بسم بسم الله الرحمن الرحين :

زعم الدكتور حاتم العوني في كتابه : "تكفير أهل الشهادتين " أنَّ : مناط القول بكفر من يدين بتحريف القرآن هو : أن يعتقد قائل هذه القول ضياعَ الدين !! بمعنى : أن القائل بتحريف القرآن إذا لم يعتقد ضياع الدين ، فإنه لا يكفر حتى تقام عليه الحجة !


يقول في كتابه تكفير أهل الشهادتين :
)وأما مسألة تكفير من اعتقد أن في المصحف زيادة أو نقصا ، أي اعتقد وقوع تحريف فيه ، لكنه لم يعتقد ضياع الدين بهذا التحريف ، ولذلك فهو يدينُ لله تعالى بالإسلام وبهذا القرآن = فلا شك في بطلان قوله ، وأنه قد خالف أمرا معلوما من الدين ضرورة ، ومع ذلك فإنه لا يُكَفَّر حتى نعلم يقينا أنه قد عرف أن القرآن مصون من الزيادة والنقصان ، فإن عرف ذلك ، ثم اصر على ادعاء الزيادة والنقص فسيكون مكذبا أو معاندا أو معرضا أو شاكا في دلالة الشهادتين ، فيكون كافرا ، لأنه بغير هذه القيود لا يكون قد نقض دلالة الشهادتين ، على ما بيناه سابقا عندما تحدثنا عن اختلاف الفقهاء في البسملة في أول السورة ، هل هي من القرآن أم ليست من القرآن ، وعندما ذكرنا من كان يَحُكُّ المعوذتين من الصحابة ، ومن أدخل سورتي الحفد والخلع ) وهي دعاء القنوت ( لعدم علمه بنسخ تلاوتهما ، ومن أنكر قراءة متواترة .


فكل هؤلاء لم يُكَفَّروا ، رغم اعتقادهم نقصا وزيادة في القرآن ، لأنهم لم يلتزموا مع هذا الاعتقاد اعتقادا ينقض دلالة الشهادتين كما سبق
(. ، انتهى بحرفه من كتابه المذكور . ص 122.


وهذا القول من عجائب الأقوال ، واستدلاله عليه من عجائب الاستدلال ! فابنُ مسعودٍ على هذا في عَدَم إثباته قُرْآنية المعوذتين أول الأمر – في أحد القولين عنه - والصحابة الذين لم يثبتوا قرآنية البسملة ، وكذا الذين أثبتوها ، ومن أثبت سورة الحفد والخلع بعد نسخهما ، كل هؤلاء – عند الشيخ حاتم العوني – يقولون بتحريف القرآن ، لأنهم قالوا بالزيادة والنقص فيه !! وإذْ لَمْ يَكْفُروا وَلَمْ يُكَفَّروا بقولهم بذلك " التحريف ! = أي الزيادة والنقص "، فإن الروافض الذين يزعمون تحريفَ القرآن – مثلا – لا يكفرون إذا كانوا لا يعتقدون ضياع الدين ، أما إذا قالوا بـ "التحريف = أي الزيادة والنقص" واعتقدوا ضياع الدين فهم كُفَّار .



والجوابُ : أنَّ هذا قياسٌ فاسد – من أفسد ما يكون – بين صورتين مختلفتين متباينتين ، بيتنهما من الفرق ما بين السماء والأرض !

فالصورة الأولى : هي صورةُ الصحابي الجليل ، عبد الله بن مسعود ، الذي لم يُثْبت قرآنية المعوذتين أول الأمر ، إذ لم تبلغه قرآنيتهما ، وقد تأول له العلماء تأويلات حسنة ، وهو على كل حال لم تبلغه قرآنيتهما ، ثم أثبتهما آخر الأمر .


وأما الخلاف في البسملة : فكل من الصحابة قرأ بما سمع ، فمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأها قرأ بها وأثبتها، ومن لم يسمعه يقرأ بها لم يثبتها ، والأمر فيهما مثل لفظ : )هو( في قوله تعالى في سورة الحديد : )) فإن الله الغني هو الحميد(( بإثبات "هو" ، وفي قراءة أخرى متواترة : [ فإن الله الغني الحميد] من دون "هو"، ومثل ذلك قوله تعالى [تجري من تحتها الأنهار] و [ تجري تحتها الأنهار] ، بإثبات " من" وبدونها في سورة التوبة ، ولا يقال في مثل هذا : إنه تحريف للقرآن ، أو زيادَة أو نقص منه ، والله المستعان !


والصورة الثانية : هي صورة شخص أو أقوام دانوا بمعتقد كفري مُرَكَّبٍ من كُفرياتٍ عديدة : )1 ( اعتقاد ردة الصحابة جميعا إلا نفرا يسيرا ، )2( اعتقاد أن الصحابة تلاعبوا بالدين ، )3( اعتقاد أن الصحابة محوا من المصحف آيات الولاية وزادوا فيه آيات مدح الصحابة، ) 4( اعتقاد أن المصحف الصحيح عند الإمام المعصوم في السرداب ، وأنه من تسعة عشرة ألف آية ، )5( اعتقاد أن الدين لم يكتمل ، ولن يكتمل إلا بظهور الإمام المعصوم ! وكل واحدة من هذه من الفواقر التي تجتثُّ الإيمان من أصله ، لأن كل واحدة منها إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة .


فحقيقة الأمر في قصة ابن مسعود رضي الله عنه ، أنه لم تثبت عنده قرآنية المعوذتين أول الأمر ، كما أنكر عمر قراءة الصحابي هشام بن حكيم سورة الفرقان ، فلما ثبت لعمر قرآنيتها أقر بها ، وكذلك كان حال عبد الله بن مسعود مع المعوذتين ، وها هي أسانيده التي تنتهي إليه شاهدة على إقراره وإقرائه ، فإنه – رضي الله عنه – ما دان لله قط بالقول بتحريف القرآن ، ولا اعتقدَ أنه تلاعب به أحد وزاد فيه أو نقص ، ولا أن المصحف الذي بيد المسلمين مصحفٌ مخلوط لا يُدْرى حقُّه من باطله ، ولا أن المصحف الحقيقي مخفي في السرداب عند "الإمام المعدوم" !!!
فيا لله العجب ! أين هذا من هذا ؟!!


فصورة ابن مسعود هي أشبه ما يكون بصورة عمر بن الخطاب لما أنكر أول الأمر قراءة هشام بن حكيم ، وهي أشبهُ بما يحصلُ أحيانا بين الإمام والمُصَلّين حين يخطئُ في القراءة فيفتحون عليه ، فيَعود للقراءة الصحيحة .
فأين هذا من هذا ؟!
فهل يُقال في هذا : إن الإمام يدينُ بتحريفِ القرآن ، وتسويق ذلك بألفاظ توهم التشابه بين الصورتين ، فَيُقَدَّمُ الموضوع أول الأمر على تحقيق مناط كفر القائل بتحريف القرآن ، ثم يُغَيَّرُ لفظ "القول بتحريف القرآن " إلى : "الزيادة" و"النقص" في القرآن !
قد يقول معترض : هذه الصورةُ نسيانٌ من الإمام ، وابن مسعود لم ينسَ ، فالجوابُ أن يقال : كثيرا ما يعرضُ للمشتغل بحفظ القرآن أن يحفظ آياتٍ ويسقطَ منها شيئا ، ويبقى يقرؤُها كذلك ويكررها حتى يجد من يصححُ له ، ولَربما جادله أول الأمر ونازعه ، فهذه صورة أخرى غير النسيان ، وإنما سيقَ المثال لتقريب الفهم .

فهل يقال في مثل هذا : إن الإمام ، أو الطالب يدينُ الله بتحريف القرآن والزيادة والنقص فيه بمعنى أن ذلكَ التحريف والزيادة والنقص قد وقع فيه ؟!


وهل كان ابن مسعود رضي الله عنه ، والصحابة الذين اختلفوا في البسملة يدينون لله تعالى بوقوع التحريف والزيادة والنقص في القرآن ؟!!
هذا والله من أبشع الظلم أن نسوي بين صورة ابن مسعود رضي الله عنه ، وبين الروافض القائلين بهذا المعتقد الكفري المركب من كفريات عديدة، فالله المستعان .


ثانيا : ابن مسعود رضي الله عنه كان في زمن حديث عهد بنزول القرآن ، ولربما بقي شيءٌ من القرآن المنسوخ في بعض الأماكن على بعض الألسنة ممن لم يشهدوا أو يعلموا العرضة الأخيرة ، فالمرءُ معذور فيما لم يبلغه من القرآن ، وليس من الأمانة العلمية أن يقال في مثل هذه الصورة إنها تحريف للقرآن ، أو يذكر فيها لفظ الزيادة والنقص الموحي بالتحريف الذي يدين به الرافضة ، فزمن ابن مسعود رضي الله عنه كان حديث عهد بنزول القرآن ، وأما بعد انتشار المصاحف في الآفاق حتى بلغت ما بلغه الليل والنهار ، فصورة القائلين بالتحريف مخالفة تماما لصورة الصحابة مع البسملة والمعوذتين وما ذُكر من إنكار بعض الأئمة لبعض القراءات المتواترة .


بمعنى أوضح ، فأولئك االصحابة والأئمة المذكورون لم يكونوا يعتقدون وقوع التحريف في كلام الله ولا الزيادة فيه ولا النقص ، كل يحسبُ أن ما بلغه من القرآن هو كلامُ الله تعالى ويؤمن به ، ويدينُ الله بذلك ، وذلك حق وما لم يبلغهم قرآنيته فهم معذورون لأن المؤاخذة إنما تكون ببلوغ قرآنية ذلك القرآن ، فهم يعلمون أن ما با بين أيديهم هو كلام الله ، وليس مخلوطا بكلام البشر ، ويعتقدون أن ما بلغهم لم يتلاعب به أحد ، ولم يحرفه أحد ، وأما الروافض القائلون بالتحريف ، فإنهم يدينون الله تعالى أن هذا القرآن الذي بين أيديهم هو من تأليف وخلط ناس مرتدين ، محوا منه آيات الولاية والاستخلاف لعلي رضي الله عنه ، فلا يُدرى حقُّهُ – إن كان فيه حق – من باطله ، ويعتقدون وأن القرآن الحق هو مصحف فاطمة الذي يحتفظ به المعصوم في السرداب !


فالقول بتحريف القرآن هو في حقيقة الأمر عقيدة كفرية مركبة من عقائد كفرية كما تقدم ، ظلمات بعضها فوق بعض ، والعياذ بالله .


ثالثا : المصحف الموجود عند القائلين بتحريف القرآن قرآن مبدل ، لا يُدْرَى حَقُّه من "باطله " ، ولا شيءَ يميزُ الحق منه بالباطل ، ولا يعدو أن يكون مصحفا مؤقتا إلى حين ظهور الإمام ، فأين هذا ممن لم تبلغه سورة من القرآن أو حرفٌ منه ، ويؤمن أن القرآن محفوظ بحفظ الله له ، ثم لما بلغه القرآن أقر به كما حصل لعمر مع هشام بن حكيم ؟!


رابعا : ثم إن له ليس من الفقه ولا من الأمانة العلمية اسْتِلالُ لفظ "التحريف" من سياقه التاريخي العقدي الاثناعشري ، وتجريدُهُ من كل ذلك ، وقَصْرُهُ على المعنى اللغوي المحض الذي لا يُنبئُ بحقيقته ، ثم – بعد ذلك – تغليفه بلفظي : "الزيادة" و "النقص " ، ليسْهُلَ تمريره للناس على أن من الصحابة رضوان الله عليهم من كان يعتقد معتقد الروافض ، ويدينُ لله بتحريف القرآن ، غيرَ أنه مقرٌّ بأن الدين لم يضع !


خامسا: اشترط الدكتور حاتم العوني لتكفير القائل بتحريف القرآن أن يعتقد ضياع الدين ، فيا لله العجب ، كيفَ يجتمعُ القول بتحريف القرآن مع حفظ الدين ؟!! هذا لعمرُ الله من العجائب ، وهل الدينُ إلا القرآن والسنة الصحيحة ؟! فالقائل بتحريف القرآن قائل – لا محالة ولا ريبَ – بضياع الدين ، هذا إذا نزلنا إلى محض المناظرة والجدل ، ولم نضع هذه العقيدة في سياقها الواقعي والتاريخي ، وإلا فلا وجودَ لقائل بحفظ الدين من القائلين بتحريف القرآن من الروافض ، وهذا القول من الدكتور حاتم العوني ، هو كقول القائل في النصارى الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ، لا يُكفَّرون حتى يريدوا بالثلاثة : العدد الذي هو ثلاث وحدات ، فإن قصدوا بالثلاثة : الواحد ، فإنهم لا يكفرون حتى تقام عليهم الحجة أن الثلاثة ليست واحدا !!


سادسا : قد يكونُ هذا القائل لا يعتقد بضياع الدين ، لكن على مفهوم رافضي ، وهو أن الدين محفوظ ، لكن في السرداب عند الإمام المعصوم ، فإذا خرج أقامه ، وحكم بمصحف فاطمة الذي سينسخ أحكام هذا المصحف الذي أجمعت عليه الأمة إجماعا يقينيا لا يطرقُه مثقال ذرة من شك .

والحمد لله رب العالمين .