مصيدة العناوين
بقلم: د. خالد رُوشه
كنا في السابق نستطيع تقييم أهل العلم والفهم والحكمة من مطالعة ما يكتبون، نقرأ كتبهم، أو بحوثهم، أو مقالاتهم، فنستضىء بها، ونستطيع تقدير قدرهم وقيمتهم، ومن ثم يتركون – إن هم ذهبوا عنا – ميراثًا من الفضل مكتوبًا، يظل مصباح خير عبر الأيام.
دارت الأيام ومعها دارت الوقائع، وتداخلت في المسألة الكتابية تداخلات سلبية إلى حد يرثى له! صرت الآن تبذل جهدًا جهيدًا كي تبحث عن مقال رصين لصاحب علم أو معرفة، إذ أمامك ركام كبير من كلام مهترىء فارغ، لا يقدم نفعًا، ولا يناقش علمًا، ولا يسير على نهج!
فلا غرابة أن تقرأ لكاتب اليوم مقالًا يدافع فيه عن مبدأ، ثم هو غدا يخالفه ليكتب مدافعًا عن نقيضه، ومن الطبيعي الآن أن تجد كتابًا لكاتب قد جمع مقالاته المكتوبة، فإذا بك - بينما أنت تقرأ، كأنك تقرأ لحاطب ليل، فلا نهج ولا رؤية، ولا هدف، إلا المال، أو مجرد النشر!
لا غرابة أيضًا في هذه الأيام أن تقرأ كتابًا لكاتب معروف فتقول ما أحسنه، ثم تصدم بعد أيام قليله إذ تقرأ صرخات لكاتب مغمور يتهم الكاتب الشهير بأنه قد سرق كتابه، ما هو أغرب أن تجد ذلك يحدث مع من لا يمكن أن تظن فيه ذلك!
كل ما سبق وجع، وما يحدث الآن وجع آخر، فقد طغت مواقع التواصل الاجتماعي وأثرت سلبًا على مسألة الكتابة الرصينة والنافعة أيما تأثير، فالآن كل الناس صاروا يرون أنفسهم حكماء، ووعاظًا، وكتابًا، وعلماء، فالجميع يكتب، والجميع يدلي برأيه، بل هم كذلك يضعون رؤيتهم في مقابل رؤية أهل العلم الراسخين، في حين أن كمًا كبيرًا من المكتوب منقول أو بمعنى أوضح – مسروق من كاتبه -!
بالطبع هذه الكثرة الرهيبة من الكتابات الغثائية، أفقدت القارىء قدرًا كبيرًا من الثقة فيما يقرأ، فالكل ىقد صار سواء، بل إن كثيرًا من الكتابات الفارغة صارت تحمل عناوين ساخنة، تعمل عمل المصيدة للقارىء بينما هو يتصفح! صار الكاتب الآن يبحث عن العنوان قبل المحتوى، وصار القارىء هو الآخر ينجذب للعنوان حتى لو فرغ محتواه، حتى صرنا أمام ما يمكن أن نسميه المقالات الصفراء والكتابات الصفراء!
لا أبالغ إذا قلت أن الحال المتردية للكتابة الآن قد تُوصلنا أن تصير المواقع المنهجية والصفحات البحثية والعلمية والصحف الرصينة بل والكتب، مجرد أدوات أرشيفية، قد فقدت الحياة التفاعلية، وصار قراؤها في انحسار متزايد يومًا بعد يوم، بالتالي ينحسر أثرها، وتتجمد فائدتها الإيجابية المهمة.
الكتابة الرصينة المنهجية تعاني الآن أشد معاناة، ويعاني أصحابها، وقد يرون أنفسهم غرباء، يستغربهم القراء، وقد يتعرضون للسخرية في بعض الأحيان، تمامًا كما كان المتحدث باللغة العربية الفصحى يتعرض للسخرية في مصر والمغرب وكثير من البلاد عبر عقود مضت ولا يزال أثرها!
إننا بحاجة أن نعيد للكتابة المنهجية قدرها وقيمتها، وأن نثبت أمام هذا الطوفان الشديد من الغثاء والمصائد والكتابات الصفراء ... وللحديث بقية
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــ