّد ، حتى ييّسر الله لها أن تتحصّن بذلك الحصن الآمن ، فلا تضلّ بها الأهواء[19]
*****
*باحثة في الفقه الإسلامي ومهتمة بقضايا فقهية معاصرة.
الهوامش والمراجع



[1] أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي الشهير بالشاطبي . الإمام الحافظ الجليل المجتهد ، من مؤلفاته : الموافقات في أصول الشريعة ، الاعتصام ، توفي سنة 790هـ . (انظر : نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بابا التنبكتي ، ص 46- الفكر السامي 2/ 291-292)

[2] الموافقات في أصول الشريعة ، 4/ 476

[3] أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن

[4] منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة ، ص 117

[5] الأستاذ المساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة . (انظر : www.islamtoday)

[6] الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ، د. عابد السفياني ، ص 223

[8] الفتوى بين الانضباط والتسيب ، ص 278

[9] أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ، يجتمع مع النبي عليه الصلاة والسلام في عبد مناف ، ولد بغزة سنة 150هـ ونشأ بمكة ، ساد أهل زمانه في الفقه فكان عالم عصره ، صنف في أصول الفقه وفروعه ، كان من أشعر الناس ، من مؤلفاته: الرسالة ، الأم ، توفي سنة 204هـ (انظر: طبقات الفقهاء ، ص 60 - الفكر السامي 1/464)

[10] الرسالة ، ص 20

[11] انظر : منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة ، د. مسفر القحطاني ، ص 94 ، 95

[12] المرجع السابق ، ص 119-120

[13] محمد فاروق النبهان ، ولد في مدينة حلب عام 1940م ، تخرج من كلية الشريعة جامعة دمشق عام 1962م ، وحصل على الماجستير من جامعة القاهرة كلية الآداب عام 1965م ، وحصل على الشهادة العالمية الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1968م ، من مؤلفاته : المدخل للتشريع الإسلامي ، مبادئ الثقافة الإسلامية ، أبحاث في الاقتصاد الإسلامي . (انظر : www.hqw7.com)

[14] انظر : أثر الفتاوى والنوازل في إثراء الفقه الإسلامي ، د. محمد فاروق نبهان ، ص 25

[15] رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د. صالح بن حميد ، ص 47

[16] المرجع السابق ، ص 48

[17] الحج ، آية (78)

[18] انظر : وجوب تطبيق الشريعة ، د. محمد الأمين مصطفى الشنقيطي ، ص 30 ، 79

[19] انظر : الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ، د. عابد السفياني ، ص 227