القلب السليم (خطبة)
د. عطية بن عبدالله الباحوث



الخطبة الأولى

الحمد للَّه رب الأرض ورب السماء، خلق آدم وعلَّمه الأسماء، الحمد لله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويقلب الأبصار والقلوب.



الحمد لله الذي نزل القرآن لما في الصدور شفاء، فأضاءت به قلوب العـارفـين والأتقياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، ليس له أنداد ولا أشباه ولا شركاء.



وأشهد أن سيدنا محمدًا خاتم الرسل والأنبياء، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجِلَّاء، وعلى السائرين على دربه، والداعين بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فلقد ركَّب الله الإنسان من جسد مادي ومن روح سائرة فيه، ولا يقوم الجسد المادي بمهمته في الحياة على الكمال، وأشرف الاختيار والمنال إلا عندما ترقى رُوحه إلى الواحد الديَّان، وإن ملاك ذلك، ورأسه، وأسه، ومنتهاه يعود إلى القلب الذي هو موضع نظر الله في أعظم المقامات وأشد أيام الله، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، وإن القلب ليمتلئ بالإيمان وتعظيم الديَّان بما يجعله يفوز بالحياة الطيبة في الدنيا ويوم القيامة يرقى في الجنان، كما أنه يمتلئ بالكفر والجحود والنفاق، فيستحق البُعْد والغضب والنيران، وما بين هذا وذاك قلب له شعبة من كل طرف، فله إيمان وفسق، وإقبال وإدبار، وسقم وعافية.



وقد أورد الله هذه الأصناف في كتابه الكريم في مقامات العبودية لله، وسلم الوصول إلى الوحدانية؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 84]، هذا النوع الأول وهو القلب السليم وصف الله به إمام الحنفاء إبراهيم، والقلب السليم معناه: الخالي من شبهات الكفر والنفاق وطرق الابتداع، والخالي من شهوات الزيغ والضلال.



أما الثاني فقلب مات بالكفر بالله، وجحد آياته، ولم يسر في طريق مرضاته؛ قال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 155].



والثالث قلب مريض: فيه إيمان وفسق وإخلاص ونفاق، فيمده هذا تارة، وهذا تارة؛ قال تعالى ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32].



هذه المضغة من زرعها بيد الإيمان، وسقاها بماء اليقين، أنبتت أطايب الأفعال والأقوال، ومن زرعها بيد الكفر والنفاق وسقاها بماء العصيان، أنبتت سوء الأعمال، وكانت حطب جهنم، تحرق أول ما تحرق يد زارعها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ، فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ؛ ألا وهِيَ القَلبُ))؛ مسلم.



ولذا لما وصف عمر رضي الله عنه أبا بكر الصديق قال: "اللهم علمي به أن سريرته خيرٌ من علانيته، وأنه ليس فينا مثله"، وما أكثر تقلُّب الإنسان في هذه الحياة من حال إلى حال والله أعلم بالمآل! فقد يختم للمرء بصالح أو بسوء الأعمال؛ ولذا كان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث أنس: ((يا مقلِّبَ القلوبِ، ثبِّت قلبي على دينِكَ))، فقلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ آمنَّا بِكَ وبما جئتَ بِهِ، فَهل تخافُ علَينا؟ قالَ: ((نعَم؛ إنَّ القلوبَ بينَ إصبَعَينِ من أصابعِ اللَّهِ يقلِّبُها كيفَ شاءَ))؛ أخرجه الترمذي، وحسَّنه، وصحَّحه الألباني.



وإن العمل الصالح المبارك الذي له مكانة عند الله، ويعطي عليه أعظم العطايا وجزيل الهبات -لهو العمل الذي يكون فيه للقلب وافر الحظ والنصيب، لِمَ؟



يجيب النبي المصطفى حيث قال: ((إنَّ اللَّهَ لا ينظرُ إلى صورِكُم وأموالِكُم، ولَكِن ينظرُ إلى قلوبِكُم وأعمالِكُم))؛ مسلم.



قال محمد بن واسع رحمه الله: "لقد أدركت رجالًا، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خده من الدموع، وزوجته لا تشعُر به، ولقد أدركتُ رجالًا يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خدِّه، ولا يشعُر به الذي بجانبه".



بهؤلاء قامت الدنيا والآخرة؛ حيث علموا أن العمل لله، وأن ما في قلبه مطلع عليه الله، وأن البشر ليس لهم من الأمر شيء، فقاموا لله إخلاصًا، وبالله معونة وتوكُّلًا، فأصاب الله بهم مواطن الخير أينما ارتحلوا ونزلوا.



عن طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه أنه رأى عمر في سواد الليل يخرج، يدخل بيتًا ويخرج منه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت لينظر إلى أين دخل عمر بالليل، وماذا كان يفعل؟ فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك بالليل؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحني، ويخرج عني الأذى، قال طلحة: ثكلتك أُمُّكَ يا طلحة، أعثرات عمر تتبع؟!



هذه القلوب التي جعلت من الإيمان عملًا يمشي على الأرض، حق لها النصيب الأوفر؛ لأنها تُمثِّل شريعة الإسلام ومنهج خير الأنام صلى الله عليه وسلم الذي طُرح عليه هذا السؤال: قيل: يا رسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ أفضلُ؟ قال: ((كلُّ مَخمومِ القلبِ صَدوقُ اللِّسانِ))، قالوا: صَدوقُ اللِّسانِ نعرِفُه، فما مَخمومُ القلبِ؟ قال: ((هو التَّقيُّ النَّقيُّ، لا إثمَ فيه، ولا بَغيَ، ولا غِلَّ، ولا حسَدَ))؛ صحيح الترغيب والترهيب.



هذا التوافق بين الظاهر والباطن وبين الإيمان علمًا وعملًا يجعل أناسًا هم من أهل الجنة يمشون على تراب الدنيا وحطامها الزائل، ولا يشعُر بهم أحد.



قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور والظلم".



اللهم ألزم قلوبنا التقوى، والزم جوارحنا من العمل ما ترضاه، وأصلح لنا الآخرة والأولى، واغفر لنا؛ إنك أنت الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً دائمةً إلى يوم القيامة، أما بعد:

فلما كان القلب محور صلاح المرء ومحل نظر الرب عز وجل، وعليه أمر الحساب والثواب كان لا بد للمرء من وقفة صلاح وإصلاح له على منهج قويم يقيم دنياه وآخرته، نجملها في قضايا أربع:

الأولى: حماية القلب من الفتن، وصيانته من المعصية، والمحافظة على استقامته وعدم انتكاسه؛ قالَ حُذَيفةُ رضي الله عنه: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يقولُ: ((تُعرَضُ الفتنُ علَى القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ بَيضاءُ حتَّى تصيرَ علَى قلبَينِ علَى أبيضَ مِثلِ الصَّفا فلا تضرُّهُ فتنةٌ ما دامتِ السَّماواتُ والأرضُ والآخرُ أسوَدُ مِربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا لا يعرِفُ معروفًا، ولا ينكرُ مُنكرًا إلَّا ما أُشرِبَ مِن هواهُ))؛ مسلم.



الثانية: أن نزرع في قلوبنا حقارة الدنيا وأن أمر الآخرة القضية الكبرى، وهي المقام الأول على كل حال، وأن الدنيا إنما جعلت وسيلة وقصد للآخرة؛ قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].



الثالثة: تقسو القلوب حتى تصبح كالحجارة أو أشد قسوة، فتكون عرضة لعقاب الله؛ قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22].



ويأتي العلاج الشافي والدواء الكافي في ذكر الله وداوم تسبيحه وتهليله وحمده واستغفاره، فيطمئن القلب وتطيع الجوارح؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].



الرابعة: كمال علاج القلب أن تكون أنت رفيقه، والله طبيبه، بخلوة مع نفسك تُقيم ما اعوج، وتصلح ما انكسر، والله من وراء ذلك بالعون والمدد؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته، وتفكُّره ومحاسبته.



أخيرًا: يلم شعث ما تفرَّق من هذه الخطبة قول ابن القيم رحمه الله في القلب السليم:

لا يسلم القلب حتى يسلم من خمسة أشياء: حتى يسلم من شرك يُناقض التوحيد، ومن بدعة تُناقض السنة، ومن غفلة تُناقض الذكر، ومن شهوة تُناقض الأمر، ومن هوى يُناقض الإخلاص.



الدعاء:

اللهم اجعل سريرتنا خيرًا من علانيتنا.

اللهم استرنا فوق الأرض، واستُرنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض.

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب، وأصلح اللهم أحوالنا في الأمور كلها، وبلغنا بما يُرضيك آمالنا.

اللهم طهِّر قلوبنا من النِّفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيُننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.

اللهم إنا نسألك لولاة أمورنا الصلاح والسداد، اللهم كن لهم عونًا، وخذ بأيديهم إلى الحق والصواب والسداد والرشاد، ووفِّقهم للعمل لما فيه رضاك، وما فيه صالح العباد والبلاد.

اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ومنك لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

اللهم صلِّ وسلِّم على النبي المصطفى والرسول المجتبى وعلى آله وأصحابه معادن التقوى وينبوع الصفا صلاةً تبقى، وسلامًا بلا مُنتهى.

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾[البقرة: 201].

سبحان ربِّنا رب العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.