آثر تخصيص العام
بالمصلحة المرسلة
د. حسن محمد عبدالله المرزوقي ([*])
ملخص البحث:
العام عند الأصوليين هو: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له، بحسب وضع واحد، دفعة واحدة من غير حصر.
وأما العموم : فهو القول المشتمل على شيئين فصاعدا.
والعام أنواع :
1- عام يراد به العموم قطعا، مثل قوله تعالى: (ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)، 6 - هود.
2 - عام يراد به الخصوص قطعا. مثل قوله تعالى: (ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً)، 97- آل عمران .
والتخصيص هو: قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل مقارن، أي قصر العام المطلق على بعض أفراده بدليل مستقل مقارن مسالم له من حيث القطعية والظنية أو قوة الدلالة.
المصلحة هي: كل منفعة قصدها الشارع الحكيم لعباده ، من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم ، أو كانت ملائمة لمقصودة، وفقا لشروط معينة.
وتخصيص العام بالمصلحة المرسلة موضع خلاف بين الفقهاء، وقد ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص العام بالمصلحة المرسلة؛ استنادا إلى مجموع النصوص والقواعد الكلية.
ومن الأمثلة على جواز التخصيص ؟ امتناع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من توزيع الأراضي المفتوحة - في العراق - على الفاتحين إذ الأصل أنها غنيمة توزع توزيع الغنائم ، وعمر رضي الله عنه توقف في توزيع الأراضي فقط، حيث رأى المصلحة في ذلك؛ لزيادة موارد الدولة ، ولعدم حرمان الأجيال اللاحقة من هذه النعمة ، وهذا تخصيص للعام، أقره الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا التخصيص ليس قصرا على مذهب دون غيره ، بل جل المذاهب أخذت به.
مقدمة:
الحمد لله الذي انزل على عبده القران ، ولم يفرط فيه من شيء، وجعل السنة له بيانا، وفرق بهديه بين الحق والباطل فرقانا، وبالصالحات امر ومدح فاعليها، وعن المفاسد نهى وذم مقترفيها، ومصالح الأنام جميعها مراعاة باتباع أمره، والمفاسد جميعها مدروأة بامتثال نهيه.
والصلاة والسلام على خير الأنام المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى اله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، حيث إن الله أودع فيها من الأحكام ما يمكنها أن توجه به أفعال المكلفين أينما كانوا وحيثما كانوا، ففي الشريعة يكمن تطور الإنسان، وفي اتباعها الفوز بسعادة الدنيا والآخرة، ولاشك أن فهم الدين ومقصود الشارع يتوقف على فهم النصوص الشرعية ، ولا سبيل إلى فهم معناها فهما صحيحا يؤهل إلى استنباط الأحكام إلا بالتعرف على المعاني التي وضعت الألفاظ لإفادتها من حيث عمومها وخصوصها وإطلاقها وتقييدها وغير ذلك.
ومن هنا غني الأصوليون باستقراء الأساليب العربية، وكذلك أساليب القران والسنة وبيانها للأحكام؛ لما فيها من ألفاظ وضعت لتستغرق جميع ما تصلح له من أفراد أو صفات تعرف بألفاظ العموم ، وان العموم قد يطرا عليه ما يخرج بعض أفراده التي يشملها في اصل الوضع ، أو يرد ما يظهر أن العموم غير مراد، أو يظهر ما يعارض العموم من مصلحة تتفق مع مقصود الشارع ونحو ذلك، كل ذلك جعل علماء الأصول يبحثون في مخصصات العموم، وقد اختلفوا فيها؛ مما أدى إلى الاختلاف في كثير من الأحكام؛ لذلك رغبت في بحث هذا الموضوع: أثر تخصيص العام بالمصلحة. وتقديمه في دراسة مستقلة، تجمع شتاته ، وتحلل الأقوال والآراء.
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وأربعة مباحث، والطريقة التي سرت عليها ما يلي:
المقدمة:
المبحث الأول : تعريف العام والخاص ودلالته ، وتعريف التخصيص والمخصصات .
المبحث الثاني : تعريف المصلحة وأقسامها وضوابطها وأدلة مشروعيتها.
المبحث الثالث : تخصيص العام بالمصلحة المرسلة.
المبحث الرابع : تطبيقات تخصيص العام بالمصلحة المرسلة.
الخاتمة : تضمنت نتائج البحث وخلاصته.
وقد سلكت في هذا البحث المنهج الاستقرائي ، وذلك بتتبع الأقوال والأدلة والمسائل المتعلقة بتخصيص المصلحة، وقرنت ذلك بالمنهج التحليلي.
أسأل الله عز وجل أن يكون هذا البحث قد أصاب الحق فيما ذهب إليه، وأن يكون خالصا لجهه الكريم . وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
المبحث الأولى
تعريف العام والخاص
في هذا المبحث سأتحدث عن العام من حيث تعريفه ودلالته وتعريف الخاص وأنواع المخصصات في مطلبين:
المطلب الأولى
تعريف العام في اللغة والاصطلاح
العام في اللغة: اسم فاعل من عم بمعنى شمل، وهو مشتق من العموم، وهو الشمول والإحاطة. ومنه: قولهم: "عمهم الخير، ومطر عام، وخصب عام " إذا عم الأماكن كلها، وشملهم وأحاط بهم ([1]).
ويأتي العام بمعنى الكثرة ، ومنه : قولهم : " عامة الناس " أي : لكثرتهم في البلاد ([2])، والعموم يشتمل على معنيين : استيعاب الشيء وشموله ، والكثرة والاجتماع ([3]).
المطلب الثاني
تعريف العام في الاصطلاح
اختلف الأصوليون في تعريف العام؛ لاختلافهم في اشتراط الشمول والاستغراق في العموم ، أو الاجتماع والكثرة فقط ([4])، وجرت بينهم مناقشات حول التعريف الجامع المانع.
ولعل ابرز تعريف للعام هو : اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له، بحسب وضع واحد، دفعة واحدة، من غير حصر ([5]).
وأما العموم : فهو القول المشتمل على شيئين فصاعد ([6]).
والفرق بينهما: ان العام هو اللفظ المتناول، والعموم هو تناول اللفظ لما صلح له، فالعموم مصدر، والعام اسم فاعل مشتق منه، وهما متغايران؛ لأن المصدر الفعل ، والفعل غير الفاعل ([7]).
المطلب الثالث
أنواع العام ودلالاته
يتنوع العام باعتبار علاقته بالخاص إلى ثلاثة أنواع ([8])، وهي كما يلي:
1- عام يراد به العموم قطعا: وهو العام الذي وجدت معه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، فهذا العام يجب العمل بعمومه، ولا يجوز تخصيصه، كما في قوله تعالى: (ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) ([9])، فقد قررت هذه الآية سنة إلهية عامة ، لا تتبدل ولا تتغير، ولا تتخصص، فالعام فيها قطعي الدلالة على العموم ، ولا يحتمل أن يراد به الخصوص .
وهذا النوع لا خلاف بين العلماء انه يتناول جميع أفراده قطعا.
2 - عام يراد به الخصوص قطعا: وهو العام الذي وجدت معه قرينة تنفي بقاءه على عمومه ، وتدل على انه يراد منه بعض أفراده لا كلهم، كقوله تعالى: (ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً) ([10])، وقوله تعالى: (وأَقِيمُوا الصَّلاةَ)([11])، وقوله : (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)([12]).
فلفظ " الناس " ، وضمير الجماعة في (أقيموا)، و(من) من ألفاظ العموم ولكن يراد بها بعض المكلفين لا كلهم؛ لأن العقل يقضي بإخراج الصبيان والمجانين ونحوهم من عديمي الأهلية من واجب التكليف، ومن حكم هذا النص وهذا النوع لا خلاف فيه في انه لا يتناول الباقي من أفراده - ولو على سبيل الظن - وإنما يراد به الخصوص، فدلالته دلالة الخاص، أي دلالة قطعية.
3- عام مخصوص: وهو العام المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم، ويوجد هذا النوع من العام في كثير من النصوص التي وردت فيها صيغ العموم مطلقة من القرائن اللفظية، أو الفعلية، أو العرفية التي تعين العموم أو الخصوص، وهذا ظاهر في العموم حتى يقوم الدليل على تخصيصه ، وذلك مثل قوله تعالى: (والْمُطَلَّقَا ُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)([13]).
وهذا النوع اختلف العلماء في دلالته، هل هي دلالة قطعية أو دلالة ظنية، علي قولين:
ذهب جمهور الأصوليين إلى أن دلالة العام على شمول جميع أفراده. دلالة ظنية لا قطعية قبل التخصيص وبعده، بمعنى أن العموم راجح من اللفظ، والخصوص محتمل احتمالا مرجوحا، فدلالة العام على جميع أفراده دلالة ظنية لا قطعية، فهي تحتمل الخصوص الناشيء عن دليل ([14]).
قالوا : لأن الغالب في العام تخصيصه ، وعلى هذا دل استقراء النصوص الشرعية التي وردت فيها لفاظ العام، فما من عام إلا وقد خصص إلا في القليل النادر، حتى شاع بين أهل العلم : انه ما من عام إلا وقد خص منه البعض، فإن كان تخصيص العام هو الغالب الشائع ، فإن إحتمال تخصيصه يكون قريبا، لا وهما ولا توهما، وبالتالي لا تكون دلالته على الاستغراق قطعية.
2- ذهب اكثر الحنفية إلى أن دلالة العام على جميع أفراده دلالة قطعية لا ظنية ، ما لم يخصص، فإذا خصص صارت دلالته على ما بقي من أفراده ظنية لاقطعية ([15]).
قالوا: لأن اللفظ العام وضع لغة لاستغراق جميع أفراده ، وهذا هو المعنى الحقيقي للفظ العام ، فيلزم حمله عليه عند إطلاقه ، ولا يجوز صرفه عنه إلا بدليل يدل على تخصيصه وقصره على بعض أفراده .
وبناء على هذا: تكون صيغة العام لا تنصرف عن العموم إلا بدليل ، ولا دليل هنا؛ لأن الكلام في صيغة العام المجرد عن القرائن، والخاص مثل العام في ذلك، فإنه يثبت به ما وضع له على سبيل القطع، ولا ينصرف عنه إلى غيره إلا إذا قام الدليل على ذلك.
المطلب الرابع
تعريف الخاص والتخصيص في اللغة والاصطلاح
أولاً- تعريف الخاص:
الخاص في اللغة : هو المنفرد من قولهم : اختص فلان بكذا، أي انفرد به.
الخاص في الاصطلاح: اللفظ الدال على مسمى واحد أو كثرة مخصومة ([16])، أي: اللفظ الذي وضع واحداً للدلالة على معنى واحد على سبيل الانفراد، أو على كثير محصور ([17]).
ثانيا - تعريف التخصيص:
التخصيص في اللغة: بخلاف العموم والتعميم بمعنى الإفراد، يقال: اختص فلان بكذا، إذ انفرد به دون غيره، ويقال: خصني فلان بكذا، أي أفردني به؛ لأن الخاص معناه المنفرد ([18]).
والتخصيص مصدر خصص يرد لغة لمعنى ، هو: تمييز بعض الجملة بحكم، ولذا يقال: اختص فلان بكذا، إذا تميز به دون غيره، ومن هذا المعنى قولهم: خاصة الشيء: وهي كل ما يختص بذلك الشيء، ولا توجد في غيره كلا، أو بعضا، فيكون الحكم ثابتا بذلك المخصص لذلك الشيء منفيا عما سواه ([19]).
ويعلل ابن فارس انفراد الشيء إذا خصصته بأن ذلك يعود لأصل دلالة "خص" على الفرجة؛ لأنه إذا افرد واحد، فقد أوقع فرجة بينه وبين غيره، والعموم بخلاف ذلك ([20]).
التخصيص في الاصطلاح: اختلف الأصوليون في تحديد معنى التخصيص.
1 - عرفه الحنفية بأنه : قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل مقارن ([21])،
أي: قصر العام المطلق على بعض أفراده بدليل مستقل مقارن مساو له من حيث القطعية والظنية أو قوة الدلالة ([22]).
2 - عرفه جمهور الأصوليين بأنه : قصر العام على بعض مسمياته بدليل ([23])، أي: صرف العام عن عمومه، وقصره على بعض ما يتناوله من الأفراد لدليل يدل على ذلك ([24])، دون النظر إلى نوعية الدليل من حيث كونه قطعيا أو ظنيا، مستقلا أم غير مستقل، مقارنا في الزمن أم غير مقارن ([25]).
ومن خلال تعريف التخصيص عند الحنفية والجمهور يتبين اتفاقهم على جواز صرف العام عن عمومه إلى إرادة بعض أفراده بدليل، إلا أن الخلاف وقع بينهم فيما يجب توافره في الدليل الذي يدل على هذا الصرف؛ ليكون ذلك تخصيصا، فالتخصيص عند الجمهور بيان وتفسير للعام، لا يقوم على أساس المعارضة بين الخاص والعام؛ لعدم تساويهما من حيث قوة الدلالة ، فالعام ظني الدلالة، والخاص قطعي، ولا يستوي ظني وقطعي، وبالتالي لا يقوى الظني على الوقوف أمام القطعي ومعارضته ، فيقدم القطعي - وهو الخاص - على الظني وهو العام - مطلقا، سواء أكان الخاص متأخرا عن العام أم متقدما في تاريخ تشريعه، أم جهل التاريخ، وسواء أكان كلاما مستقلا بنفسه، قائما بذاته ، مفيدا لمعناه، أم كان غير مستقل ، بأن كان جزءا من كلام سابق ، كالاستثناء والصفة، والغاية والشرط ([26]).
أما الحنفية : فيرون أن التخصيص نوع من البيان؛ لأنه يقوم على دليل يبين إرادة الشارع الخصوص ابتداء، ولكنه يتضمن معنى المعارضة؛ لأن العام والخاص دليلان قطعيان تدافعا بحكمهما في القدر الذي اختلفا فيه، واشترطوا في الدليل المخصص ثلاثة شروط هي ([27]):
1- أن يكون دليل التخصيص مستقلا: أي: لا يكون جزءا من النص العام، فإن كان دليل التخصيص غير مستقل، بأن كان جزءا من النص لا يفهم له معنى إلا بضم سابقه إليه كالاستثناء والشرط والغاية فلا يعتبر تخصيصا للعام .
2 - أن يكون مقارنا للعام في زمن تشريعه، أو تاريخ نزوله، أو وروده ، أو صدوره، لا متراخيا عنه: فلو صدر المخصص مستقلا، ولكنه غير مقارن للعام ، أو غير صادر معه في وقت واحد: فلا يسمى قصر العام به على بعض أفراده تخصيصا، بل يكون نسخا.
3 - ان يكون مساويا للعام: من حيث القطعية والظنية، أو قوة الدلالة.
هذا ويقصد بالمخصصات الأدلة التي تخرج العام عن عمومه إلى الخصوص ، سواء أكان الدليل المخصص نصا، أم كان غير ذلك، ويختلف عدد هذه المخصصات كثرة وقلة عند كل فريق من الأصوليين ، تبعا لاختلافهم في مفهوم التخصيص وشروطه التي تفرعت عن ذلك.
وقسم جماهير الأصوليين المخصصات إلى قسمين:
القسم الأول: المخصصات المتصلة (غير مستقلة ): وتكون بما لا يستقل بنفسه، بل يتعلق معناه بما قبله من اللفظ المرتبط به، ويكون جزءا من النص المشتمل على العام ، وتشمل المخصصات التالية ([28]):
الاستثناء: كما في قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً)([29]) فقد اخرج الله سبحانه وتعالى من عموم الليل بعضه، فكان هذا القليل مخصصا من استغراق العام بأداة دالة على الاستثناء.
الشرط : وذلك بتعليق امر بأمر، بإحدى أدوات الشرط الموضوعة في اللغة ، كما في قوله تعالي: (ولَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ ولَدٌ)([30]) فالشرط قصر استحقاق الزوج نصف ميراث زوجته في كل حال على حالة عدم وجود الولد، ولولاه لأفاد النص استحقاقهم للنصف في جميع الحالات .
الصفة : وهي كل ما كان فيها وصف لما قبلها، وتوجب قصر العام على ما توجد فيه فقط، كما في قوله تعالى: (ومَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ)([31]) فقد قصر جواز نكاح الإماء بالمؤمنات فهن دون غيرهن ولولا هذه الصفة لجاز نكاح أي أمة في حال العجز عن نكاح الحرائر المسلمات .
الغاية: وذلك لمجيء حرف دال على الانتهاء بعد اللفظ العام لينهي حكم العام، كما في قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ)([32]) فقد قصرت الغاية وجوب الصيام على النهار فقط، وما بعده يكون حكمه في الوجوب بخلاف حكمه.
القسم الثاني: المخصصات المنفصلة (المستقل) : وهو ما استقل بنفسه، ولا يكون جزءا من الكلام الذي اشتمل على اللفظ العام ، وتشمل المخصصات التالية ([33]):
العقل : فهو يخرج من العموم بعض أفراد العام ، فيمصر الحكم عنهم، كما في قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)([34]) فلفظ (من) اسم موصول من صيغ العموم ، يدل على التكليف عام، ولكن العقل خصصه ، إذ يقضي بإخراج من ليس أهلا للتكليف كالصبيان والمجانين لاستحالة تكليف من لا يفهم الخطاب .
العرف : فإذا جاء عرف الناس على إرادة بعض الأفراد من العام ، فإن هذا العام يحمل على ما يقضي به العرف وعلى هذا فإذا أوصى رجل بجميع دوابه، وكان الموصي في بلد يقضي العرف فيه بإطلاق الدابة على الخيل خاصة ، فإن العرف يخصص الموصي بالخيل دون غيرها من الدواب ([35]).
النص : سواء أكان موصولاً بالعام، أي مذكورا عقبه ، كقوله تعالى: (وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا)([36])، فإن لفظ (البيع) عام يشمل كل ما هو مبادلة مال بمال، فيدخل في عمومه الربا؛ لأن الربا مبادلة مال بمال أيضاً، ولكن خص منه الربا بنص مستقل عن جملته موصول به في النزول وهو قوله سبحانه: (وحرم الربا)، وبهذا النص صار البيع غير شامل لجميع أفراده بالنسبة لحكمه وهو الحل، أم منفصلا عنه، كقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ)([37])، فلفظ (الميتة) عام يشمل كل ميتة سواء أكانت من ميتة حيوان البر أو البحر، وقد خصص هذا العام بقوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" ([38])، فصارت الميتة المحرم كلها لا تشمل ميتة البحر.
القياس: كقوله تعالى: (فَإذَا أُحْصِنَّ فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ)([39]) فهذه الآية وردت في الأمة إذا زنت، فإنه ينتصف عليه الحد، فقاس العلماء العبد عليها لتساويهما في الرق، وخصصوا بهذا القياس عموم قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)([40]).
الإجماع : كحرمان الابن الرقيق من ميراث أبيه الحر، المخصص لعموم قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ)([41]).
المصلحة المرسلة : وهذا ما سنبحثه في هذا البحث.
وهناك مخصصات أخرى كالدليل السمعي، والمفهوم، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره وقول الصحابي والسبب ونحو ذلك ([42]).
المبحث الثاني
المصلحة
نظر علماء الشريعة الإسلامية نظرة فاحصة واسعة فهداهم نظرهم إلى أن الشريعة تهدف إلى تحقيق مصالح العباد، وذلك استنباطا من مصادرها الأصلية والتبعية.
لذا : يقول الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات: (استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراع لا ينازع فيه)([43]).
وبهذا المعنى قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن الشريعة الباهرة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها ...)([44]).
ونقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب وهي كما يلي:
المطلب الأول
تعريف المصلحة
أولاً - تعريفها لغة ([45]):
المصلحة لغة: من الفعل صلح، والصلاح ضد الفساد والمصلحة كالمنفعة وزنا ومعنى، فهي إما مصدر بمعنى: الصلاح كالمنفعة، بمعنى النفع ، وإما اسم للواحدة من المصالح، ويقال في الأمر مصلحة أي: خير.
والمنفعة: هي اللذة تحصيلا أو إبقاء، والمراد بالتحصيل جلبها، وبالإبقاء المحافظة عليها.
ثانياً - تعريفها اصطلاحا:
عرفها الغزالي ([46]) رحمه الله تعالى بقوله: "أا المصلحة : فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنا نعني بالمصلحة، المحافظة على مقصود الشرع ، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة، واذا اطلقنا المعنى المخيل أو المناسب في باب القياس أردنا به هذا الجنس".
ومن المعاصرين ([47]) من عرف المصلحة بأنها: وصف للفعل يتحصل به الصلاح أي النفع منه غالبا، أو دائما للجمهور، أو الآحاد.
ويلخص الدكتور بوركاب في كتابه المصالح المرسلة ([48]):
بأن المصلحة هي: "كل منفعة قصد الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم، أو كانت ملائمة لمقصودة وفق شروط معينة ".
المطلب الثاني
أقسام المصلحة
قسم الأصوليون المصلحة عدة تقسيمات وباعتبارات مختلفة واقتصر على ذكر أهمها حسب طبيعة البحث.
أولاً: من حيث اعتبار الشارع لها وعدم اعتباره لها، أو السكوت عنها.
وبهذا الاعتبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول - المصالح المعتبرة:
وهي التي قام الدليل الشرعي على اعتبارها إما نصا أو إجماعا أو بترتيب الحكم على وفقها في صورة بنص أو إجماع، وهذه المصالح يجوز التعليل بها وبناء الحكم عليها، وذلك باتفاق القائلين بحجية القياس .
وهي بهذا المعنى حجة لا إشكال فيها من حيث الصحة عند الجميع – لذا يقول الإمام أبو حامد الغزالي ([49]) رحمه الله تعالى: "إن المصلحة يرجع حاصلها إلى القياس، وهو اقتباس الحكم من معقول النص، أو الإجماع، والدليل قائم باعتباره، فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة".
ومثال ذلك: حفظ العقل وذلك بتحريم كل مسكر من مشروب، ومأكول ابتداء أو تبعا.
وهي تتنوع من حيث قوتها في ذاتها إلى ثلاثة أنواع: مصالح ضرورية، ومصالح حاجية، ومصالح تحسينية.
النوع الأول - المصالح الضرورية:
وهي التي تتوقف عليها حياة الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وتنحصر في المحافظة على الأمور الضرورية أي الأساسية الجوهرية وهي الخمسة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
النوع الثاني - المصالح الحاجية: وهي:
الأمور التي شرعت للتيسير على الناس ورفع الحرج عنهم، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات كالتخفيف ورفع الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب.
النوع الثالث: المصالح التحسينية ([50]): ويقال لها التكميلية والتنزينية وهي: الأمور الكمالية التي ترجع إلى المروءة ومكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
القسم الثاني - المصالح الملغاة:
وهي التي : قام الدليل الشرعي على إلغائها وعدم اعتبارها، وهذ المصالح الملغاة لا يصح التعليل بها وبناء الحكم عليها، وذلك باتفاق الفقهاء، وإن ظهر للعقل صلاح فيها؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير حدود جميع التشريعات وعندها لا يصبح للشرع أي اعتبار ([51]).
ومثال ذلك: الانتحار: فإنه قد يجلب لصاحبه مصلحة تتمثل في التخلص مما يعانيه المنتحر من ألم مرضي ، أو ألم حرمان ، أو ظلم حاكم ، إلا أن الشارع لم يعتبر هذا النوع من المصالح؛ لأنه يفوت مصلحة اكبر منها وهي القضاء على النوع البشري من ناحية أخرى ، خاصة إذا كان ذا مكانة علمية عالية، بالإضافة انه لا يملك روحه حتى يزهقها، ولذا نص الشارع على إلغائه بصريح الكتاب والسنة كما في قوله تعالى: (ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّّهِ يَسِيرًا)([52]).
القسم الثالث - المصالح المرسلة:
وهي المصالح التي سكت عنها الشارع فلم يشهد لها بالاعتبار ولا بالإلغاء.
لذا عبر العلماء عن المصلحة المرسلة بعدة مصطلحات :
فبعضهم عبر عنها بالمناسب المرسل ([53])، وبعضهم بالاستصلاح ([54])، والآخر بالاستدلال ([55]).
والمراد بالمصلحة المرسلة ([56]): هي كل منفعة لم يشهد لها نص خاص بالاعتبار أو الإلغاء، وكانت ملائمة لمقصود الشارع وما تفرع عنه من قواعد كلية استقرأت من مجموع نصوص شرعية.
ويتضح من التعريف أن المصالح المرسلة لا تكون إلا في الوقائع التي سكت الشارع عن بيان كلها وليس لها أصل معنى تقاس عليه، إلا أنها تلائم تصرفات الشارع بحيث يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معنى ([57]).
المطلب الثالث
الأدلة على اعتبار المصلحة المرسلة
ويمكن الاستدلال على حجية العمل بالمصلحة المرسلة بالأدلة الآتية:
1 - قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ)([58]).
وجه الاستدلال في قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا) فهو أمر بالمجاوزة، والاستدلال بكون الشيء مصلحة على كونه مشروعا مجاوزة، فوجب دخوله تحت النص ([59]).
2 - قوله تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ([60]).
وجه الاستدلال: إنما يكون إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة لهم إذا كانت الشريعة التي بعث بها إليهم وافية بمصالحهم متكلفة بإسعادهم وإلا لم تكن بعثته رحمة بهم ([61]).
ثانياً- السنة:
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ - رضي الله عنه – لما أرسله إلى اليمن: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟" قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر معاذ وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله" ([62]).
وجه الاستدلال ([63]): إن النبي صلى الله عليه وسلم أقر معاذاً على الاجتهاد بالرأي إذا لم يجد في الكتاب أو السنة، ومعلوم أن اجتهاده يكون في إطار ما تقتضيه القواعد الكلية ومجموع النصوص من جلب المصالح ودرء المفاسد، والمصالح المرسلة لا يخرج عن هذا؛ لأنه تشريع للحكم الذي يحقق المصلحة العامة للناس ، وتحقيق المصالح هو المقصود للشارع من تشريع الأحكام .
ثالثا إجماع الصحابة وعملهم ([64]):
إن الصحابة قد بنوا كثيرا من الأحكام على المصلحة المرسلة، ولو لم تكن حجة شرعية ما بنى الصحابة عليها كثيرا من الأحكام من ذلك : اتفاقهم علي جمع المصاحف في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وكذلك: اتفاقهم على تدوين الدواوين، وقتل الجماعة بالواحد وتضمين الصناع وغيرها من القضايا والمسائل والأحكام التي المصلحة فيها ظاهرة.
رابعاً- الأدلة العقلية ([65]):
حيث إن الحياة في تطور مستمر ومن خلال هذا التطور تتجدد مصالح الناس، وان هذه المصالح الدنيوية المشروعة ووسائلها غير منضبطة وغير محدودة ، فقد تتغير بتغير الزمان ، فلو اقتصرنا على المصالح المنصوص عليها ولم نعتبر المصالح المرسلة لأدى ذلك إلى عدم مسايرة التشريع لمصالح الناس وجموده عن الاستجابة لها وقصوره عن ضروريات حياتهم وذلك لا يتفق مع مقاصد الشرع الذي جاء في الأساس لجلب المصالح ودرء المفاسد.
وإذا كانت المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع ومن جنس ما أقره؛ فإن الأخذ بها يكون موافقا لمقاصده، وإهمالها إهمال له، ولا يجوز أن تهمل مقاصد الشرع فيما شرع فيجب الأخذ بالمصلحة على اعتبار أنها أصل متلاق مع أصول الشرع ، غير منافر لأصوله ولا خارج عنها ([66]).
المطلب الرابع
ضوابط العمل ي بالمصلحة المرسلة
دعت الشريعة الإسلامية إلى تحصيل المصالح والمحافظة عليها، ونهت عن إضاعتها والتفريط بها سواء تمثلت المصالح بجلب المنافع أو دفع المفاسد، حتى تكون المصالح شرعية وحقيقية ينبغي أن تضبط بضوابط تميزها وهي:
1- أن لا تخالف المصلحة دليلا من أدلة الشرع القطعية : أي أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع فلا تخالف أصلا من أصوله ولا تنافي دليلا من أدلة أحكامه بل تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها أو قريبة منها، فإن خالفت المصلحة دليلا من هذه الأدلة لم يصح العمل بها ([67])، وعلى هذا لا يصح اعتبار المصلحة التي تقتضي مساواة البنت والابن في الميراث لتساوي الابن والبنت في القرابة، وذلك لقيام الدليل الشرعي على إلغائها وهو قوله تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)([68]).
هذا وقد يرد على هذا الشرط انه لا يتمشى على أصول الحنفية، بان دلالة العام قطعية فكيف نخصص العام ؟
والجواب : إن المشهور عن الحنفية انهم لا يأخذون بدليل المصلحة أصلاً، ولكن المتتبع لاجتهاداتهم يرى انهم يخصصون العام بالمصلحة المرسلة أحياناً، وذلك إذا كانت المصلحة في مستوى الضرورة ، لأنها حينئذ تكون في حكم القطعية، كقبولهم شهادة التسامع في عشرة مواضع مبينة في كتبهم ، وخصصوا بها قول النبي صلى الله عليه وسلم للسائل لما سئل عن الشهادة: "هل ترى الشمس؟" قال: نعم. قال: " على مثلها فاشهد وإلا فدع"([69])0 الذي يوجب العيان في تحمل الشهادة في جميع الشؤون عامة، مثل: الشهادة على ثبوت الوقف ([70]).
2- أن تكون المصلحة محققة : أي يتحقق جلب المنفعة أو دفع المفسدة قطعا أو غالبا، إذا كانت المصلحة متوهمة أو مظنونة فلا يجوز العمل بها؛ لأن جلب المنفعة ودفع المضرة أمر متوهم غير متحقق، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح بناء الحكم عليها، كالمصلحة التي تتوهم في سلب الزوج حق طلاق زوجته وجعل الطلاق بيد القاضي في جميع الحالات، فإن الضرر الذي يترتب على ذلك يفوق المنفعة المترتبة على اعتبارها، وهو تجريد الرجل من القوامة وسلب سلطاته ([71]).
3- أن تكون المصلحة عامة: أي أن يكون بناء الحكم عليها يحقق المنفعة لأكبر عدد من الناس أو يدفع المضرة عنهم كالمصلحة التي تترتب على التسعير لمحاربة غلاء الأسعار الناشيء من الاحتكار وتحكم التجار، أما إذا كانت المصلحة خاصة وتريب على بناء الحكم عليها جلب مصلحة أو منفعة لفرد معين أو أفراد مخصوصين ودفع مفسدة عنهم – كطائفة العمال أو الرأسماليين دون باقي الأمة فلا يعمل بها ولا يصح تشريع الحكم بناء عليها.
4- أن تكون المصلحة معقولة في ذاتها: أي أن تكون جارية على الأوصاف المناسبة المعقولة التي تتلقاها أصحاب العقول بالقبول، فإن كانت المصلحة غير معقولة فلا يصح اعتبارها وبناء الحكم عليها ([72]).
المبحث الثالث
تخصيص العام بالمصلحة المرسلة
المطلب الأول
علاقة المصلحة المرسلة بالنصوص الشرعية
تنقسم النصوص الشرعية إلى قسمين:
1- نصوص عامة: وهي القواعد الكلية العامة التي استنبطت من استقراء النصوص كقاعدة: (الأمور بمقاصدها) ([73])، وقاعدة : (المشقة تجلب التيسير) ([74])، وقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) ([75]) وغير ذلك من القواعد، فالمصالح المرسلة يجب أن تكون ملائمة للنصوص العامة، وإلا فلا يؤخذ بها.
2 - نصوص خاصة: وهي نصوص القران الكريم والسنة، وعلاقة المصالح المرسلة بهما تتوقف على نوعية دلالة هذه النصوص :
أ- إذا كان النص قطعي الثبوت والدلالة: وهو القران والسنة المتواترة، فيجب أن تكون المصلحة المرسلة موافقة للنص، فإن عارضت المصلحة النص، تكون مصلحة باطلة ملغاة؛ لأن النص القطعي مقدم على النص الظني؛ لأن المشرع إذ شرع النص القاطع في مسألة معينة، فقد أشار إلى أن المصلحة التي تتعلق به حقيقة دائمة، لا تتغير بتغير الظروف، أو البيئة، أو العصر؛ لأنها في جوهرها من صميم مفهوم العدل، أو تنطوي عليه قيمة إنسانية خالدة، حرص الشارع الحكيم على ترسيخها في المجتمع بنص قطعي صريح واضح محكم، فاستبعده بذلك من مجال التخصيص والتأويل والاجتهاد بالرأي ([76]).
وكل مصلحة مرسلة تعارض نصا قطعيا، ليس في الواقع مصلحة حقيقية، بل وهمية لا تقوم على أساس؛ ولذا أطلق عليها الأصوليون اصطلاح: المصلحة الملغاة، فمثلا: جلد الزاني في قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ([77]) معارض لمصلحة كلية ، وهي حفظ النفس؛ لأن حفظ النفس مقدم على حفظ النسل، ولكن هنا قدم حفظ النسل على حفظ النفس، وأوجب الجلد الذي فيه إيلام للنفس، وقد يؤدي إلى ذهابها كليا من الوجود.
المصلحة الكلية - وهي حفظ النفس - مصلحة غير معتبرة هنا؛ لمعارضتها لنص قطعي، وهو وجوب الجلد؛ لأن المصلحة في إثبات العقوبة، وليس في تركها زجر عن إتيان الفاحشة؛ لما يترتب عليه من مفاسد: كقطع النسل والنسب وفساد المجتمع؛ لأن الزاني إن ترك بلا عقوبة تمادى في الزنا، فيؤدي ذلك إني انتشاره بين المجتمع من غير نكير، فتشيع الفاحشة، وتظهر الأمراض كمرض الإيدز ونحوه.
والانتحار وقتل النفس قد يجلب لصاحبه مصلحة تتمثل في التخلص مما يعانيه المنتحر من ألم مرض مزمن، أو ألم حرمان ، أو خوفا من فضيحة ، أو ظلم حاكم ، ولكن هذه المصلحة وهمية ملغاة غير معتبرة ، تعارض النصوص القطعية كقوله تعالى: (ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا)([78])، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" ([79])؛ ولأنها تفوت مصلحة اكبر منها، تتمثل في القضاء على العنصر البشري، وحرمان المجتمع من نفعه، لا سيما إذا كان ذا مكانة علمية عالية.
ب - إذا كان النص قطعي الثبوت ظني الدلالة : كما في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ)([80]) والمصلحة المترتبة على هذا التحريم تآلف الأسر المؤدي إلى الترابط والتناصر، ولفظ (البنات) في الآية لفظ عام؛ لأنه ورد بلفظ الجمع، وهو مضاف، والجمع المضاف يفيد العموم. ظني الدلالة؛ لأنه يحتمل أن يكون قوله: (بناتكم) بناتكم لغة، فتدخل فيه بنت الزنا، أو بناتكم شرعا فلا تدخل فيه بنت الزنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"([81]). وهذا مجال للاجتهاد للوصول إلى مقصود الشارع.
جـ - إذا كان النص ظني الثبوت : وهو خبر الآحاد، وعارض ما استندت عليه المصلحة المرسلة من قواعد كلية أو قريبة منه، فهذا ينقسم إلى قسمين:
1 - أن يكون النص الظني مستندا إلى أصل قطعي: فيعتبر مطلقا، ويقدم على المصلحة المرسلة، وعليه عامة أخبار الآحاد؛ لأنه وان كان ظنيا في ثبوته فإن رجوعه إلى الأصل القطعي يقويه.
2 - أن يكون النص الظني معارضاً لأصل قطعي، ولا يشهد له أصل قطعي، وهو على قسمين:
أ- أن تكون مخالفته للأصل قطعية ومفوتا للمصلحة: وهذا يجب رده؛ لأنه مخالف لأصول الشريعة، فمثلا حديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" ([82]) يعارض المصلحة الكلية المترتبة على النعيم والفوز والنجاة من الجحيم، وفي نفس الوقت معارض لأصل قطعي، وهو قوله تعالى: (أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى (38) وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى). ([83])
ولهذا ردت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث فقالت : رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه"، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن ([84]): (أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى).
ب - أن تكون مخالفته للأصل ظنية : وهذا الظن إما أن يتطرق من جهة الدليل الظني ، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا، وهذا الموضع مجال للبحث والاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر([85]).
المطلب الثاني
أقوال الفقهاء في تخصيص العام بالمصلحة المرسلة
المصالح المرسلة التي اختلف الفقهاء في تخصيصها للعام ليست مجردة عن الدليل، فهي وإن لم تشهد النصوص الخاصة لعينها، فإن مجموع النصوص والقواعد الكلية قد شهد لجنسها، وهذا وحده كاف لإلحاقها بقسم المعتبر، كما أشار إلى ذلك الشاطبي رحمه الله تعالى حين قال: (كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه، إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به ... ويدخل تحت هذا الضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي، فإنه وان لم يشهد للفرع اصل معين فقد شهد له اصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين، وقد يربو عليه، بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما انه قد يكون مرجوحا في بعض المسائل ...)([86]).
وقال العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: (ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان، بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وان هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم الشرع يوجب ذلك) ([87]).
لقد اختلف العلماء في تخصيص العام بالمصلحة المرسلة على قولين:
1 - ذهب جمهور الفقهاء ([88]) وبعض المعاصرين كالشيخ الزرقا ([89])، والدريني([90])، وشلبي([91]) والدواليبي([92]) وغيرهم إلى جواز تخصيص العام بالمصلحة المرسلة المستندة إلى كلي الشرع وما تفرع عنه من قواعد كلية، واستدلوا بما يلي:
أ- أن المصلحة المرسلة هي التي لم تشهد النصوص الخاصة باعتبارها أو إلغائها، ولكن القاعدة الكلية المستنبطة من مجموع النصوص تشهد لجنسها، وبناء على ذلك فالمصلحة المرسلة في حقيقة الأمر ما هي إلا إجراء للقاعدة الكلية على عمومها، فهي فرد من أفرادها؛ لأن العموم يثبت من جهة الصيغ. ومن جهة استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ([93]).
فالتعارض بين النص العام والمصلحة المرسلة الملائمة لمقصود الشارع، هو في حقيقة الأمر تعارض بين عامين، عام مستفاد من الصيغ وهو النص العام - قرانا كان أو سنة - وعام مستفاد من استقراء مجموع النصوص، وهو القاعدة الكلية التي تعتبر المصلحة المرسلة جزئية من جزئياتها ([94]).
ب - المصلحة قاعدة كلية : فعند القول بتخصيصها بالأدلة فإن ذلك يكون بعد النظر في المصلحة المخصصة للدليل الثابت أصلاً، ثم النظر في المصلحة الناتجة عن الدليل، فإذا كانت المصلحة المرسلة راجحة على المصلحة المترتبة على الدليل، فإنها تقدم عليها بطريق التخصيص، هذا إنما تكون المصلحة المرسلة راجحة على المصلحة الناتجة عن الدليل إذا لم تتحقق شروط العمل بالدليل ، أو لم توجد أسبابه، أو كانت هناك موانع ([95]).
ج - إن رعاية المصلحة المرسلة أمر متفق عليه ، والأمر المتفق عليه يكون حجة، وإذا كان حجة فهو حجة قاضية، والحجة القاضية إذا اتفقت مع المصلحة فإنها تخصص الدليل العام، وتكيدا لذلك فإن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أشار إلى ما يفهم منه أن المصلحة المرسلة المجمع عليها تخصص العموم، حيث قال: (فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله، وأن لا تقبل توبته ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"([96])، فماذا ترون ؟ قلنا: هذه المسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد قتله إذا وجب بالزندقة قتله، وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى؛ لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة، والزنديق يرى التقية عين الزندقة، فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم ، وذلك لا ينكره أحد) ([97]).
د - أن تخصيص العام بالمصلحة المرسلة الملائمة لمقصود الشارع وما تفرع عنه من قواعد كلية، رفعا للحرج، وجلبا للتوسعة على الأمة، مأخوذ من قاعدة اعتبار المآل: ذلك أن النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا سواء أكانت الأفعال موافقة أو مخالفة ([98]).
وينبني على هذا الأصل قواعد ذكرها الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى منها: (قاعدة الاستحسان ، وهو مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي، ومقتضاه : الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي فيها القياس أمراً، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك) ([99]).
يفهم من كلامه رحمه الله تعالى: أن استثناء فرد من أفراد العموم بالمصلحة الملائمة لمقصود الشارع - إنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة - جائز شرعا، فلا مانع إذا من تخصيص العام بالمصلحة المرسلة ([100]).
2 - ذهب بعض المعاصرين كالبوطي ([101]) وحسين حامد ([102]) وخليفة با بكر ([103]) إلى منع التخصيص بالمصلحة المرسلة؛ لأن مفهوم المصلحة هو المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشرع هو ما عرف بالدليل، أي أن المصلحة هي ما كانت ناتجة عن دليل شرعي ، واستدلوا بما يلي:
أ- من شروط اعتبار المصلحة المرسلة أن تكون ملائمة لمقصود الشارع، وألا تعارض وتصادم النصوص الشرعية، فإذا تعارضت معها تكون ملغاة، وبالتالي ليست هي بدليل شرعي ، والتخصيص مصادمة للنص، والمصادمة تخرجها عن الإرسال، فلا تكون مخصصة للنص الشرعي ([104]).
وأجيب عنه: أن القول: بأن المصلحة لا يمكن أن تخصص النص؛ لأن بمجرد معارضتها ومصادمتها له تعتبر ملغاة غير صحيح؛ لأن شرط الملاءمة وعدم تعارض ومصادمة النص حتى تعتبر، هي في الصريحة، أما المحتملة فيمكن من خلالها الجمع بين الدليلين، وبخاصة إذا كانت جزئية، كتعارض العام والخاص، وهي في حقيقة الأمر لا تعد مصادمة ؛ لأن دلالة العام على جميع أفراده ظنية ، ودلالة الخاص قطعية ، والقطعي يخصص الظني ([105]).
ثم إن القياس القطعي يخصص العام ، مع العلم أن من شروط اعتباره: ألا يصادم نصا أو إجماعا، والمصلحة داخلة في باب القياس؛ لأن المصلحة ما هي إلا مرتبة من مراتب المناسب المعتبر في باب القياس .
ب- لم ينقل عن واحد من الأئمة انه يجيز التخصيص بها، لا في أصوله ولا في فروعه، وفي هذا يقول البوطي: (والواقع ان أحدا من الأئمة الأربعة لم يقل - لا في أصوله وقواعده، ولا في جزئيات فتواه واجتهاداته: بأن المصلحة المرسلة تخصص عاما، وتقيد مطلقا، وكل ما تلقفه بعضهم مما أوهم ظاهره أنه تخصيص، أو تقييد للنص بالمصلحة، هو في الحقيقة قائم على أساس غير الذي توهموه) ([106]).
وأجيب عنه: بأن جمهور الأئمة لم يجعلوا المصلحة المرسلة دليلا مستقلا، وإنما أدرجوها تحت باب القياس أو الاستحسان.
قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى: (وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، واذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين ، لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة ، وهذا هو المصلحة المرسلة ، فهي حينئذ في جميع المذاهب) ([107]).
فكلام القرافي رحمه الله تعالى صريح في عمل جميع المذاهب بالمصلحة المرسلة، وإنها داخلة في باب القياس، عندما تكون العلة مستنبطة بطريق مسلك المناسبة.
وقال الشوكاني نقلاً عن ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: (الذي لاشك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع – المصلحة المرسلة - ويليه احمد بن حنبل ، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح للاستعمال لها على غيرهما) ([108]).
فابن دقيق العيد رحمه الله تعالى يثبت القول بالمصلحة المرسلة عند الجميع على سبيل التفاوت في العمل بها.
والبوطي نفسه اثبت أن جمهور الأئمة من شافعية وحنابلة وحنفية يحتجون بالمصالح المرسلة لا كدليل خاص، وإنما تحت باب القياس ([109]).
أما المالكية فقد جعلوا المصلحة المرسلة دليلا مستقلا، كما صرح بذلك الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى عندما قال: (قاعدة الاستحسان – وهو مذهب مالك - الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس ...) ([110])، والإمام ابن العربي رحمه الله تعالى عندما قسم الاستحسان إلى أربعة أقسام، وعد من أقسامه ترك مقتضى الدليل في بعض أفراده للمصلحة فقال: (فمنه ترك الدليل للعرف، كرد الأيمان إلى العرف، وتركه إلى المصلحة، كتضمين الأجير المشترك ...) ([111]).
وقال أيضاً: (الاستحسان عندنا وعند الحنفية، هو العمل بأقوى الدليلين، فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد، فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان، من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ...) ([112]).
جـ- عدم إمكان تخصيص المصلحة للنص الناشئ عن الشروط التي وضعها الأصوليون في المخصص، فأصوليو الحنفية يشترطون في المخصص المقارنة لما يخصصه ، بينما أصوليو المتكلمين يشترطون في المخصص عدم التراخي، ومع وجود احد الشرطين لايمكن للمصلحة أن تخصص النص؛ لأنها دائما تكون مستمدة تبعا لما يستمد من أحداث ([113]).
أجيب عنه: بأن اشتراط المقارنة وعدم التراخي إنما يكون للدليل الجزئي الخاص، سواء أكان من الكتاب أم السنة، أما مثل القياس والمصلحة فيكفي أن يكون داخلاً تحت دليل كلي، بمعنى متى تحققت فيه شروطه المطلوبة، وتوافرت أسبابه الداعية، وانتفت امتناعاته المرجوة اصبح كأنه مقارن، والقول بغير ذلك يلزم منه أن لا يوجد تخصيص بكثير من المخصصات التي عدها الأصوليون ([114]).
د- المخصص في حقيقة الأمر هو مجموع النصوص، أو القاعدة الكلية التي استندت إليها هذه المصلحة المرسلة ، وليس هو المصلحة المرسلة المجردة؛ لأنها لا تقوى على التخصيص ([115]).
أجيب عنه : بأن المصلحة التي تخصص العام ليست مجردة عن الدليل والقواعد العامة، بل تستند إلى مجموع النصوص والقواعد الكلية، وهذا وحده كاف لإلحاقها بقسم المعتبر وتخصيصها للعام .
ثم إن القياس الذي هو محل اعتبار عند الجميع ليس هو المخصص بحد ذاته للعام، وإنما المخصص هو ما استند إليه من نص، ومثله سائر الأدلة التبعية، كالعرف، فالنصوص التي اعتبرت هذه الأدلة هي المخصصة، فالقياس والمصلحة المرسلة لا يعتبر كل منهم إذا تجرد عن المستند والدليل ([116]).
قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى : (واذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين، لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة ، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي إذن في جميع المذاهب) ([117]).
وقال الدكتور حسين حامد - وهو من الذين لا يقولون بتخصيص العام بالمصلحة - في مسألة ضرب المتهم وسجنه عند المالكية : (واذا كان الأمر كذلك، فإن الذي خصص نص الحديث ليس هو المصلحة المجردة التي راها المجتهد، بل هي النصوص التي شهدت للأصل الكلي والقاعدة العامة، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة) ([118]).
وقال في مكان أخر: (وعلى فرض أن هذه النصوص تدل على عدم قبول شهادة الصبيان مطلقا، فإن المخصص لها ليس هو المصلحة المجردة، وإنما المصلحة الملائمة لجنس تصرفات الشرع التي تدخل تحت اصل اعتبره الشارع بجملة نصوص ومجموع أدلة، هذا الأصل هو اصل حفظ الدماء...) ([119]).
وهذا عين ما نقول به، من ان المصلحة المجردة عن الدليل لا تخصص العام، بل لابد ان تستند إلى دليل كلي.
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة هو: جواز تخصيص النص العام بالمصلحة المرسلة المستندة إلى مجموع النصوص والقواعد الكلية؛ لقوة الأدلة التي استدل بها القائلون بجواز ذلك؛ ولأن الاستقراء دل على ذلك، فكثير من العلماء قد خصصوا العمومات بالمصلحة.
يتبع