تنوع الإعراب النحوي
وأثره في فهم النص النبوي
د. سعد فجحان الدوسري (*)
ملخص البحث:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى "أله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالسنة النبوية لها أهمية بالغة في كثير من العلوم، ومنها: علم العربية "لا سيما ما يتعلق بالنحو وما يعرف ب إعراب الحديث النبوي" الذي قد تم تعريفه بأنه "علم يبحث في تخريج تراكيب الحديث النبوي على القواعد النحوية المحررة".
وكان لذلك الأعراب تاريخ حافل، كانت بدايته من فصاحة الرسول صلي الله عليه وسلم، ثم تتابعت جهود العلماء في بيان المعاني والمفردات التي كانت في أكثرها منصبة على تفسير الغريب، وبعض الصرف والإعراب، إلى أن جاء الإمام أبو البقاء العكبري في كتابه
المشهور بـــ"إعراب الحديث النبوي"، ثم تتابعت جهود العلماء بعد ذلك في مؤلفات بديعة.
وتظهر أهمية إعراب الحديث النبوي بأمثلة واقعية من السنة النبوية، تم استعراض ستة أمثلة، منها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه)، وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال (عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع)، وغيرهما.
لقد أفضى اجتهاد العلماء عند إعراب الحديث النبوي في بعض الأحيان إلى وجود اختلاف بينهم في إعراب كلمة أو جملة، وهذا الاختلاف بين المعربين قد يتعلق به - أحيانا - تنوع في فهم الحديث لذا ينبغي الاعتناء بتوجيهات هامة قبل تناول النص النبوي بالإعراب، وهي ستة: مراعاة تعدد الروايات عند الأعراب، والالتزام بصحة الحديث وقبوله، ثم العناية بمعنى الحديث قبل إعرابه، ومراعاة ما تقتضيها الصنعة النحوية، والخامس محاولة استيفاء جميع الأوجه الإعرابية الظاهرة التي يحتملها اللفظ النبوي، وأخيرا: الانتباه إلى الخلاف النحوي بين النحاة.
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف النبيين وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى "أله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وجعل هذه الرسالة قائمة على أصلين عظيمين بهما قوام الدين، كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد اهتم العلماء المتقدمون في قواعد العربية بالقران الكريم في تقعيد قواعد النحو، وإثراء العربية بالأمثلة منه، والسنة النبوية في ذلك مما لا تقل عن القرآن منزلة، ولا تنقص عنه أمثلة، وكذلك بالنسبة لأهميتها وحاجة الناس إليها، فهي وحي مثله، كلاهما من الله تعالى، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) أن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3-4).
ولقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم فصاحة وبيانا، وهي صفة ملازمة له، يعرفها عنه كل من خاطبه أو سمع كلامه، وكذلك كل من قرأ أحاديثه ووقف على عباراته، بل هي من خصائصه وفضائله صلى الله عليه وسلم التي اختص بها عن غيره من الأنبياء عليهم السلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست، - وفي حديث آخر: أعطيت خمسا- أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) رواه مسلم ([1])، وجه الدلالة من الحديث على فصاحته صلى الله عليه وسلم أنه أعطي جوامع الكلم والمقصود به كما قال الجاحظ في البيان والتبيين "هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف"([2]).
وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم عربي، وكلامه هو الفصاحة والبيان كله فقد امتلأت السنة النبوية بالقواعد العربية والأمثلة النحوية التي أثرت كتب الإعراب ومؤلفات النحو، وإن وجد ذلك متأخرا - نوعا ما - مقارنة بالقران الكريم، لكنها وبلا شك أثرت هذه المؤلفات إثراء كبيرا، بل ووضعت كتب مستقلة في إعراب الاحاديث النبوية خاصة، وملأ شراح الاحاديث مؤلفاتهم من إعراب النص النبوي، وبيان النحو فيه عند الحاجة إليه،، وقد أفضى ذلك في بعض الأحيان إلى اختلاف بينهم في إعراب كلمة أو إعراب جملة وردت في الحديث، لان اللغة العربية واسعة، وتعدد الأوجه الإعرابية فيها وارد.
وتعدد الطرق أو الروايات باختلاف الإعراب، ثم الاختلاف بين المعربين هو موضوع بحثي الموسوم بـــ (تنوع الإعراب النحوي وأثره في فهم النص النبوي).
أهمية الموضوع
تكمن أهمية الموضوع في معرفة الأوجه الإعرابية لمفرد أو جملة في النص النبوي، والذي قد يترتب عليه خلاف في الفهم، أو تنوع في الاستنباط، مع بيان بعض التوجيهات التي ينبغي أن يتنبه لها المعرب للأحاديث النبوية.
كذلك تكمن أهمية الموضوع في قوة النص النبوي، وحضوره بوضوح في قواعد العربية والنحو " بحيث يمنحها إثراء في الامثلة والتطبيق النحوي.
مشكلة البحث
تتمثل مشكلة البحث في كثرة الأمثلة النحوية التي تكون في النصوص الحديثية؛ التي ملأت منها كتب الشروح الحديثية وكتب الإعراب الحديثي، لكن الصعوبة تكمن فيما يهمنا في بحثنا منها " وهو وجود الاختلاف الإعرابي في نصوصها.
قضية البحث
تكمن قضية البحث في التحقق من كون هذا الاختلاف الإعرابي يترتب عليه تنوع في الفهم والاستنباط.
أهداف البحث
الوقوف على أهمية السنة النبوية في تأصيل وترسيخ قواعد العربية.
بيان الإعراب النحوي وأهميته في فهم النص النبوي خصوصا.
معرفة الفهم الناتج من تنوع الأعراب والأمثلة الواردة في ذلك.
محاولة وضع توجيهات هامة قبل تناول النص النبوي بالإعراب.
الدراسات السابقة
وجدت دراسات سابقة تتعلق بموضوع الإعراب والحديث النبوي، ومن هذه الدراسات ما يأتي:
"بناء الجملة في الحديث النبوي الشريف في الصحيحين" أطروحة دكتوراه للدكتور عودة خليل أبي عودة، الجامعة الأردنية، كلية الآداب، 1988 م.
"الحديث النبوي في النحو العربي"، للدكتور محمود فجال، طبع مكتبة أضواء السلف 1997 م.
"التأويل النحوي في كتب إعراب الحديث النبوي " للباحثة عائشة بنت مرزوق اللهيبي، أطروحة مقدمة من الباحثة لنيل درجة الماجستير من جامعة أم القرى، كلية اللغة العربية في سنة 1423 ه.
"تاريخ الإعراب للأحاديث النبوية الشريفة"، للدكتور فخر الدين قباوة، مجلة الوعي الإسلامي، 1424 ه.
"التأويل النحوي في الحديث الشريف" أطروحة دكتوراه مقدمة من الدكتور / فلاح إبراهيم الفهدي في جامعة بغداد، كلية الآداب، سنة 2006 م.
"القضايا النحوية في المخطوطات وكتب الحديث وإعرابه"، للدكتور سليمان القضاه، طبع دار الكتاب الثقافي للطباعة والنشر.
لكنني لم أجد مؤلفا خاصا يتعلق بتنوع الإعراب النحوي وأثر ذلك في فهم النص النبوي.
منهج البحث:
عزو الآيات بذكر اسم السورة ورقم الآية.
إذا كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما فأكتفي بالعزو له دون غيره من المراجع، وذلك بذكر اسم الكتاب والباب ورقم الحديث، كما أني أذكر إسناده وأكتفي بذلك دون دراسة له.
أما إذا كان الحديث في غير الصحيحين، فإن كان في السنن الأربعة ومسند أحمد فأكتفي بالعزو لها، وإن كان خارج السنن والمسند، فأخرجه من مصادره الأصلية الأخرى، وأورد إسناده مع دراسة له، ثم أختمه بالحكم عليه بالقبول أو الرد.
التعريف بمصطلحات فن الحديث وإعرابه من المصادر المختصة.
توثيق جميع النصوص التي يتم نقلها من مصادرها الرئيسة.
دراسة أسانيد غير الصحيحين، والحكم عليها بناء على هذه الدراسة.
خطة البحث
ستكون خطة البحث إن شاء الله تعالى على النحو الاتي:
المقدمة، وفيها بيان أهمية الموضوع، وسبب اختياره، وخطته، ومنهج البحث فيه، ثم المبحث التمهيدي، وفيه: تعريف إعراب الحديث النبوي باعتباره علما مركبا، وأهمية اللغة العربية للسنة النبوية، وأهمية الإعراب وأثره في المعنى، وتعدد الأوجه الإعرابية في إعراب الجمل والنصوص الشرعية.
ثم المبحث الأول: إعراب الحديث النبوي، وفيه:
المطلب الأول: تاريخ إعراب الحديث النبوي
المطلب الثاني: المصنفات في إعراب الحديث النبوي
ثم المبحث الثاني: أمثلة على تنوع الإعراب وأثره في فهم الحديث النبوي، وفيه:
المثال الأول: حديث (ذكاة الجنين ذكاة أمه).
المثال الثاني: حديث (رويدا أيها الناس، عليكم السكينة)
المثال الثالث: حديث (وإذا تطاول رعاة الإبل البهم)
المثال الرابع: حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)
المثال الخامس: حديث (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم)
المثال السادس: حديث (فما الصلاة؟ قال: (خير موضوع)
ثم المبحث الثالث: توجيهات هامة قبل تناول النص النبوي بالإعراب، وفيه:
التوجيه الأول: مراعاة تعدد الروايات عند الأعراب.
التوجيه الثاني: الالتزام بكون الحديث مقبولا، صحيحا كان أو حسنا بخلاف الضعيف.
التوجيه الثالث: العناية بمعنى الحديث قبل إعرابه.
التوجيه الرابع: مراعاة ما تقتضيه الصنعة النحوية
التوجيه الخامس: محاولة استيفاء جميع الأوجه الإعرابية الظاهرة التي يحتملها اللفظ النبوي
التوجيه السادس: الانتباه إلى الخلاف النحوي بين النحاة وأثره في إعراب الأحاديث
ثم الخاتمة: وفيها أعرض أهم النتائج والتوصيات
ثم المصادر والفهارس.
والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث التمهيدي
أ-تعريف إعراب الحديث النبوي باعتباره علماً مركباً.
إن الناظر إلى كتب إعراب الحديث النبوي أو البحوث التي تختص بهذا الموضوع يجد أنها لم تورد تعريف إعراب الحديث النبوي باعتباره علما ولقبا لهذا الفن، وإنما يتم تعريف كل لفظ على حدة، فيعرف الإعراب، ويعرف الحديث.
لكني يمكن أن أستخلص تعريفا جامعا لهذا النوع من الفن بأن أقول: إعراب الحديث النبوي "هو علم يبحث في تخريج تراكيب الحديث النبوي على القواعد النحوية المحررة"([3]).
ويتضح من خلال هذا التعريف ما يأتي:
أنه يبحث في تراكيب الحديث النبوي، لا في مفرداته، فهذا له فن مستقل اسمه: "غريب الحديث".
يهتم بإيجاد الوجوه المناسبة لتراكيب لفظ الحديث النبوي وتوجيهها.
هذا العلم مقيد بقواعد نحوية ثابتة، تمثل الأسس لهذا العلم.
يراعى حمله على أفصح الوجوه، لا على جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه.
ب-أهمية اللغة العربية للسنة النبوية
لقد كان لعلماء الحديث عناية بالعربية وقواعدها، وحث الناس عليها وتعلمها، لكي يتم صيانة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من اللحن والزلل، ومن النقص والخطل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أفصح الناس؛ وأعظمهم بيانا.
لأجل ذلك كانت معرفة العربية شرطا من الشروط التي يجب توافرها في المحدث كما قال ابن الصلاح رحمه الله: "فحق على طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يتخلص به من شين اللحن والتحريف ومعرتهما"([4]).
وروى الخطيب البغدادي عن الإمام شعبة بن الحجاج قوله: "من طلب الحديث ولم يبصر العربية كمثل رجل عليه برنس وليس له رأس"([5]).
وروى الخليلي في "الإرشاد" عن العباس بن المغيرة عن أبيه قال: جاء عبد العزيز الدراوردي في جماعة إلى أبي ليعرضوا عليه كتابا، فقرأ لهم الدراوردي، وكان رديء اللسان، يلحن لحنا قبيحا، فقال أبي: "ويحك يا دراوردي، أنت كنت إلى إصلاح لسانك قبل النظر في هذا الشأن أحوج منك إلى غير ذلك"([6]).
وروى -أيضا -عن حماد بن سلمة قال: "مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاة ولا شعير فيها".
ومما يدل على أهمية العربية عند علماء الحديث: قصة تعلم سيبويه للعربية، فقد كان بمشورة وأمر من حماد بن سلمة الإمام المحدث رحمه الله.
كان سيبويه يحضر مجلسه ويستملي الحديث منه، وسأل يوما حماد بن سلمة فقال له: أحدثك هشام ابن عروة عن أبيه في رجل رغف في الصلاة، بضم العين، فقال له حماد: أخطأت، إنما هو رعف بفتح العين، فانصرف سيبويه إلى الخليل، فشكا إليه ما لقيه من حماد، فقال له الخليل: صدق حماد، ومثل حماد يقول هذا، ورعف بضم العين لغة ضعيفة ([7]).
ثم يتكرر الموقف مرة أخرى، فبينما هو يستملي على حماد بن سلمة حديث (ما أحد من أصحابي إلا وقد أخذت عليه، ليس أبا الدرداء) ([8])، فقال سيبويه: " ليس أبو
الدرداء"، فقال: لحنت يا سيبويه، فقال سيبويه: لا جرم! لأطلبن علما لا تلحنني فيه أبدا، فطلب النحو، ولم يزل يلازم الخليل"([9]).
إن اللغة العربية والإعراب لها إسهام بين في فهم السنة النبوية المطهرة فهما دقيقا صحيحا في معانيها وأحكامها؛ "لأنه لا تفهم معانيها على صحة إلا بتوفيتها حقوقها من الإعراب، وهذا ما لا يدفعه أحد ممن نظر في أحاديثه"([10]).
ج-أهمية الإعراب وأثره في المعنى
الإعراب في اللغة العربية له أثر بين في تأدية المعنى وكشفه وإزالة اللبس عنه ([11])، وهذا لم يكن لأي لغة في الدنيا إلا للغة العربية، مما يوحي بعلو شأنها على جميع اللغات، كيف لا وهي لغة القرآن كلام الرحمن؟!.
يقول ابن جني في بيان أن الإعراب يوضح المعاني: "الإعراب هو: الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى إنك إذا سمعت: "أكرم سعيد أباه، وشكر سعيدا أبوه، علمت برفع أحدهما ونصب الأخر الفاعل من المفعول، ولو كان الكلام شرجا ([12]) واحدا لاستبهم أحدهما من صاحبه"([13]).
كذلك يرى الإمام السيوطي أن بالإعراب تميز المعاني، ويزال الإبهام الذي يمكن أن يحدث للمتكلم؛ خاصة في الجملة المتشابهة في ألفاظها، فيقول: "فأما الإعراب – فبه تميز المعاني، ويوقف على أغراض المتكلمين. وذلك أن قائلا لو قال: ما أحسن زيد غير معرب، أو ضرب عمر زيد غير معرب" لم يوقف على مراده. فإن قال: ما أحسن زيدا أو ما أحسن زيد، أو ما أحسن زيد "أبان بالإعراب عن المعنى الذي أراده"([14]).
ومن الأمثلة على أهمية الإعراب في بيان المعنى قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ أن اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 132).
فالعطف هنا في قوله (ويعقوب) يوقع القارئ في حيرة لا ينقذه منها إلا الإعراب، لان يعقوب يحتمل أن يكون موصيا كإبراهيم وهو المراد، ويحتمل أن يكون موصى كأبناء إبراهيم، ولم يحسم هذا الإشكال إلا الإعراب بالرفع عطفا على إبراهيم وليس بنيه ([15]).
ومما ورد في دلالة الإعراب على المعنى: ما قيل: إن عتبان الحروري حضر عند عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك: أنت القائل:
فإن يك منكم كان مروان وابنة وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعنب ومنا أمير المؤمنين شبيب؟!
فقال: إنما قلت: ومنا أمير المؤمنين شبيب، على النداء فأعجبه وأطلقه ([16]).
د-تعدد الأوجه الإعرابية في إعراب الجمل والنصوص الشرعية
إن علماء العربية عندما يعربون في بعض الأحيان كلمات أو جملا قد تختلف أراؤهم، وتتعدد أقوالهم في الإعراب، وذلك يعود إلى اختلاف اجتهادهم في تطبيق وتنزيل قواعد العربية على الأمثلة، فتجد قولين أو ثلاثة أو أكثر في إعراب كلمة واحدة.
وقد التمس العلماء أسباب تعدد الأوجه الإعرابية، فلخصها الدكتور محمد حسنين صبرة ([17]) وقسمها إلى قسمين:
أسباب تتصل بتراكيب اللغة وهي:
طبيعة التراكيب بأن تكون تراكيب مشكلة أو أن يكون ترتيب الكلمات فيه تقديم وتأخير.
الاتباع أو الاستئناف، بأن تكون الكلمة تابعة لما قبلها أو أن تكون منقطعة عما قبلها ومستأنفة.
تعدد المتبوع، فقد يكون هناك تراكيب تشتمل على كلمتين تصلح كل منهما لان تكون متبوعة، ولكل منهما إعراب، فيؤدي إلى اختلاف إعراب التابع.
تعدد وظائف بعض الكلمات، ككان مثلا، فقد تأتي ناقصة، وقد تأتي تامة، أو زائدة، فتختلف الكلمات المعمول فيها من بعدها باختلاف وظيفة العامل.
غياب الإعراب، ففي العربية كلمات لا تظهر عليها علامات الإعراب، إما بسبب البناء أو التعذر، كالاعتلال والثقل مثلا.
أسباب تتصل بمنهج النحاة، كاختلافهم في مسائل نحوية كثيرة كما بين البصريين والكوفيين "كالخلاف القائم في جواز تقديم الفاعل على الفعل وغيرها.
ولشهرة هذه الخلافات ألفت فيها كتب ككتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين" لابن الأنباري ([18]).
المبحث الأول: إعراب الحديث النبوي
المطلب الأول: تاريخ إعراب الحديث النبوي
من الأوصاف التي تحلى بها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: وصف البلاغة وجوامع الكلام، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون"([19]).
ثم تتابعت جهود علماء العربية في بيان المعاني والمفردات ككتاب "الغريبين" لأحمد بن محمد الهروي، و"الفائق" للزمخشري، والنهاية لابن الأثير، والتي كانت في أكثرها منصبة على تفسير الغريب من المفردات، وشرح العبارات، مع شذرات من التحليل الصرفي، ومعاني الأدوات، ونادر من الإعراب.
إلا أن الخطوة الأولى في التحليل النحوي للأقوال النبوية المباركة كانت على يد الفقيه النحوي الإمام أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري المتوفى سنة 616 ه ([20])، فقد ألف كتابه: "إتحاف الحثيث بإعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث" المعروف ب "إعراب الحديث النبوي"، حين رغب إليه جماعة من طلبة الحديث أن يملي مختصرا في إعراب ما يشكل من الألفاظ الواقعة في الأحاديث الشريفة، فكان اعتماده على "جامع المسانيد" لابن الجوزي، إذ تناول من ذلك مادة وافرة للمسائل النحوية جعلها تحت عنوان "إعراب الحديث النبوي". وقد عرض فيه كثيرا من الإعراب بما تحتمله بعض المفردات من الوجوه والروايات، وقليلا من الصرف ومعاني الأدوات.
ثم جاء بعد ذلك: إمام النحو والحديث الإمام ابن مالك الأندلسي، في كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح"، حيث جمع من صحيح البخاري ما يستشكل من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في قواعد العربية، فأزال مشكلاتها، ووجه إعرابها مؤيدا ذلك من أقوال العرب في الشعر والنثر. ثم تتابع العلماء بعد ذلك في مؤلفات مستقلة وشروح مضمنة نأتي عليها في المطلب الثاني أن شاء الله.
المطلب الثاني: المصنفات في إعراب الحديث النبوي
لم يكن الاهتمام منصبا كثيرا على إعراب النص النبوي وبيان نحوه، إلا أن يكون ذلك في أثناء شرح حديث ما في كتب شروح الحديث أو في كتب غريب الحديث، لكن هذا النوع من العلم لم يخل من التأليف كما سبق بيانه، بل ألف فيه مصنفات وان كانت في بدايتها متأخرة نوعا، وهي على الترتيب الزمني كما يأتي ([21]):
"إتحاف الحثيث بإعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث "المعروف ب "إعراب الحديث النبوي " للإمام أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري المتوفى سنة 616ه، فقد أملاه إملاء على طلابه، أورد فيه أحاديث كثيرة معربا لها، ومبينا الأوجه النحوية في بعض نصوصها.
"شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" للعلامة جمال الدين، محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك، أبي عبد الله الطائي الجياني الإمام النحوي الشهير، صاحب "الألفية" في النحو والصرف، المتوفى سنة 672 ه.
وهذا الكتاب مطبوع بتحقيق الدكتور طه محسن، وهو عبارة عن جزء لطيف يحوي تعليقات ونكتا نحوية ولغوية على بعض المواضع في "صحيح البخاري".
"عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد" للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، السيوطي، المتوفى سنة: 911 هـ، حققه وقدم له: د. سلمان القضاة.
قال السيوطي في مقدمة كتابه: "وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع، وغيث على رياض كتب المسانيد والجوامع هامع، شامل للفوائد البدائع شاف. كافل بالنقول والنصوص كاف، أنظم فيه كل فريدة، وأسفر فيه النقاب عن وجه الخريدة، وأجعله على مسند أحمد، مع ما أضمه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشئ له من بحار كتب العربية كل سحابة"([22]).
أمالي السهيلي أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الأندلسي المتوفى سنة 581 ه. صاحب كتاب الروض الأنف في السيرة النبوية. وقد حقق الكتاب الأستاذ محمد إبراهيم البنا، وتناول أربعا وسبعين مسألة في النحو واللغة؛ هي أجوبة للسهيلي، تناولت مشكلات وقعت في بعض الأحاديث. والكتاب يقع في 158 صفحة.
"التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح" لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المصري المتوفى سنة 794 ه، وهو كتاب تناول فيه مؤلفه ما وقع في صحيح البخاري من لفظ غريب أو إعراب غامض، أو ما يتعلق بنسب وتسمية الرواة، وغير ذلك. والكتاب طبع بتحقيق يحي بن محمد علي الحكمي في ثلاثة مجلدات، وأيضا بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية ببيروت.
"مصابيح الجامع" للقاضي بدر الدين محمد بن أبي بكر بن عمر الدماميني القرشي الإسكندراني المتوفى سنة 827 ه، والكتاب عبارة عن شرح للجامع الصحيح للإمام البخاري، تناول فيه مؤلفه في الغالب المباحث اللغوية والنحوية، مع ما تضمنه من ضبط للرواة وتسمية للمبهمين وغير ذلك. وقد طبع الكتاب في عشرة مجلدات، من قبل وزارة الأوقاف القطرية بتحقيق نور الدين طالب.
أما بالنسبة للبحوث والدراسات التي تناولت هذا الجانب، فقد تقدمت في مقدمة هذا البحث.
المبحث الثاني: أمثلة علي تنوع الاعراب النحوي واثره في فهم النص النبوي
المثال الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) ([23]).
اختلف العلماء ([24]) في ضبط كلمة "ذكاة" الثانية، فأجاز بعضهم الإعراب بالرفع، وأجاز بعضهم الإعراب بالنصب، فالرفع باعتباره خبرا للمبتدأ ذكاة الأول، والنصب بنزع الخافض ([25])، والتقدير ذكاة الجنين كذكاة أمه، أي: يذكي مثل ذكاة أمه، فحذف الجار وانتصب الاسم بعده، أو على تقدير يذكي تذكية مثل ذكاة أمه، فحذف المصدر وصفته، وأقام المضاف إليه مقامه، فلا بد عنده من ذبح الجنين إذا خرج حيا ([26]).
وبناء على هذين الأعرابيين انقسم الفقهاء تجاه هذه المسألة إلى فريقين:
1-الجمهور، وهم: المالكية والشافعية والحنابلة، وأخذ به أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية ([27]) ذهبوا إلى الاكتفاء بذكاة الأم عن ذكاة جنينها الذي في بطنها، استدلالا بالحديث برفع ذكاة الثانية، وأن المعنى: أن ذكاة الجنين الذي في بطن أمه تغني عنه ذكاة أمه، ولأنه جزء من أجزائها، وذكاتها ذكاة لجميع أجزائها، ولان هذا إجماع من الصحابة ومن بعدهم، فلا يعول على ما خالفه، ولان الجنين متصل بها اتصال خلقة، يتغذى بغذائها، فتكون ذكاته ذكاتها ([28]).
قال الطيبي رحمه الله: (لعل أصل الكلام ذكاة الأم بمنزلة ذكاة الجنين في الحل، أي مغنية عن ذكاة الجنين، فقدم وأخر كقوله: "لعاب الأفاعي القاتلات لعابه". ونحوه قول العرب في الحلف: "سلمى سلمك، وحربي حربك، وهدامى هدمك") ([29]).
2-وذهب الإمام أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد إلى أن الجنين الميت لا يحل إلا أن يخرج حيا؛ فيذكى كذكاة أمه.
واستدلوا في ذلك بنصب (ذكاة) بنزع الخافض، وأصل الكلام: "ذكاة الجنين كذكاة أمه"، أي: يذكي مثل ذكاة أمه، بمعنى أنه لا تغني ذكاتها عن ذكاته.
واستدل أيضا بالأصل، وهو قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (المائدة: 3)، والجنين الذي لم يدرك حيا بعد تذكية أمه ميتة، ومما يؤكد ذلك أن حياة الجنين مستقلة، إذ يتصور بقاؤها بعد موت أمه، فتكون تذكيته مستقلة ([30]).
وقد ألف ابن جني في إعراب هذا الحديث رسالة نقل السيوطي عنه قوله فيها: "قد تنوع القول في هذا الحديث، وأولاها بالصواب وأجراها على مقاييس العربية وصناعة الإعراب: ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن تقديره: ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فأعرب حينئذ إعرابه، ومثل ذلك في حذف المضاف كثير، وذلك أن قوله (ذكاة الجنين) مبتدأ محتاج إلى خبر، وخبره إذا كان مفردا – أعني غير الجملة - فلا بد أن يكون هو المبتدأ في المعنى بما ذكرنا، وذلك قولك للنائب عنك: قبضك قبضي، وعقدك عقدي، أي قبضي قبضك، وعقدي عقدك، أي قبضك يقوم مقام قبضي، وعقدك يقوم مقام عقدي لو عقدت، فثبت قبض مخاطبك وعقده حقيقة، وقبضك وعقدك أي مجازا لا حقيقة، بل تكون منفية عنك"([31]).
اختيار الباحث
لكن الذي يظهر -والله تعالى أعلم -أن القول الأول هو الراجح، وأن قوله: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" جملة خبرية، جعل الخبر فيها مثل المبتدأ في الحكم والمعنى، فهي كقولك: "غذاء الجنين غذاء أمه".
كما أن للحديث سبب ورود أيد رواية الرفع "وأن ذكاة الأم تغني عن ذكاة جنينها، وهي من ضمن روايات الحديث، والتي رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ([32]) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين؟ فقال: كلوه إن شئتم". وفى لفظ: "يا رسول الله، ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ قال: كلوه أن شئتم. فإن ذكاته ذكاة أمه".
والشاهد في هذا المثال: أن تنوع الإعراب النحوي لكلمة في الحديث كان له تأثير واضح على تنوع الفهم بين العلماء لمعنى الحديث؛ بحيث تعددت الأقوال في مسألة ذكاة الجنين بتعدد الإعراب النحوي للحديث.
المثال الثاني: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: " كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، قال: فلما وقعت الشمس دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع حطمة الناس خلفه قال: " رويدا أيها الناس، عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع ..."([33]).
الشاهد هو قوله "عليكم السكينة"([34])، ف"السكينة" يكون الأعراب فيها: إما بالنصب على الأغراء، بمعنى: "الزموا السكينة"، واما أن يكون بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر؛ وخبره ما قبله ([35]).
قال السيوطي رحمه الله: "الوجه: أن تنصب السكينة على الإغراء " الزموا السكينة، كقوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (المائدة: 105)، ولا يجوز الرفع" لأنه يصير خبرا، وعند ذلك لا يحسن أن يقول: رويدا أيها الناس؛ لأنه لا فائدة فيه"([36]).
اختيار الباحث
الأعراب بالنصب، لأنه الأقرب للمعنى، والمقصود من الحال، ويؤيد ذلك رواية البخاري "عليكم بالسكينة"([37]) فالباء للاستعانة، وهي تؤدي معنى الجملة الإنشائية من الأمر بالسكينة والحث عليها.
المثال الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، وبلقائه، ورسله وتؤمن بالبعث". قال: ما الإسلام؟ قال: "الإسلام: أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال: ما الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، قال: متى الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، واذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان..."([38]).
الشاهد في هذا المثال هو قوله: البهم، فيجوز في إعرابه الرفع والجر ([39])، فالرفع نعت للرعاة، والجر نعت للإبل.
على الإعراب الأول وهو الرفع بحيث يكون نعتا للرعاة يكون وصفهم بالبهم إما:
لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه: أبهم الأمر فهو مبهم إذا لم تعرف حقيقته.
أو لأنهم سود الألوان، لان الأدمة غالب ألوانهم.
وقيل: معناه: لا شيء لهم، كقوله عليه الصلاة والسلام: "يحشر الناس حفاة عراة بهما"([40])، ولا يرد على هذا إضافة الإبل لهم؛ لأنها إضافة اختصاص لا ملك على هذا، والغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك فقل أن يباشر الرعي بنفسه. وعلى الإعراب الثاني وهو الجر بحيث يكون نعتا للإبل فوصف الإبل بالبهم، أي: السود، قيل: "لأنها شر الألوان عندهم، وخيرها الحمر التي ضرب بها المثل، فقيل: خير من حمر النعم"([41]).
فتأمل كيف تنوع الإعراب في كلمة واحدة فتغير المعنى تماما، لا سيما أنه يتعلق بعلامة من علامات الساعة.
والمقصود من التأويل: انقلاب الأوضاع وصيرورة رعاة الإبل الفقراء أغنى الناس؛ حتى إنهم يتكبرون على الخلق فيتعالون عليهم في البنيان.
اختيار الباحث
يختار الباحث الرفع في البهم، أنها صفة للرعاة، والسبب في وصف الرعاة بالبهم هو قلة مالهم، وأنهم لا يملكون شيئا.
ويؤيد ذلك رواية النسائي ([42]) بلفظ: "إذا رأيت الرعاء البهم يتطاولون في البنيان" المثال الرابع: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه -أو قال لجاره -ما يحب لنفسه"([43]).
وجه الشاهد قوله: "حتى يحب"، هل (يحب) بالنصب أو بالرفع، فالنصب على أنها منصوبة بأن المضمرة وجوبا بعد حتى ([44])، والجملة الفعلية كلها في محل جر بحتى، أو أنها مرفوعة على اعتبار حتى عاطفة، ويكون المعطوف عليه (يؤمن) وهو مرفوع، والعطف على المرفوع مرفوع مثله.
وقد رجح الحافظ ابن حجر والعيني أن الفعل يحب منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى، لان المعنى المراد يقتضي ذلك، وهو أن ما بعد حتى يقتضي خلاف ما قبلها، فالمؤمن ينبغي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعدم المحبة يقتضي عدم الإيمان.
قال الحافظ ابن حجر: "(يحب) بالنصب، لان (حتى) جارة، "وأن بعدها مضمرة"، و "ولا يجوز الرفع على أن (حتى) عاطفة، فلا يصح المعنى" إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبة"([45]).
وقال العيني: "قوله (حتى) ههنا جارة لا عاطفة، ولا ابتدائية، وما بعدها خلاف ما قبلها، وأن بعدها مضمرة" ولهذا نصب يحب، ولا يجوز رفعه ههنا "لان عدم الإيمان ليس سببا للمحبة"([46]).
اختيار الباحث
الإعراب يقتضي أن تعرب يحب بالنصب لا بالرفع، لان المعنى والسياق يدل على ذلك.
والشاهد فيه: أن اختلاف الإعراب قد يغير المعنى المراد في النص النبوي، كما أن المعنى المراد قد ينبني عليه تحدد الإعراب.
المثال الخامس: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم"([47]).
الشاهد في هذا المثال هو قوله: "أهلكهم"، فقد روي هذا الحديث على وجهين ([48])، بفتح الكاف في "أهلكهم"، وضمها.
قال أبو إسحاق -راوي صحيح مسلم -: "لا أدرى أهلكهم بالنصب، أو أهلكهم بالرفع"([49]).
على كلا الضبطين بفتح الكاف في "أهلكهم" أو وضمها يختلف الإعراب والمعنى، وذلك كالاتي:
فعلى ضبط الفتح يكون "أهلكهم" فعلا ماضيا، ومعناه: الغالين الذين يؤيسون الناس من رحمة الله، يقولون: "هلك الناس"، أي: استوجبوا النار بسوء أعمالهم، فإذا قال الرجل ذلك فقد أيسهم، وحملهم على ترك الطاعة والانهماك في المعاصي، فهو الذي أوقعهم في الهلاك ([50])، وقيل: معناها: هو جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة ([51]).
وعلى ضبط الضم يكون "أهلكهم" خبر على صيغة أفعل التفضيل، مرفوع وعلامة رفعه: الضمة الظاهرة على الكاف في أهلكهم.
ومعناه: أكثرهم هلاكا " لأنه يولع بعيوب الناس، ويذهب بنفسه عجبا، ويرى أن له عليهم فضلا ([52])، فيستحق الهلاك بسبب ذلك، والعياذ بالله.
اختيار الباحث
يختار الباحث رواية الرفع، وقد رجحها الحميدي والنووي ([53]) لأنها أشهر، ويؤيدها رواية الإمام أحمد في المسند ([54]) ولفظها: "إذا سمعتم رجلا يقول: قد هلك الناس فهو أهلكهم، يقول الله: إنه هو هالك".
ورواه أبو نعيم في الحلية ([55]) بلفظ: "فهو من أهلكهم" أي: من أشدهم هلاكا.
ووجه الاستدلال بهذه الرواية:
أن المقصود بوصف الهلاك في الرواية الأولى هو القائل نفسه وذلك بتصريح تعيينه في الرواية الثانية والثالثة.
فمن خلال هذا المثال يتبين أهمية الإعراب في تحديد المعنى المناسب للحديث، والذي قد يتبين بالقرائن الأخرى، كالروايات الأخرى، أو الأشهر في الرواية أو المعنى.
المثال السادس: حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست إليه، فقال لي: يا أبا ذر، هل صليت؟ قلت: لا. قال: قم فصل... إلى أن قال: قلت: يا رسول الله، فما الصلاة؟ قال: خير موضوع، فمن شاء أكثر ومن شاء أقل ..."([56]).
الشاهد هو قوله: "خير موضوع"، فيمكن أن يروى بضبطين:
(خير موضوع) بالضم دون صرف لـــ"خير" على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ لخبر محذوف، وهو مضاف؛ و"موضوع" مضاف إليه.
(خير موضوع) بصرف خير بالضم، واعتباره منعوتا، ونعته ما جاء بعده "موضوع".
قال الخطابي: "يروى على وجهين: أحدهما أن يكون "موضوع" نعتا لما قبله، يريد أنها خير حاضر، فاستكثر منه. والوجه الأخر: أن يكون الخير مضافا إلى الموضوع، يريد أنها أفضل ما وضع من الطاعات، وشرع من العبادات"([57]).
كلا هذين الإعرابين محتمل، فالنعت وارد، وفيه ترغيب أكيد في الاستكثار من الخير الحاضر على حد قوله سبحانه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (المائدة: 48).
كما أن الإعراب الثاني وهو الإضافة وارد، لا سيما أن من أغراض الإضافة التعبير عن التفضيل المطلق كقولهم: "زيد أحسن العمال".
يتبع