تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيها

- كل ما خلقه الله تعالى فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه تعالى، يحبها ويرضاها.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذا يكون في المأمورات وفي المخلوقات (1) .
فهو "سبحانه حكيم، لا يفعل شيئا عبثا ولا بغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى" (2) ، وقد ذكر ابن القيم بعضها (3) .
وقد وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال:
1- قول من نفى الحكمة وأنكر التعليل، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات، وأمر المأمورات، لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة، وهذا مذهب الجهمية والأشاعرة وهو قول ابن حزم وأمثاله (4) .
2- إن الله فعل المفعولات وخلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، ولكن هذه الحكمة مخلوقة، منفصلة عنه، لا ترجع إليه، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (5) .
3- قول من يثبت حكمة وغاية قائمة بذاته تعالى، ولكن بجعلها قديمة غير مقارنة للمفعول.
4- إن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، وهذه الحكمة تعود إلى الرب تعالى، لكن بحسب علمه، والله تعالى خلق الخلق ليحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، فهذه حكمة مقصودة واقعة، بخلاف قول المعتزلة فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد. وهذا قول الكرامية الذين يقولون: من وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقا له (6) .
5- قول أهل السنة وجمهور السلف وهو أن لله حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة
هذه خلاصة الأقوال في هذه المسألة، ويلاحظ أنها تنتهي إلى قولين أحدهما: نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم.
والثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة. وهؤلاء على أقوال: أشهرها قول المعتزلة الذين يثبتون حكمة تعود إلى العباد ولا تعود إلى الرب، وقول جمهور السلف الذين يثبتون حكمة تعود إلى الرب تعالى (7) .
ويلاحظ أن من نفى الحكمة والتعليل – كالأشاعرة – دفعه ذلك إلى الميل إلى الجبر وإثبات الكسب والقدرة غير المؤثرة للعبد. ومن إثبات حكمة تعود إلى العباد، جعلوا هذه الحكمة لا تتم إلا بأن تكون العباد هم الخالقين لأفعالهم وهذا قول المعتزلة.
أما أهل السنة فلم يلزمهم لازم من هذه اللوازم الباطلة، ولذلك جاء مذهبهم وسطا في باب القدر – كما سيأتي إن شاء الله.
والأشاعرة الذين نفوا الحكمة والتعليل، احتجوا على مذهبهم بعدة حجج أهمها:
أ- أن ذلك يستلزم التسلسل، فإنه إذا فعل لعلة، فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة، وهكذا إلى غير نهاية وهو باطل.
وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة من وجوه:
1- يقال لهم في الحكمة ما يقولونه هم في "الفعل"، وذلك بأن يقال لهم: "لا يخلو إما أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع، أو لا يمكن ذلك فإن جاز أن يكون قديم العين أو قديم النوع، جاز في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون قديمة العين أو قديمة النوع" (8) . ويلاحظ هنا أن القول بأن الفعل قديم "العين" هو قول الفلاسفة، ومعلوم أن الفلاسفة نفاة للحكمة – فهم موافقون للأشاعرة في هذا – فهذا الإلزام صالح لهم. ومن قال هذا ممتنع – أي قدم العين أو النوع في العقل – قيل وكذلك الحكمة يمتنع تسلسلها.
"وإن لم يمكن أن يكون الفعل لا قديم العين ولا قديم النوع، فيقال إذا كان فعله حادث العين والنوع، كانت حكمته كذلك" (9) .
فتبين أن معنى كونه تعالى يفعل لحكمة "أنه يفعل مرادا لمراد آخر يحبه، فإذا كان الثاني محبوبا لنفسه، لم يجب أن يكون الأول كذلك، ولا يجب في هذا تسلسل" (10) .
2- يقال لهم في الحكمة ما يقال في الأسباب، فإذا كان تعالى خلق شيئا بسبب، وخلق السبب بسبب آخر حتى ينتهي إلى أسباب لا أسباب فوقها فكذلك خلق لحكمة والحكمة لحكمة حتى ينتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها (11) .
3- أن هذا التسلسل الذي يدعونه إنما هو تسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل – والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم، والجنة أكلها دائم (12) .
ب- والحجة الثانية للأشاعرة على نفي الحكمة والتعليل هي حجة الكمال والنقصان، ومعناها – عندهم – أن الله "لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصا بدونها مستكملا بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به، فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى، فيكون مستكملا بها، فيكون قبلها ناقصا" (13) وهذه الحجة أصلها مبني على نفي حلول الحوادث.
وقد سبق مناقشة هذه الحجة في مسألة الصفات، عند مناقشة الصفات الاختيارية القائمة بالله التي يسميها الأشاعرة وغيرهم حلول الحوادث.
وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجة هنا – في مبحث التعليل – من وجوه:
1- "أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جوابا في المفعولات، كان جوابا عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلا إلا مستكملا بفعله" (14) .
2- أن قولهم "مستكمل بغيره" باطل، لأن هذا إنما حصل بقدرته ومشيئته، لا شريك له في ذلك، فلم يكن في ذلك محتاجا إلى غيره وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه غيره، كان كما لو قيل كمل بصفاته، وبذاته" (15) .
3- "أن العقل الصريح يعلم أن من فعل فعلا لا لحكمة، فهو أولى بالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة، ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب كونها فيه، فكيف يجوز أن يقال: فعله لحكمة يستلزم النقص، وفعله لا لحكمة لا نقص فيه" (16) .
4- "أنه ما من محذور يلزم بتجويز أن يفعل لحكمة، إلا والمحاذير التي تلزم بكونه يفعل لا لحكمة أعظم وأعظم..." (17) . (36)
ويرى الأشاعرة أن أفعال الله وأحكامه لا تعلل بالعلل والأغراض ولا تتوقف على الحكم، إذ كل ذلك بمحض مشيئته وإرادته.
قال الآمدي: "مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها!، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر لم يكن لغرض قاده إليه ولا لمقصود أوجب الفعل عليه" (18) .
فتراه ينفي توقف الخلق على الحكمة، والأشاعرة لا ينفون ثبوت الحكمة، إذ لا ينكرون ترتب الحكم على أفعال الله، وإنما الممنوع عندهم أن تكون مقصودة سابقة للفعل، وهذا ظاهر من كلام الآمدي، أما إثباتها ففي مثل كلام الباجوري حيث قال معدداً صور المماثلة التي ينزه الله عنها: "أو يتصف بالأغراض في الأفعال والأحكام... "ثم قال": فلا ينافي أنه لحكمة وإلا لكان عبثاً وهو مستحيل في حقه تعالى" (19) .
ومما ينبغي أن يعلم أن بعض الأشاعرة يثبت الحكم في الأحكام فيعلل بها، وهذه طريقة من تأثر منهم بالفقه كقول التفتازاني: "والحق أن تعللي بعض الأفعال لا سيما شرعية الأحكام بالحكم والمصالح ظاهر... ولهذا كان القياس حجة إلا عند شرذمة لا يعتد بهم وأما تعميم ذلك بأن لا يخلو فعل من أفعاله عن غرض فمحل بحث" ا هـ (20) . وقال الرازي: "إن غالب أحكام الشرع معلل برعاية المصالح المعلومة" (21) وهو قد ذكر أدلة كثيرة في كتبه على نفي تعليل أفعال الله بالحكمة (22) ولكنه قد يذكر في بعض المواضع جواز ذلك تفضلاً من الله وإحساناً لا وجوباً عقلياً على الله (23) . وهذا ينافي ما ساقه من أدلة تنفي جواز التعليل!.
وأصل هذا النزاع كان بين المعتزلة والأشاعرة، فالأولون أثبتوا العلل والحكم القائمة بالخلق ولا يثبتون ما قام بالخالق وجروا على عادتهم في الإيجاب على الله تعالى بعقولهم، فشبهوا أفعاله بأفعال خلقه، فقابلهم الأشاعرة وغلوا في نفي ذلك، فنفوا مع الباطل حقاً. وسأعرض الشبه الحاملة لهم على نفي الحكم التي يسمونها أغراضاً إن شاء الله، فمنها:-
الشبهة الأولى: (24)
قالوا: لو كان الباري فاعلاً لغرض لكان في ذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، سواء قيل إن الغرض عائد حكمه إليه أو إلى خلقه.
الجواب: (25) وهو من وجهين:
الأول: من باب المعارضة: إن الأشاعرة يقولون: إن الأفعال حادثة بعد أن لم تكن، ولا يقولون إن الله كان ناقصاً قبل حدوثها، إذ أنه سبحانه فاعل بالقوة – أي أن الفعل ممكن له – فيقال لهم: ينبغي على قولكم هذا أن تحذوا بالحكمة حذو الفعل، فإن الله متصف بالحكمة أزلاً كسائر صفات ذاته، ثم تقع الأشياء حسب ما تقتضيه حكمته، وعليه فليس عدم كل شيء نقصاً، بل الصحيح أن يقال: حدوث ما لا تقتضيه الحكمة هو النقص كما أن عدم وجود ما تقتضي الحكمة وجوده هو نقص أيضاً.
الثاني: من جهة حل الشبهة: وهو أن قد أثبتنا الحكمة صفة لله تعالى، والصفات كلها الذاتية والفعلية قائمة بذات الله تعالى، فالحكمة إذن ليست منفكة عن الذات حتى يقال إنه صار مستكملاً بغيره، وإنما هي صفة قائمة به – وعليه فلا إشكال إذا قيل أنه كمل بحكمته، إذ هو نظير قولنا كمل بذاته وصفاته.
الشبهة الثانية:
قال الباقلاني: "لو كان تعالى فاعلاً للعالم لعلة أوجبته لم تخل تلك العلة من أن تكون قديمة أو محدثة، فإن كانت قديمة وجب قدم العالم لقدم علته وألا يكون بين العلة القديمة وبين وجود العالم إلا مقدار زمان الإيجاد، وذلك يوجب حدوث القديم، لأن ما لم يكن قبل المحدوث إلا بزمان أو أزمنة محدودة وجب حدوثه، لأن فائدة توقيت وجود الشيء هو أنه كان معدوماً قبل تلك الحال، فلما لم يجز حدوث القديم لم يجز أن يكون العالم محدثاً لعلة قديمة. وإن كانت تلك العلة محدثة فلا يخلو محدثها أن يكون أحدثها لعلة، أو لا لعلة، فإن كانت محدثة لعلة وعلتها محدثة وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى وكذلك أبداً إلى غير غاية، وذلك يحيل وجود العالم جملة لتعلقه بما يستحيل فعله وخروجه إلى الوجود. وإن كانت العلة والخاطر والداعي والباعث والمحرك محدثة لا لعلة، وكانت بالوجود لما وجدت من فاعلها أولى منها بالعدم لا لعلة، وكان فاعلها حكيماً غير سفيه جاز حدوث سائر الحوادث منه لا لعلة وكان حكيماً غير سفيه..." (26)
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: - قوله "فإن كانت قديمة وجب قدم العالم لقدم علته" ينتقض بصفة الإرادة، فالأشعرية يقرون بقدمها مع قولهم بحدوث المراد، فلما لم يلزم من القول بقدم الإرادة قدم المراد لم يلزم من قدم الحكمة قدم الفعل – أي المفعول - (27) .
الوجه الثاني: وهو عن لزوم التسلسل إذا قيل إن العلة محدثة، وهي محدثة لعلة وهكذا...
وجوابه، إن هذا التسلسل الصحيح أنه في المستقبل، لأن الحكمة من الفعل تحصل عقبه وإن كانت مقدمة عليه في التصور، ولا شك أن التسلسل في الآثار المستقبلة جائز بل واقع كما هو الحال في نعيم الجنة وعذاب النار الدائمين، وهذا مما يسلم به الأشعرية فيلزم أن يسلموا به في الحكمة، وعليه فقولهم: "وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى..." قول ممنوع، وهو وارد على تعليل العلل، أي إذا فعل فعلاً لعلة فما هي علة هذه العلة وهكذا... فإنا نقول: الحكمة التي ذكروها هي التي يعود حكمها إلى الرب، وكل الحكم تعود على حكمة لا حكمة فوقها "فالمفعول لأجله مراد للفاعل محبوب له، والمراد المحبوب تارة يكون مراداً لنفسه وتارة يكون مراداً لغيره، والمراد لغيره لابد أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعاً للتسلسل، وهذا كما نقوله في خلقه بالأسباب: إنه يخلق كذا بسبب كذا، وكذا بسبب كذا حتى ينتهي الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الرب، فكذلك يخلق لحكمة، وتلك الحكمة لحكمة حتى ينتهي الأمر إلى حكمة لا حكمة فوقها" (28) .
الوجه الثالث:- وهو عن لزوم القول بوجود محدث أحدث ابتداء لا لعلة، ومن ثم لزوم نفي العلل كلها؛ وهو في قوله: "وإن كانت العلة والخاطر والداعي... إلخ" فالجواب: إنا قد قدمنا في الوجه الثاني أن الحكم تنتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها، ولم نسلم بأنه لا توجد حكمة تعود إليها كل الحكم، ولذلك فهذا الاحتمال – وهو قوله: "محدثة لا لعلة" – احتمال غير وارد ولا نسلم به، مع ملاحظة أن استعمال ما جاء به الشرع من لفظ الحكمة هو الصحيح، ولا يجوز التعبير بما يوهم باطلاً كالمحرك والباعث والخاطر...
ثم إن قوله: "جاز حدوث سائر الحوادث منه لا لعلة" فكلام مبني على توهم وجود فعل خلا من الحكمة وقد منعناه، مع ملاحظة أن دعواه أعم من دليله، فهو قد جوز خلو الأفعال من الحكم بناءً على نفي علة العلة الأولى للفعل، فما ذكره فيه سلب العموم لا عموم السلب، كيف وقد بينا سابقاً أن الحكم كلها تعود إلى حكمة لا حكمة فوقها فدليله من أساسه منهار، ومع انهياره فهو لا يدل على ما ادعاه.
الشبهة الثالثة (29) :
قالوا: لو كان شيء من الممكنات غرضاً لفعل الباري لما كان ذلك الممكن حاصلاً بخلق الله ابتداءً، وإنما بتوسط الغرض، والغرض هو إيصال اللذة إلى البعد أو دفع الألم عنه، وقد علم إجماعاً أن الله قادر على إيجادها ابتداءً فيكون إثبات هذه الوسائط عبثاً ينزه الله عنه.
الجواب:
لا نسلم أن الحكمة منحصرة في الشيئين المذكورين فقط – لأن هذه الحكمة راجعة إلى المخلوق، ونحن نثبت حكمة أخرى – غير هذه معها – يعود حكمها إلى الله من حيث إنه يحبها ويرضاها، كما أننا ننكر تسمية الحكمة بالغرض – وعلى فرض التسليم – بحصر الحكمة فيما ذكروه – فإن غاية هذه الشبهة هو أن الله قادر على تحصيل الحكمة بدون هذه الوسائط وقادر على تحصيلها بها، والعدول عن أحد المقدورين إلى الآخر لا يسمى عبثاً إلا إذا كان المعدول إليه مساوياً للآخر من كل وجه أو كان دونه، وهذا ما لا يمكن إثباته، بل الشرع والعقل بخلافه، فإنه لا يمكن أحداً أن يقول مثلاً: إرسال الرسل وعدم إرسالهم سواء، ومعلوم أن الشيء يكون عبثاً إذا كان لا فائدة منه، أما إذا كان وجود الوسيط سبباً أو شرطاً لحصول شيء لم يكن وجوده عبثاً كوجود آلات الإحساس التي هي شرط لتحصيل الحس، ولا يقول عاقل إن وجودها عبث، فإن وجودها ضروري، وما قال أحد بالعبث في إيجادها، فكذلك يقال في بقية الحكم المعلومة وغير المعلومة لنا (30) .
الشبهة الرابعة (31) :
قالوا: لو كانت أفعاله معلقة بالأغراض والحكم ما خلا فعل منها، والمشاهد خلو بعضها عن ذلك، كإيلام الأطفال وخلق الشرور والكفر.
الجواب:
لما أثبت أهل السنة الحكمة لم يدعوا علمهم بكل حكمة، وما أورده الأشاعرة غاية ما فيه: عدم علمهم بالحكمة فيما ذكروه، وعدم العلم بالحكمة لا يعني عدمها – وهو واضح – وتمام الإجابة على هذه الشبهة وبالعلم بأن أفعال الله كلها خير، وكل خير فإنه داخل في أسماء الله وصفاته ومفعولاته بالذات وبالقصد الأول، والشر لا يدخل في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو إنما يدخل في معقولاته بالعرض لا بالذات، وبالقصد الثاني لا الأول دخولاً إضافياً، وهذا مثل إنزال المطر والثلج وتصريح الرياح والشمس، فهذه كلها خيرات في نفسها وفيها حكم ومصالح وإن كانت شراً نسبياً إضافياً في حق من تضرر بها (32) .
ويلاحظ أن الأشاعرة قد استعملوا لفظ (الغرض) مكان (الحكمة) وهذا الاستعمال غير صحيح لإيهامه الباطل، ثم إن ما ذكر من الأدلة الدالة على إثبات الحكمة لله تعالى كثيرة لا يمكن دفعها، وقد تقدم ذكر شيء منها، وبمعرفتها والتيقن منها تزول الشبهات الواردة من نفاتها، إذ لا قرار للشبهات مع الحق المتيقن الثابت.
إلزامات على نفاة الحكمة (33) :
1- من المعلوم أن الله يستحق الحمد بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فالله له الحمد على جميع ما خلقه ويخلقه لما له فيه من الحكم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل، فيلزم من نفي الحكمة أن ينفي الحمد معها، إذ الحمد من لوازم الحكمة، والحكمة إنما تكون في حق من يفعل شيئاً لأجل شيء، وعندهم أن الله بخلقه ما ينفع العباد أراد مجرد وجوده لا نفعهم، فكيف يحمد على أصلهم على فعل ليست له فيه حكمة – وهي منفعة العباد -! ويتبين هذا بضرب مثال في فعل العدل وترك الظلم.
فالله تعالى حمد نفسه على فعل العدل وترك الظلم، وعباده المؤمنون يحمدونه على ذلك، وهذه من الحكم، أما الأشاعرة الذين يفسرون الظلم بأنه الممتنع الذي لا يدخل تحت المقدور فيقال لهم:
من المعلوم أنه لا يمدح الممدوح بترك ما لو أراده لم يقدر عليه، وعندكم أن الظلم لا يقدر الله عليه فأي مدح له على شيء لم يفعله لعدم قدرته عليه؟!
ونحن نقول: إن الله قادر عليه إلا أنه لا يفعله لتمام حكمته وعدله ورحمته سبحانه وتعالى، ومما يدل على قدرته عليه قوله في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) (34) ، فقوله: ((وجعلته بينكم محرماً)) يدل على أنه ظلم مقدور يستحق تاركه الحمد والثناء.
2- من اعتمد منهم إثبات العلل والمصالح في الأحكام الشرعية يقال له: لم فرقت بين إثبات العلل والحكم في أحكامه وبين إثباتها في أفعاله؟ ولن يجد لذلك جواباً فإما أن يلتزم نفي الجميع فيكون الرد عليه بما تقدم، وإما أن يلتزم إثبات الجميع وهو الحق.
3- قالوا في دليل إثبات العلم لله بالعقل: "الله تعالى فاعل فعلاً متقناً محكماً بالقصد والاختيار، وكل من كان كذلك وجب له العلم" (35) .
فيقال لهم: قد استدللتم على إثبات علم الرب بما في مخلوقاته من الإحكام والإتقان بشرط قصد ذلك، فأثبتم له قصداً، ونحن نقول إنه قصد حكمة أرادها من خلقه، فأثبتم قصده في العلم ونفيتموه في الحكمة، وكان اللازم إثباتهما حتى لا يحدث اضطراب وتناقض، وإلا لزم من نفي الحكمة نفي العلم. والصواب إثبات القصد في العلم والحكمة. فمن نفاه في الحكمة وأثبته في العلم كان متناقضاً.[تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيهاhttps://dorar.net/firq/364/%D8%A7%D9...A%D9%87%D8%A7:

]