الإنسان و​التاريخ
​فيصل يوسف العلي


إن علم التاريخ علم عظيم المقدار، شهدت بفضله الآيات والأخبار، واعتنى بنقله الأثبات والأخيار، وأنفقوا في ذلك نفائس الأعمار، يطلع به العاقل على ما مر من الأعصار، فيزيده من الكياسة والاستبصار، بما حدث للأمم الماضية من الحوادث التي فيها عظة واعتبار، وإن لكل زمان رجالاً، ولكل حلبة مضماراً ومجالاً، فغير بدع إن تشبهت بالأوائل، وتأسيت بذوي العلم والفضائل، على أن تأخر الزمان لا ينافي التقدم في الإحسان، فقد يتأخر الهاطل عن الرعد، والنائل عن الوعد، ولقد كان من فضل أولئك الرواة الأخيار، أن كشفوا عن الأمة كل غمة بما رووا من الأخبار، وجلوا غياهب كل ظلمة بنيرات الآثار، ولولا هذا العلم الجليل حقا لماتت الدول، ولم يصل إلينا من أخبار الماضين غير الأقل، شكر الله صنيعهم، وعمّر بواسع مغفرته جميعهم.


وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات الواهية والضعيفة لفقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار من بعدهم واتبعوها، وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وفن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، وحتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط.


والهدف من هذا العلم، وقوف الإنسان على حقيقة نفسه، ليعرف طبيعته كإنسان، وما يستطيع أن يعمل أو يقدم لبني جنسه، للاستنارة بالماضي، لتجنب الأخطاء، والاستزادة من الصواب، لإصلاح الحاضر وبناء المستقبل، وثمرته الاتعاظ وكبح النفوس عن الاغترار بزهرة الدنيا والنظر بتقلب أحوالها..


في صورة الدهر ما أغنى عن العبر لذي فؤاد وذي فهم وذي نظر


وفي ليـــــاليه والأيـــــــام ناصــــحــة قد لــقنت قــــلب مغتر ومعتبر


ومنها ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها، وأنه لا يحدث له أمر إلا وقد تقدم هو أو نظيره فيزداد عقلا، ويصبح لأن يقتدى به أهلا.