امرأة من هناك
تهاني الشروني
جاءتني دعوة من إحدى دور تحفيظ القرآن بمناسبة حفل يقام حين تنتهي دورة من دورات التحفيظ في هذه الدار.
وأخذت أجهز لما يمكن أن يكون حافزا وتشجيعا للمشاركات في هذا الحفل من هدايا مفيدة، ورأيت أن أصطحب معي بعض المطويات والكتيبات التي قد تحتاج إليها بعض الحاضرات داعية الله أن يتقبل عملي، ويغفر التقصير.
وعندما ذهبت في الموعد المحدد وأخذت أهنيء الحاضرات وأشاركهن في فرحتهن بفضل الله ورحمته حيث منّ الله على بعضهن بختم حفظ القرآن، والبعض الآخر بحفظ وتلاوة ما تيسر من الذكر الحكيم، وكان هناك أيضا عدد من الأطفال الملتحقين بالدار، وكانت السعادة تغمرهم، والكل يدعو الله أن يجعلهم من أهل القرآن ليكونوا من أهل الله وخاصته.
كان الحفل بديعًا رغم بساطته، وشعرنا أن الملائكة تحف المكان، وتعمه الخيرية لما فيه من ذكر الله.
وإذ بي ألمح على بعد منى امرأة في الخمسين أو تخطها، تبدو في قمة النشاط والحيوية، وشعرت أن فيها شيئًا متميزًا أو غير عادى سواء في شكلها أو في طريقتها، وإذا بإحدى المشرفات تقترب منى وتأخذ بيدي، وتقول لي: تعالي لأعرفك بنجمة الحفل.. ووجدتها تقربني من هذه المرأة وتلقي عليها السلام، فردت عليها بالفصحى ولكن بلكنة غريبة.
انجذبت للحديث معها، وتركتنا المشرفة نستكمل تعارفنا، لأجد نفسي أمام نموذج مبهر، فقد أتى الله بها من بلد أعجمي بعيد، ومنذ نحو عشرين عاما تزوجت برجل مسلم يقيم فى بلدها، بعد أن أعجبت بأخلاقه وسلوكه وآرائه، ولم تكن تعلم عن الإسلام شيئا ولم يكن أمر الدين والتدين يشغلها كثيرا.
ولكنها من عشر سنوات تقريبا جاءت مع زوجها الى هذا البلد المسلم الذي هو الموطن الأصلي لزوجها، وخلال هذه الزيارة توفى الله زوجها، وقد كان حدثًا زلزل كيانها خاصة وأن زوجها كان قد أصبح محور حياتها، أو على حد تعبيرها "كل حياتها"، وأثناء فترة حدادها واستعدادها للرجوع إلى بلدها التقت بسيدة تكن لها كل حب واحترام، وتدعو لها كثيرًا، فقد كانت بعد عون الله وفضله سببًا لأن ترى العالم من حولها بنظرة جديدة.
أخذت قرارها بألا تعود إلى هناك، وأن تبقى في هذا البلد المسلم، وأعانتها صديقتها هذه على أن تبدأ في تدارك ما فاتها.
وأخذت هذه الصديقة تعلمها أصول الإسلام الأولى وألحقتها بإحدى مدارس تعلم اللغة العربية وتلاوة القرآن العظيم، فأحست أن أبوابًا جديدة تفتح لها، وسرعان ما خرجت من أحزانها حين ازداد إيمانها بالله ويقينها بأن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا مزرعة الآخرة.
وجدت السنوات تمر، وقد منَّ الله عليها بحفظ قدر من كتابه، وازدادت معرفتها بسنة النبى صلى الله عليه وسلم، فأخذت تفكر كيف يكون التزود والاستثمار للحياة الحقيقية، خاصة وأن زوجها قد ترك لها بعض الممتلكات.
فقررت أن تعد مكانًا لتعليم الأطفال كتاب الله ليكون لها في ذلك أجر كبير، واختارت منطقة لا يتوافر بها مثل هذه الدور، وفى هذا المكان خصصت قسمًا لتعليم النساء اللاتي لا يعرفن القراءة، واستعانت بمتخصصات في هذا المجال، وكانت تردد دائما أنها أولى المستفيدات من هذا التعليم، وكان شعارها دائما قول الرسول صلى الله عليه وسلم {من عمل بما تعلم أورثه الله علم ما لم يعلم}.
وأضافت إلى هذه المنشأة دارًا لرعاية الفتيات اليتيمات لتعليمهن ما يصلح من أحوالهن من القراءة والكتابة، وتعلم بعض الحرف التي تدر عليهن دخلا حتى لا يصبحن عالة على أحد، فلم تبخل عليهن بأن تعلمهن كيف يصبحن زوجات صالحات، وكيف يدرن بيوتهن في المستقبل، وأتم الله عملها بأن يسر الله تزويج بعضهن من شباب صالحين.
وحين دعتني لزيارة مؤسستها ورأيت كيف يدور العمل وكيف أنها تسخر وقتها وصحتها ومالها لخدمة دين الله وخدمة المسلمين طلبت منها أن تعتبرني أختًا وصديقة، وأن تفتح لي باب المشاركة معها ووجدتها ترحب بكل من يقبل العمل معها.
لقد تركت هذه المرأة في نفسي أثرًا لم أقو على دفعه، مازلت منبهرة بعلو همتها، فرغم غربتها عن وطنها وأهلها ومرعى صباها وشبابها، ورغم عجمتها واختلاف ثقافتها، لكنها لم تقف طويلا أمام هذه الأمور لما فتح الله قلبها للهداية، وتسعى لتحقيق حلمها بأن تختم حفظ القرآن.
وقد بدأت في إعداد برنامج لتعليم الأعاجم العلوم الشرعية، ومبادئ الإسلام، فقد كانت تتقن لغتها الأصلية، كما تتقن الإنجليزية.
إنها امرأة من هناك.. نشأت في ديار غريبة، ولكن الله ساقها إلى دينه، وأبت عليها همتها أن تكتفي بهداية نفسها، بل أصرت على أن تكون شعلة خير وهداية للآخرين.