التبصرة
الفن: الفقه المالكي
سنة النشر: 1432هـ- 2011م
رقم الطبعة: الأولى
عدد المجلدات: 15
إصدار: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر.
التعريف بالمصنِّف
هو الإمام أبو الحسن علي بن محمد الربعي القيرواني المالكي؛ المعروف باللخمي، نزيل صفاقس التونسية، وكان فقيهًا فاضلًا ديّنًا مفتيًا متفننًا، ذا حظ من الأدب والحديث، جيد النظر، حسن الفقه، جيد الفهم، وكان فقيه وقته، أبعد الناس صيتًا في بلده، وبقي بعد أصحابه، فحاز رئاسة بلاد إفريقية جملة، وكان حسن الخلق مشهور المذهب، توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (478هـ) رحمه الله.
أهمية الكتاب
ذكر محقق الكتاب د.أحمد نجيب أنه لا تخفى على طالب علم مكانةُ «مختصر خليل» عند فقهاء المالكية المتأخرين، حيث صار عامة أتباع المذهب معتمدين على المختصر، وليس الباعث على ذلك مكانةَ مؤلِّفه وحسب، بل ثمة أسبابٌ كثيرةٌ تُعلي من قدره وتزيد من شأنه؛ أجلُّها أصالةُ المصادر التي استَخرج منها مسائله، وهي تلك التي أشار إليها في مقدمته التي أجاب فيها سائلَه، حيث قال رحمه الله ما ملخَّصُه: «...سألني جماعةٌ مختصرًا على مذهب الإمام مالك بن أنس، مبينًا لما به الفتوى، فأجبتُ سؤالهم مشيرًا بـ«فيها» للمدونة، وبـ«الاختيار» للخمي، وبـ «الترجيح» لابن يونس، وبـ«الظهور» لابن رشد، وبـ«القول» للمازري»، فاختيارات اللخمي في «التبصرة» عمادٌ من عمُد المختصر الخليلي، وهي مهمة جدا حتى لو خالف اللخمي فيها غيره من الشيوخ، وقد رمز له خليل في مختصره برمزَين لتمييز ما أورد فيه من أقوال اللخمي فهو يشير إلى اختياره هو في نفسه بصيغة الفعل، وإلى اختياره من الخلاف بصيغة الاسم.
ولا يكاد يخلو كتاب من كتب المالكية الذين جاءوا بعد اللخمي من نقل كلامه واختياراته في «تبصرته»، فهي من أهم ما يُرجَع إليه في تحرير رواية المتقدمين، وتقريب أحكامها.
نعم؛ وقعت في «التبصرة» اختيارات خرجت عن المذهب، وأيُّ غضاضة في ذلك مادام المصدرُ كتابَ الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، واللخميّ أقلها مجتهد في المذهب، ومع ما في «التبصرة» من اختيارات خارجة عن المذهب فقد تلقاها العلماء بالقبول، ولم يعترض عليها بشيء سوى ما قيل من أنَّه لا يفتى بها في المذهب.
والقول بعدم اعتماد «التبصرة» في الفتوى قولٌ مقبول من حيث قانون أئمة المذهب فيما يعتمد وما لا يعتمد؛ فللإفتاء قواعد تختلف من مذهب إلى مذهب، فلكلِّ مذهبٍ طريقة مختلفة في تعيين الصَّحيح والرَّاجح أو ما عليه الفتوى، جَرَّ إلى ذلك اختِلُافهم في الأصول، فإن الحنفية لا يَذكُرونَ مشهورًا أو تصحيح روايةٍ؛ لأن مناطَ النَّظر عندهم ليس على صحةِ نسبة القول للإمام وحسب، فيعبرون بـ«المفتى به»؛ لأن في مذهبهم جَمْعًا ممن سَلَّمُوا لَهُم الإمامةَ غيرَ أبي حنيفة، كأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزُفر، فلهم مسلكٌ في الإفتاء حينًا برأي هذا وحينًا برأي ذاك، وكذا الشَّافعية عندهم وجوه وقديمٌ وجديد، والحنابلة لهم رواياتٌ؛ معتمدٌ منها وغير معتمد. فإذا صَحَّح هذا، لَزِمَ منه ألَّا تَصِحَّ قاعدةٌ في التقليد والفتوى إلا من ذات المذهب؛ لاختلافهم في الحقائق والمعاني.
أما المالكية فالعبرةُ عندهم إنَّما هي بقول الإمام لا غير، فلا يُعدل عنه البتة لقول أحدٍ من نُظَّار أصحابه، بلا خلاف صحيح يُعتدُّ به؛ لأنه تقرَّر في الأصول عندهم أنه لا يجوز إلاّ تقليد المجتهد المطلقِ، ثم قُيِّد بالأئمة الأربعة، وعلماءُ المذهب ليسوا من أهل الاجتهاد المطلق. وقرَّر المحقِّقون من أهل المذهب أنه لا ابنُ القاسم ولا غيره أهل اجتهادٍ مُطلقٍ.
فإن كان خلافٌ في النَّقل عن الإمام فلهم فيه تفصيلٌ دقيقٌ قائمٌ على قواعدَ مَتينة، من تقليد الأطول صُحبة وآخرِ النَّاس عهدًا بالإمام، فإن كان الأمرُ بعد عهد تلاميذ الإمام؛ فالقولُ قول المُعتنين بالمدونة من المغاربة لا العراقيين؛ لأنهم ألصق بفروع الإمام وحافظوه، وأولئك ألصقُ بما ينصُره من دليل، والحافظُ متقيِّد، والنَّاصر ربَّما نصرَ بدليل في تضاعيفه ما لا يقبلُه الإمام، خاصَّة أن أولئك المنتصرين لا ينتصرون في الغالب بدليلٍ جُزئي نَصَّ عليه الإمام، وإنما ينتصرون بأدلَّة جزئيَّة مُستمدةٍ من الأدلة الكُلِّيَّة التي يقول بها الإمام، وهذه الطَّريقة وإن كانت صحيحةً في نفسها إلاّ أنه يتطرَّقُ إليها الاحتمال.
فإذا تقرَّر هذا فكل ما ينُقل من خلافٍ عن أصحاب مالك؛ إن كان في مقابل قول الإمام طُرِحَ من جانب المقلِّد؛ لأنهم ليسوا بمجتهدين، وإنما ساغ لمثلهم خلاف مالك وهم مُقلِّدوه للمسألة المرسومة في كتب الأصوليين بتجزُّؤ الاجتهاد. أمَّا المقلِّد الذي ليس هو بأهل لطُرق التَّرجيح والتَّشهير فلا يعمل بغير نصِّ الإمام.
أما إذا اختلف المنقول عن الإمام وتعارض، فتأتي مسألة تعيين الرَّاجح والمشهور.
قالوا: والرَّاجح: ما قَوِيَ دليلُه. والمشهور: ما كَثُرَ قائله. وقيل بعكسهما، أي الرَّاجح ما كثر قائله والمشهور ما قوي دليله.
ثم إن قيل: الرَّاجحُ ما قوِيَ دليلُه، بمعنى أن الدَّليل بِحَدِّ ذاته قويٌّ ناهضٌ بالحُجَّةِ. إن عمل به لأنه مذهب مالك فقد تَقَوَّلَ على مالك، لأنه لا يصح في العقل أن مَن ظَنَّ رُجحان دليلٍ، صار ما ظَنَّهُ دالًّا عليه الدليل- حسب فهمه- مذهبَ مالك، ويلزم منه أن يكون مذهب مالك مذاهب لا مذهب، فلا يَختبئ هذا المُرجِّح خلف مالك، وليُصرح بأنه يرجِّح لذات الدَّليل بلا التفاتٍ لمالك، وإن قال إنما آخُذ بما قوي دليله من قول مالك، هذا أيضًا أخذٌ بالرَّأي المقوي عندَهُ هو لا رأي مالك، لأنه ليس من طرق معرفة نسبة القول لقائله أن يكون هذا القول قويًّا دليلُه عند النَّاظر، إنما النَّظر في النَّاقل عن الإمام والقرائن لا مُطلق قوَّةِ الدَّليل، وتقدَّمَ أن الرُّجحان في الدَّليل عن فلان وفلان من نُظَّار المذهب لا يلزم منه أن يكون راجحًا عند الإمام.
أما إذا اختُلِفَ في فهم نصِّ الإمام بين الأصحاب، فالمَهْيَع هنا أن تورد تأويلات وتفسيرات عبارة الإمام التي حرَّرها أصحابه ونظار مذهبه، فينظر في قوتها من جهة دلالة عبارة الإمام، وتوافقها مع قواعده وأصوله وهو أمرٌ ليس بالهين.
فإذا تقرر هذا فليعلم أنَّ عدم الإفتاء بما في «كتاب التبصرة»؛ فمردُّه إلى كونها ليست من كتب هذا الفنِّ، وكون مصنِّفها رحمه الله غير ملتزم منهجَ المالكية في الإفتاء.
بقي أن نشير إلى أمرين متعلقين بفتاوى اللخمي على الخصوص، بعيدًا عن الكلام على تبييض «التبصرة» وتصحيحها وما أثير حوله.
الأمر الأول، أن فتاوى اللخمي كثيرة ظاهرة في دواوين المفتين والمصنفين في النوازل الفقهية، وقد سعى إلى جمعها وترتيبها الدكتور حميد لحمر فأثمر سعيه- مشكورًا- إلى إخراج مائة واثنتين وثمانين فتوى نشرها في كتاب بعنوان «فتاوى الشيخ أبي الحسن اللخمي القيرواني»، وهي خلاصة فتاوى اللخمي في نوازل البرزلي، ومعيار الونشريسي، وما يعنينا من ذلك هو اعتماد المالكية هذه الفتاوى على الرغم من أن كثيرًا منها- إن لم يكن أكثرها- موجود في «التبصرة» أو منقول منها بفوارق طفيفة.
والأمر الثاني أن متأخري المالكية أجمعوا على تلقي مختصر الشيخ خليل- وما أودعه بين دفتيه- بالقبول، وهو الكتاب الجامع لما به الفتوى في المذهب، فلزم من اعتماده اختيارات اللخمي ونصِّه عليها صراحةً، بل تقديم التبصرة في ترتيب مصادره الأربعة التي هي لبُّ لباب الكتاب- رفع الخلاف الواقع في اعتمادها في الفتوى أو الإفتاء بما فيها.
بل إن الشيخ خليل رحمه الله ذهب أبعد من ذلك فأورد في مختصره اختيارات اللخمي التي خالف فيها من سبقه من أئمة المذهب وفقهائه، مع أنَّ هذا هو عين ما اعتبره غيره تمزيقًا للمذهب، وخروجًا عليه، رحمة الله عليهما.
منقول