جولة في قافية الحياة
أحمد بن عبد المحسن العساف
القسم الثالث عنوانه: المشوار الصحفي، وهو مشوار مشرف جداً، فعمل الرجل في إنشاء مؤسسة الدعوة، وتحريرها بإبداع مما يذكر له، ومقالاته وأشعاره ليس فيها إلا جميل اللفظ، وسامي المعنى، حتى لو خالفه أحد في رأي، وهي منّة من الله على المثقف حين يهب انتاجه الحياة الطويلة، مع المهابة والكرامة، وقليل من معشر الكتاب من تجتمع له.
وكان من أهدافه حين قبل العمل في مؤسسة الدعوة نفي الانتماء للناصرية عن نفسه، والتبرؤ من تهمة معاداة الدولة، وما ابتلي المثقفون بشيء أكثر من هذه التهم التي تكال لهم جزافاً من كتبة التقارير المغرضة أو العمياء، فضلاً عما يفوه به المرتزقة والطبول البشرية، وأعان الله مثقفي آل إدريس على ما لقوه وما يلقونه من أذى المتسلقين، حتى همَّ كاتب جميل من نسل المؤلف أن يكسر قلمه! فيا لله والعقلاء من يوقف هذا البلاء؟!
وصدر العدد الأول من الدعوة في العاشر من المحرم عام 1385، وكتب الملك فيصل كلمة مختصرة لها نشرت في مفتتح العدد الثالث، مما جعل الدعوة وابن إدريس محل الغيرة من زملاء المهنة ولا يلامون. وكانت المجلة متنوعة عصرية من منطلقات إسلامية، ويبدو أنها ولدت شبه مكتملة، ولذا لم يدم شبابها ونضوجها! وكان يعمل فيها أحد عشر رجلاً يجتمعون في غرفة واحدة، وممن عمل مع الدعوة في بداياتها الإعلامي سليمان العيسى الذي اختص فيما بعد بتلاوة الأوامر الملكية، والكاتبان عبد الرحمن السماري، وخيرية السقاف.
كما حظيت الدعوة بثناء خاص من أول وزير للإعلام وهو الشيخ جميل الحجيلان، وكان الثناء خلال اجتماعه برؤساء التحرير، مما أحفظ بعضهم، وظل يطارد الوزير إلى مكتبه محتجاً على هذا الإطراء، والعزاء لقراء صحيفة هذه طريقة تفكير رئيس تحريرها! ولابن إدريس مواقف خلال عمله الإعلامي مع مسؤولين في الإعلام، والديوان الملكي، ومع الملك حسين في الأردن، وخبرها مفصل في الكتاب.
بيد أن أطرف موقف كان من طبخة نشرتها المجلة، وقالت المعلمة الطباخة في نهاية الوصفة: ثم صبي على الطبق قليلاً من الكونياك! ولأن المؤلف معافى من المسكرات، وهو أقرب للتراث منه لغيره كغالب القراء، فقد ظن بعد أن عرف هذه الورطة أن الواقعة ستمر خاصة أنه كان مجازاً وقتها، لكن الأمر تعاظم حتى بلغ مجلس الوزراء، الذي قرر معاقبة رئيس التحرير بدفع غرامة قدرها ألف ريال، ثم رفعت عنه لما اتضح أنه كان مسافراً حينها.
وكان للدعوة صولات في حرب اليمن، ومآسي المسلمين، وساهمت في إقصاء مسؤول كويتي عن منصبه في وزارة الإعلام؛ لأنه أذاع أغنية تعبث بآيات من القرآن العزيز. هذا، فضلاً عن إثارة قضايا المرأة، تلك القضايا التي كان يجب حمل أمانة الحديث عنها، وعدم تركها لأصحاب الانحرافات الفكرية أو السلوكية، وهو مالم يكن مع عظيم الأسف.
ثم انتقل ابن إدريس إلى القسم الرابع بعنوان: كتابي" شعراء نجد المعاصرون"، ولكل كاتب إنتاج قريب إلى نفسه، ولعل هذا الكتاب قد ساهم في التعريف بالمؤلف في بلدان عدة، وكان جسراً بينه وبين أدباء ومثقفين في أنحاء متفرقة من العالم، وهو مما يحمد للمؤلف حين نهض لهذا العمل المغفول عنه، وشرع فيه منذ عام 1378، واستبعد منه أشعار المدح والهجاء؛ وحسناً فعل.
وصرم الأديب عامين في الجمع والدراسة، وحين فرغ منه زار أمير الرياض حينذاك-الملك سلمان- وطلب منه الكتابة للملك سعود؛ لتحمل تكلفة طباعة الكتاب، فوافق الملك سعود بشرط فحص الكتاب، وهو مالم يعجب المؤلف؛ لأن قلم الرقيب أحد من شفرة الحلاق، وقرر طباعته على حسابه الخاص، والكتب-طباعة وشراء- ترهق المثقفين مالياً؛ خاصة الشرفاء منهم.
وطبع من الكتاب خمسة آلاف نسخة، ووزع في مصر والمغرب العربي والشام، واشترى الديوان الملكي وجامعة الملك سعود مئات النسخ منه، وأهدى المؤلف نسخاً منه لكبار مثقفي العربية وكتابها كشاكر والعقاد والزيات والزركلي ومندور وطه حسين، ومحمود حسن إسماعيل، ولأحمد سعيد الإعلامي المعادي للمملكة فيما بعد، وكتب بعض هؤلاء عن هذا الكتاب، الذي صادف تلهفاً في نفوس القراء نحو الأدب النجدي المشهور قديماً بشعراء فحول، ومفاتن خلدتها القوافي، كما كتبت عنه بنت الشاطئ، ونازك الملائكة، ومجلة الجندي، وغيرها، وحظي بثناء العقاد، وأمين عام الجامعة العربية، ووزير المواصلات السعودي حينذاك.
رئاستي للنادي الأدبي بالرياض هو عنوان القسم الخامس، وأهم معلومة فيه هي أن فكرة إحياء سوق عكاظ طرحها الأمير فيصل بن فهد عام 1395 على مجموعة من الأدباء والمثقفين، الذين أبدوا تخوفهم من الإجهاز على الفكرة لحساسيتها حينذاك، ويبدو أن الفكرة تأجلت ولم تمت، حيث أحيي سوق عكاظ بعد ثلاثين عاماً تقريباً من ذلك الاجتماع، وليست المشكلة في السوق بقدر ما هي في محتواه وطريقة إدارته التي لا تختلف عن جل الأنشطة الثقافية والإعلامية التي تعاني من إقصاء فاقع، ومكارثية مخجلة.
وبدلاً من عكاظ اقترح الأستاذ عزيز ضياء إنشاء أندية أدبية، فوافق الأمير من فوره، ورأى أن يتقدم أديبان من كل منطقة على أن يكونا الأكبر سنّاً، وبذلك تكونت ستة أندية خلال وقت واحد في الرياض، ومكة، والمدينة، وجدة، والطائف، وجازان، وكان الجاسر وابن خميس هما من قدما طلباً لافتتاح نادي الرياض الأدبي، وتولى ابن خميس رئاسته، فعبد الرحمن بن عقيل، ثم آلت الرئاسة للمؤلف في منتصف رجب عام 1401.
ونهض ابن إدريس بالنادي على ضعف موارده المالية، وسعى لتوسيع مقره حتى حصل على أرض كبيرة في شمال الرياض، وأقام أمسية نادرة حاشدة جمعت بين الشعر الفصيح (عبد الرحمن العشماوي)، والشعر الشعبي (خالد الفيصل). وسبق غيره في عقد أمسيات دعيت إليها النساء بعد تجهيز مكان خاص لهن، وأقام النادي فعاليات متعددة مع الحرص على ثقافة البلد، وليت أن الأندية الأدبية تبدع دون أن تبعد عن العرف الذي لا يضيع بين الله والناس.
عصا التسيار عنوان معبر للقسم السادس، وفيه تحدث المؤلف عن أسفاره، وإذا كان البعض ينظر للسفر على أنه متعة وترفيه، فهو عند المثقفين كذلك مع غنيمة المعارف واللقيا، وزيارة المكتبات والمتاحف، والآثار والأماكن الشعبية. وقد سرد ابن إدريس رحلاته منذ أن خرج من حرمة للرياض مروراً بالحج وأعظم بها من رحلة تستطعم ولا تنسى مهما صاحبها من مشاق، ثم زيارته لمصر التي كانت أحاديث الناس عنها حينذاك أشبه بالخيال، وواهاً لمصر وما حل بها من بعد يوليو البعيد أو القريب.وتحدث عن زيارته للبنان والشام، والجزائر والعراق والمغرب، وبريطانيا وإيران، وأمريكا وفرنسا، حتى عاد مرة
أخرى إلى عرار نجد، وبراري حرمة، وربيع مرابعه الأولى وفياضها. وفي بعض هذه الرحلات رافقه ابن عمه وابن شقيق زوجته الأستاذ المهذب عبد الله بن زامل الدريس الذي أصبح بحكم القرب والرفقة صديقاً للعائلة، علما أن أبا نايف من الكفاءات الوطنية المرموقة، وتولى وكالة وزارة الصحة للمختبرات، واختير عضواً في مجلس الشورى، وتفرغ أخيراً، ولعلنا أن نرى له سيرة ذاتية قريبة.
ومن طرائف رحلاته أنه أضطر لصوم رمضان مرتين خارج البلاد، وفي يوم رمضاني خارج البلاد، التهم الأيسكريم وهو صائم ناسياً، وزار تنزانيا عام 1399 بأمر من الملك فيصل كما قال -مع أنه في عهد الملك خالد- لتفقد أحوال المسلمين، وقد أعجب بطبيعتها الخلابة، وحماه الله من أكلة البشر وإن كان دليله واحداً منهم! وتفطن شاعرنا إلى حيلة مسؤول عراقي إبان حضوره مهرجان المربد، فلم يقع في حبال الساسة أو شراك المخابرات، وأخلق بذي الثقافة ألا يكون درويشاً أو جسراً، وألا يمنح ثقته وتزكيته بسهولة ولكل طالب.
الفصل السابع يحمل عنواناً من كلمة واحدة هي الأزمنة، وفيها أسهب في ذكريات العيد، والأضاحي، وموسم التمر، وموسم الجراد، ونفحات رمضان، وصلاة القيام، وملابس الأعياد، والأكلات الجماعية، وفيها ذكريات آسرة من أيام الزمن الجميل، ومواقف طريفة ومخيفة كما في نجاته من الذئاب بعد أن كاد الحمار يذهب به إليها غنيمة باردة، بيد أن الطفل حينذاك كان أحكم من أن يقوده حمار نحو وادٍ غاص بالسباع المفترسة!
وخصص ثامن الفصول للوفاء عن هؤلاء والذاكرة، وبدأ بأمه ولا غرو فهي أحق الناس بحسن الصحبة، وسرد بعض مواقفه مع والدته التي كانت حليمة تجاهه وتجاه جرأته، ثم وقف عند ذكريات أبيه الذي كان محتسباً وراقياً وطالب علم وإماماً، ثم تحدث عن لقائه الوحيد بالملك عبد العزيز وهو دون العشرين من عمره، وكان لقاء مهيباً، ثم روى ذكريات كثيرة مع الملك فيصل، وصحبته في السفر والمؤتمرات، وتلطف الفيصل مع الإعلاميين.
ومن المواقف النادرة أنه دعي لإلقاء قصيدة أمام الملك فيصل بمناسبة احتفال أهل الرياض بمبايعته، وحين اقترب من مقدم الحفل تفاجأ بقيام رجل آخر معه يحمل نفس اسمه ليلقي القصيدة، وعبثاً حاول صاحبنا إقناعه بأنه هو المقصود، وبعد فضل الله، ثم بحكمة الشاعرين المتشابهين اسماً، مع تعاون مقدم الحفل، ألقى المؤلف قصيدته المرتبة مسبقاً، وألقى الرجل الثاني قصيدته، وأتصور أن هذا الموقف لو حدث مثله الآن لكانت عواقبه وخيمة.
كما تناول المؤلف علاقته بالملك فهد، والملك عبد الله الذي كرمه في الجنادرية ومنحه وساماً عالياً، والشيخ حمد الجاسر، ورفيق الحريري، وقسطنطين زريق، والشيخ صالح الحصين، وعبد الله القصيمي الذي قاطعه المؤلف بسبب أفكاره الجانحة، وذكر أنه كان يستمع للقرآن في ختام حياته، وعبد الله العثيمين، وعبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعبد الكريم الجهيمان، وبهجة الأثري وليس (بهجت)، ثم ذكر بعض رفقاء دربه من غير المشهورين، وهذا من الوفاء النبيل.
وجعل الخاتمة بعنوان عندما تضاءلت نفسي، وروى فيه مفاجأة أسرته آل إدريس له بالتكريم مكذبين المثلين المشهورين: زامر الحي لا يطرب، وأزهد الناس في عالم أهله، ومتجاوزين عقدة الاحتفاء بالنابهين ولكن بعد رحيلهم-أمد الله عمر الشيخ على عافية وطاعة-، وكان الاحتفاء برعاية الملك سلمان حين كان أميراً للرياض، وبحضور نائبه الأمير سطام رحمة الله على الأموات المذكورين، وحفظ الأحياء على خير.
وفي نهاية الخاتمة وضع أبياتاً من قصيدته الشهيرة الموجهة لزوجه الفاضلة بعنوان: أأرحل قبلك أم ترحلين، وإذا كان الشيخ عبد الرحمن السعدي قد كتب تفسيره للقرآن، ورفع بذلك عن أهل نجد تهمة إهمال علم التفسير، فإن الشيخ عبد الله بن إدريس قد قضى بهذه القصيدة على فرية خلو الرجل النجدي من الرومانسية والعشق، وذلك من خلال الشعر الذي أبدع النجديون القدماء به تغزلاً وعشقاً.
وآخر عنوان لوريقات مختصرة جداً وفيها لباب بعنوان حصاد التجربة، فمن حصادها مركزية الإيمان وأهميته في حياة الإنسان، وأهمية النظر للدار الآخرة باعتبارها الباقية، وأن منجزات الإنسان وأعماله أهم من عدد سنوات عمره، ولا يبقى من الحياة إلا العمل الطيب. ثم ينصح المرء بأن يعيش لحظته، ويبتعد عن الحسد الذي يحرق قلب صاحبه.
وقد خلت السيرة من أي صور تذكارية، وفي مواضع منها أغلاط طباعية لعلها تصحح في الطبعات القادمة، وفيها خطأ نحوي واحد يستكثر مثله على أديبنا الكبير، وكنت أتمنى لو أسهب في سرد خبراته التربوية التي نجم عنها ثمار يانعة، ولو أنه ذكر لنا رؤاه في الحياة الاجتماعية والعلاقة الزوجية، كما أن الثقافة المحلية تنتظر منه نظرة متوازنة لواقعنا الإعلامي والثقافي وهو الخبير المجرب.
وآمل أن تدرك هذه المقترحات مع غيرها إذا أمكن، فما أحوج البلاد إلى آراء ناضجة صادقة من كبارها الذين لا يشك أحد في صدق نصحهم وعمق تجربتهم، وليت أن كل من يدون سيرته الذاتية، أن يعرج على جوانب من الرأي، ولا يكتفي برواية التاريخ مع أهميته، فمع الرواية ما أحوجنا إلى الدراية البصيرة.