فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم
أبو الهيثم محمد درويش
{فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} :
فضل الله تعالى بني إسرائيل على أهل زمانهم بالنبوة والعلم والإيمان , ورزقهم من الطيبات , وأقيمت عليهم الحجج البينات , فما دب بينهم الاختلاف والتباغض إلا بسبب حسد بعضهم لبعض وبغض بعضهم بعضاً وتناحرهم وغل قلوبهم رغم ما معهم من أسباب اجتماع الكلمة وإرضاء الرب سبحانه إلا أنهم خالفوا النور الذي أنزله الله إليهم واتبعوا الأهواء وانتصروا لها , والله تعالى يقضي بينهم يوم القيامة ليجزي أهل الحق على اتباعهم للحق وأهل الهوى على اتباعهم للأهواء.
قال تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الجاثية 16-17]
قال السعدي في تفسيره:
أي: ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعما لم تحصل لغيرهم من الناس، وآتيناهم { {الكتاب} } أي: التوراة والإنجيل { {والحكم } } بين الناس { {والنبوة } } التي امتازوا بها وصارت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، أكثرهم من بني إسرائيل، { {وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ } } من المآكل والمشارب والملابس وإنزال المن والسلوى عليهم { {وَفَضَّلْنَاهُ ْ عَلَى الْعَالَمِينَ} } أي: على الخلق بهذه النعم ويخرج من هذا العموم اللفظي هذه الأمة فإنهم خير أمة أخرجت للناس.
والسياق يدل على أن المراد غير هذه الأمة فإن الله يقص علينا ما امتن به على بني إسرائيل وميزهم عن غيرهم، وأيضا فإن الفضائل التي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة وغيرها من النعوت قد حصلت كلها لهذه الأمة، وزادت عليهم هذه الأمة فضائل كثيرة فهذه الشريعة شريعة بني إسرائيل جزء منها، فإن هذا الكتاب مهيمن على سائر الكتب السابقة، ومحمد صلى الله عليه وسلم مصدق لجميع المرسلين.
{ {وَآتَيْنَاهُمْ } } أي: آتينا بني إسرائيل { {بَيِّنَاتٍ} } أي: دلالات تبين الحق من الباطل { {مِنَ الْأَمْرِ } } القدري الذي أوصله الله إليهم.
وتلك الآيات هي المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه السلام، فهذه النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه وأن يجتمعوا على الحق الذي بينه الله لهم، ولكن انعكس الأمر فعاملوها بعكس ما يجب.
وافترقوا فيما أمروا بالاجتماع به ولهذا قال: { {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} } أي: الموجب لعدم الاختلاف، وإنما حملهم على الاختلاف البغي من بعضهم على بعض والظلم.
{ {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} } فيميز المحق من المبطل والذي حمله على الاختلاف الهوى أو غيره.