الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه واهتدى بهداه.
وبعد:
فإنَّ فضل العلم والعلماء متواتر معروف في نصوص الكتاب، والسُّنَّة، وكلام أهل العلم.
من ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
قال القرطبي رحمه الله: «فلو كان شَيْءٌ أشرف من العلم لأمر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم» اهـ[1].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
وقال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
وقال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[2].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»[3].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[4].
والآيات والأحاديث التي فيها بيان فضل العلم كثيرة، وكلام أهل العلم متواتر في ذلك.
ولسنا نحن في هذا المقال بصدد الحديث عن فضل العلم والاستفاضة في ذلك؛ وإنما نحن بصدد الحديث عن مسألة خاصة؛ وهي: بيان فضل العلم على نوافل العبادات.
وأعني بذلك: أنَّ العِلم بحر لا ساحل له، وأنَّ المسائل التي يحتاج طالب العلم إلى تحقيقها وتعلُّمها - سواء كانت مسائل عقدية، أو فقهية، أو حديثية، أو أصولية، أو غير ذلك - مسائل كثيرة لا حصر لها؛ بحيث إنَّ طالب العِلم يحتاج إلى استثمار كل وقته لتحقيقها وتعلُّمها.
فَكَمْ من مسألة شرعية يحتاج طالب العلم إلى تحريرها لنفسه، وجمع أدلَّتها، ومعرفة الصحيح منها مِن السقيم، ومعرفة أقوال العلماء فيها، ثم تقريبها للناس، على ضوء فَهْم العلماء لها، دون تقليد لأحد معيَّن؛ سواء في فَهْم الدليل، أو فسي ثبوته؛ وإنما عليه أنْ يُحرِّرَ أقوال العلماء في فَهْم الدليل بنفسه، كما عليه أنْ يُحرِّر الأحاديث والآثار المروية في المسألة بنفسه، مع الاسترشاد بأقوال أهل العلم، دون تقليد لأحد؛ وهو في النهاية لن يخرج عن أقوال أهل العلم؛ سواء في فهَمْ الدليل أو في ثبوته؛ وإنما سيرجح قولًا من أقوالهم؛ ولكن دون تقليد.
ولن يتأتَّى ذلك لطالب العلم؛ إلا بجمع الأدوات والآلات التي تساعده على ذلك؛ ولن يتأتَّى له جمع هذه الآلات إلا بسهر الليالي، وتقليل ساعات النوم، والمحافظة على وقته عمومًا؛ بحيث يكون الوقت عنده أثمن مِنَ الذهب، ويتوج ذلك كله بإخلاص النيَّة لله تعالى، وسؤاله تعالى التوفيق والتسديد.
فتحصيل الآلات المساعدة والقواعد المعينة على البحث العلمي السليم، ومعرفة مناهج أهل العلم في ذلك؛ فقهيًّا، وحديثيًّا، وأصوليًّا؛ يحتاج إلى جهد جهيد، وعُمْرٍ مديد، ثم الاشتغال بعد ذلك بالبحث العلمي يحتاج - أيضًا - إلى بذل وقت وجهد كبيرين.
ومن كان أمْرُه كذلك؛ فإنه - بلا شك - سيتقلل من نوافل العبادات؛ بمعنى أنه لن يكون كغيره من المتفرِّغين للعبادة الذين فتح الله عليهم في هذا الباب؛ فيصلُّون في اليوم مئة ركعة مثلًا، أو مئتين، ونحو ذلك، ويقرؤون القرآن في ثلاثة أيام، ويُسبِّحون الله أكثر من عشرة آلاف تسبيحة في اليوم، إلى غير ذلك من نوافل العبادات.
وإنما سيكون هؤلاء العُبَّاد مشغولين بعبادتهم لله تعالى من خلال هذه النوافل، وهذا الطالب مشغولًا بعبادته لله تعالى من خلال تعلُّم العلم النافع ونشره بين الناس، مع الأخذ بحظٍّ من نوافل العبادات الأخرى، ولكنه بلا شك لن يكون - من جهة الاجتهاد فيها - كمن تفرَّغ لها.
ومقصودي من هذا البحث:
بيان أنَّ من اشتغل بالعلم النافع، وتعلُّمه، ونشره بين الناس، مع تقوى الله تعالى، وفِعْلِ الطاعات، والبُعْدِ عن المحرَّمات؛ أفضلُ ممن فرَّغ نفسه للعبادة فقط دون العلم، وأفضلُ - أيضًا - ممن تقلَّل من العلم، وأَكْثَرَ من غيره من العبادات؛ والعلم أحد أفراد العبادة؛ فمَن جَمَع بينه وبين غيره من العبادات أفضلُ بلا شك ممن تركه أو تقلَّل منه؛ فطلب العلم نفعه متعدٍّ، وغيره من العبادات نفعها قاصر.
والأمر كما قال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله: «طلب الحديث في هذا الزمان أفضل من سائر أنواع التطوع؛ لأجل دروس السنن وخمولها، وظهور البدع واستعلاء أهلها»اهـ[5].
وكلامي موجَّه لمن كان مجتهدًا في تحصيل العلم وتحرير المسائل العلمية، لا لأصحاب الفراغ والكسل؛ فهؤلاء لا عِلْمًا طلبوا، ولا عبادة عبدوا.
وإليك بيان أفضلية عبادة الله تعالى بتحصيل العلم على عبادته بغيره من النوافل الأخرى؛ وذلك من خلال السُّنَّة، وكلام أهل العلم:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ»[6].
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا؛ وَرَّثُوا الْعِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»[7].
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين فضل العلماء على العُبَّاد.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: «وَقَوله: «وَفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على سَائِر الْكَوَاكِب»: تَشْبِيه مُطَابق لحَال الْقَمَر وَالْكَوَاكِب؛ فإن الْقَمَر يضيء الآفاق ويمتد نوره فِي أقطار الْعَالَم، وَهَذِه حَال الْعَالِم؛ وَأما الْكَوْكَب فنوره لَا يُجَاوز نَفسه أَوْ مَا قَرُب مِنْهُ؛ وَهَذِه حَال العابد الَّذِي يضيء نورُ عِبَادَته عَلَيْهِ دون غَيره وإن جَاوز نور عِبَادَته غَيره فَإِنَّمَا يُجَاوِزهُ غير بعيد كَمَا يُجَاوز ضوء الْكَوْكَب لَهُ مُجَاوزَةً يسيرَةً.
وَفِي التَّشْبِيه الْمَذْكُور لطيفة أخرى: وَهُوَ أن الْجَهْل كالليل فِي ظلمته، وَالْعُلَمَاء والعُبَّاد بِمَنْزِلَة الْقَمَر وَالْكَوَاكِب الطالعة فِي تِلْكَ الظلمَة وَفضل نور الْعَالم فِيهَا على نور العابد كفضل نور الْقَمَر على الْكَوَاكِب.
وأيضًا فالدين قوامه وزينته وإضاءته بعلمائه وعُبَّاده فَإِذا ذهب علماؤه وعُبَّاده ذهب الدِّين كَمَا أن السَّمَاء إضاءتها وَزينتهَا بقمرها وكواكبها؛ فَإِذا خسف قمرها وانتشرت كواكبها أتاها ما توعد، وَفضل عُلَمَاء الدِّين على العُبَّاد كفضل مَا بَين الْقمر وَالكواكب.
فَإِن قيل: كَيفَ وَقع تَشْبِيه الْعَالم بالقمر دون الشَّمْس وَهِي أعظم نورًا؟ قيل: فِيهِ فَائِدَتَانِ:
إحداهما: أن نور الْقَمَر لمَّا كَانَ مستفادًا من غيره كان تشبيه الْعَالم الَّذِي نوره مُسْتَفَاد من شمس الرسَالَة بالقمر أولى من تشبيهه بالشمس.
الثانية: أن الشمس لَا يخْتَلف حَالهَا فِي نورها، وَلَا يلْحقهَا محاق وَلَا تفَاوت فِي الإضاءة، وأما الْقَمَر فَإِنَّهُ يقل نوره وَيكثر ويمتلئ وَينْقص كَمَا أن الْعلمَاء فِي الْعلم على مَرَاتِبهمْ من كثرته وقِلَّته فيفضل كل مِنْهُم فِي علمه بِحَسب كثرته وقلِّته وظهوره وخفائه كَمَا يكون الْقَمَر كَذَلِك؛ فَعَالِمٌ كالبدر لَيْلَة تمامه، وَآخر دونه بليلة وثانية وثالثة وَمَا بعْدهَا إِلَى آخر مراتبه وهم دَرَجَات عِنْد الله» اهـ[8].
عن زيد بن أسلم، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كان يقول: «لأن أجلس في مجلس فقه ساعة أحب إلي من صيام يوم وقيام ليلة»[9].
وعن وكيع بن الجراح، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول: «لا أعلم شيئًا من الأعمال أفضل من العلم أو الحديث لمن حسنت فيه نيَّتُه»[10].
وَعن قتادة، قال: كان مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير يقول: «فضل العلم أحب إلى الله من فضل العبادة»[11].
وَعن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، قال: «حظٌّ من عِلم أحب إلي من حظ من عبادة»[12].
وقال قتادة، قال ابن عباس: «تذاكر العلم بعض ليلة أحبُّ إليَّ من إحيائها»[13].
ثم روى ابن عبد البر، عن إسحاق بن منصور، قال: قلت لأحمد بن حنبل: قوله «تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها»؛ أيُّ: عِلم أراد؟ قال: هو العلم الذي ينتفع به الناس في أمر دينهم، قلت: في الوضوء، والصلاة، والصوم، والحج، والطلاق، ونحو هذا؟ قال: نعم قال إسحاق بن منصور: وقال إسحاق ابن راهويه: هو كما قال أحمد[14].
وعن عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن الزهري قال: «ما عُبِدَ الله بمثل الفقه»[15].
وَعن أبي قَطَن، عن أبي حُرَّة، عن الحسن، قال: «العالم خير من الزاهد في الدنيا، المجتهد في العبادة؛ ينشر حكمة الله فإنْ قُبِلَت حِمَد الله، وإن رُدَّت حَمِد الله»[16].
وعن الربيع بن سليمان المرادي، قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة»[17].
وعن الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي يقول: «ليس بعد أداء الفرائض شيء أفضل من طلب العلم»، قيل له: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل»[18].
وقيل لعبد الله بن المبارك: لو قيل لك: لم يبق من عمرك إلا يوم؛ ما كنت صانعًا؟، قال: «كنت أُعَلِّم الناس»[19].
وقال الإمام البيهقي رحمه الله: «باب فضل العلم خير من فضل العبادة»اهـ[20].
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: «باب تفضيل العلم على العبادة»اهـ[21].
وقال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله:
«(مَن قال: طلب الحديث أفضل من العبادات):
عن سفيان الثوري، قال: «ما أعلم على وجه الأرض من الأعمال أفضل من طلب الحديث لمن أراد به وجه الله».
وعن وكيع بن الجراح، قال: «ما عُبِد الله بشيء أفضل من الحديث».
(مَن قال: رواية الحديث أفضل من التسبيح):
عن وكيع، قال: «لولا أن الحديث أفضل عندي من التسبيح ما حدَّثت».
(مَن قال: التحديث بمنزلة دَرْس القرآن):
عن سليمان التيمي، قال: كنا عند أبي مجلز، وهو يحدِّثنا، قال: فقال رجل: لو قرأتم سورة؟ فقال أبو مجلز: «ما الذي نحن فيه بأنقص إليَّ من قراءة سورة».
(مَن قال: التحديث بمثابة الصلاة):
عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: كان موسى بن يسار معنا، يحدِّث، فقال له ابن عمرو: «إذا أنت فرغت من حديثك فَسلِّم؛ فإنك في صلاة».
(من قال: التحديث أفضل من صلاة النافلة):
عن وكيع، قال: «لو أعلم أن الصلاة أفضل من الحديث ما حدَّثت».
وعن القعنبي، قال: «لو أعلم أن الصلاة أفضل منه ما حدَّثت».
وعن أبي ثوبان مِزداد بن جميل البَهْرَاني قال: سأل عمرُ بن سهيل المعافى بن عمران، فقال له: يا أبا عمران، أيُّ شيء أحب إليك؟ أصلي أو أكتب الحديث؟ فقال: «كتابة حديث واحد أحب إليَّ من صلاة ليلة».
وعن أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس [ابن أبي حاتم]، قال: خرجت إلى أَيْلَة، إلى محمد بن عزيز الأيلي، فكتب لي أبي وأبو زرعة إليه؛ يعني في الوصاة؛ فجعل محمد بن عزيز يقرأ لي يوم الجمعة، ما صلَّى ذلك اليوم إلا الجمعة ركعتين، والعصر أربعًا. وكان يقرأ لي الحديث، على أن قراءة الحديث أفضل من صلاة التطوع.
(من قال: كتابة الحديث أفضل من صوم التطوع):
عن محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قال: حدثني جدي، قال: سألت أحمد ابن حنبل، قلت: يا أبا عبد الله، أيهما أحب إليك: الرجل يكتب الحديث أو يصوم ويصلي؟ قال: «يكتب الحديث». قلت: فمن أين فضَّلْت كتابة الحديث على الصوم والصلاة؟ قال: «لئلَّا يقول قائل: إني رأيت قومًا على شيء فاتبعتهم».
قال الخطيب: قلت: طلب الحديث في هذا الزمان أفضل من سائر أنواع التطوع؛ لأجل دروس السنن وخمولها، وظهور البدع واستعلاء أهلها» اهـ[22].
وقال النووي رحمه الله: «والحاصل أنهم متفقون على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصوم والصلاة والتسبيح ونحو ذلك من نوافل عبادات البدن؛ ومن دلائله سوى ما سبق أن نفع العلم يعم صاحبه والمسلمين، والنوافل المذكورة مختصة به.
ولأن العلم مصحِّح؛ فغيره من العبادات مفتقر إليه، ولا ينعكس.
ولأن العلماء ورثة الأنبياء، ولا يُوصَف المتعبِّدون بذلك.
ولأن العابد تابع للعالم مُقْتدٍ به مُقلِّد له في عبادته، وغيرها واجب عليه طاعته ولا ينعكس.
ولأن العلم تبقى فائدته وأثره بعد صاحبه، والنوافل تنقطع بموت صاحبها.
ولأن العلم صفةٌ لله تعالى.
ولأن العلم فرض كفاية؛ فكان أفضل من النافلة؛ وقد قال إمام الحرمين رحمه الله في كتابه «الغياثي»: «فرض الكفاية أفضل من فرض العين من حيث إن فاعله يَسُدُّ مَسَدَّ الأُمَّة، ويُسْقِط الحرج عن الأُمَّة، وفرض العين قاصر عليه». وبالله التوفيق»اهـ[23].
والمقصود: أنَّ المسلم لا يكون عاطلًا؛ فهو إما في طلب العلم، وإما في صلاة، أو قراءة قرآن، أو ذِكْرٍ واستغفار... فإنْ ضاق عليه الوقت؛ فيُقدِّم طلب العلم؛ لِمَا تقدَّم.
وينبغي لطالب العلم أن يكون له حَظٌّ من كل عبادة؛ قيامٍ، وتلاوة، وذِكْر، وبِرٍّ، وصِلَة، وشهود جنائز، ونحو ذلك.
والحمد لله أولًا وآخرًا
وصلِّ اللهم على محمدٍ وآلهِ وصحبه وسلِّم
اللَّهُمَّ يَا عَظِيمَ الْمِنَّة، هَبْ لِكَاتِبِهِ وَمُطَالِعِهِ الْجَنَّهْ.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ
[1] «تفسير القرطبي» (4/ 41).
[2] متفق عليه: أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1036).
[3] أخرجه مسلم (2699).
[4] أخرجه مسلم (1631).
[5] «شرف أصحاب الحديث» (ص86).
[6] أخرجه الترمذي (2685)، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ»، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (4213).
[7] أخرجه أحمد (21715)، وأبو داود (3641)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (6297).
[8] «مفتاح دار السعادة» (1/ 65).
[9] أخرجه البيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (461).
[10] أخرجه الدارمي في «سننه» (335)، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (ص182)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 363)، والبيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (470)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (119)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص81)، بسند صحيح.
[11] أخرجه أحمد في «الزهد» (1335)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (35600)، والفريابي في «فوائده» (23)، والبيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (457)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (104).
[12] أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (21392)، والبيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (458)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (106).
[13] أخرجه معمر بن راشد في «جامعه» (20469)، والبيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (458)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (107).
[14] «جامع بيان العلم وفضله» (108).
[15] أخرجه معمر في «جامعه» (20479)، والبيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (467)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (110)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 119)، وسنده صحيح.
[16] «جامع بيان العلم وفضله» (258).
[17] أخرجه البيهقي في «المدخل» (474)، وابن المظفر في «غرائب مالك بن أنس» (140)، وابن شاهين في «شرح مذاهب أهل السنة ومعرفة شرائع الدين والتمسك بالسنن» (63)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (9/ 119)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (118).
[18] أخرجه البيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (475).
[19] أخرجه البيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (473).
[20] «المدخل إلى السنن الكبرى» (ص302).
[21] «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 99).
[22] «شرف أصحاب الحديث» (ص81- 86)، مختصرًا، مع حذف الأسانيد.
[23] «المجموع» (1/ 21، 22).


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/130575/#ixzz5WfAl9hvC