مقتطف من " شرح حسبنا الله ونعم الوكيل "
عبد الفتاح آدم المقدشي
بسم الله الرحمن الرحيم..
الحمد لله..
اعلم أن الصبر مقرون باليقين كما قد جاء في مواضع من القرآن الكريم , فقد جاء مثلاً في جهاد بني إسرائيل مع طالوت , حيث ابتلاهم طالوتُ أولاً بالامتناع من شرب ماء النهر وهم عطشى إلا من اغترف غرفة بيده فجاوز هذا الامتحان المجاهدون الصابرون فاستحقوا بذلك أن يصفهم الله بالمؤمنين مما يدل على الأهمية العظيمة للصبر كما قال تعالى{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا}[ البقرة: 249 ]
ثم ابتلى الله هذه القلَّة القليلة المؤمنة بجيشٍ كبيرٍ عرمرم وعمالقة قوية فحقَّق الله – بحمد الله ومنته - إيمان المؤمنين المجاهدين المتيقنين الصابرين مما يدل على أن مجرد الإيمان والصبر لا يكفي ما لم يقترن بذلك اليقين والتوكل على الله في ذلك اليقين كما قال تعالى{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }[ البقرة: 249 ]
فكما صبروا لله وتيقَّنوا أمر الله مع توكُّلهم العظيم على الله واستعانتهم بربِّهم وحده كان دعائهم أيضاً: بأن يفرغ عليهم صبراً وأن يثبِّتهم الله وأن ينصرهم على القوم الكافرين.
أما الآخرون من جيش طالوت فقد نكصوا على أعقابهم وعصوا أمر الله كما قال تعال {قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}[ البقرة: 249 ]
بل الصبر مع اليقين تنال بالإمامة في الدين كما قال تعالى{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] وطبعا, ومع ذلك لابد من العلم النافع والعمل الصالح.
فبعض بني إسرائيل قد جعلهم الله- كما ترى - أئمة يقتدى بهم في الخير , وإنما نالوا بأن جعلهم الله مهتدين بأمره بشرطين ألا وهما: أولاهما: حينما صبروا وثانيهما: حينما تيقنوا بآيات الله.
فالمتصفون بالصبر واليقين لا يجاوزون أشد الابتلاءات فحسب كجهاد أعداء الله الذين أعدادهم وعتادهم ضخمة بل هم سيكونون أئمة يستحقون أن يكونوا قدوة ومصابيح دجى يهتدى بهم في مشارق الأرض ومغاربها وأئمة مهتدون وموفَّقون بأمر الله وتوفيقه ومعونته, كما كان كذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك لا يمكن لأي أحدٍ أن يتحمل الأمانة العظمى والمسؤولية الكبرى أو ما دونها من المسؤوليات بكمال التقوى والعدالة التامة والأمانة الكاملة إلا بالاتصاف بهاتين الصفتين العظيمتين ألا وهما الصبر واليقين.
فبالصبر العظيم مثلاً يكتسب المؤمنون منه صفات الحزم والثبات والشجاعة.
لذلك لا يمكن أبداً مهما يشتد الخطب وادلهمت الأمور ويتحزب على المؤمنين الأحزاب من كل جهةٍ وصوبٍ - كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في غزوة الأحزاب وحصل للمسلمين في زمن التتار - أن يهن المسلمون ويضعفوا ويستكينوا فيتراجعوا أو يتنازلوا عن حقهم الطيب الذي أنزلهم الله إليهم ليأخذوا بديله باطلاً خبيثاً.
وهكذا بيقينهم العظيم يكتسبون منه التوكل العظيم بالربِّ وحده والاعتماد العظيم عليه وحده والثقة العظيمة به سبحانه وحده والتفويض العظيم لله وحده وصدق الإنابة والاستسلام والاستعاذة والالتجاء إليه والاستجارة بالربِّ وحده, فمن كان حاله كذلك مع صبره العظيم ومع صفات الحزم والثبات والشجاعة فإن الله لن يضيِّعه أبداً ولا يُخيِّبه ويُخذِّله بل سينجح وسيفوز في كل أموره الدنيوية والأخروية بإذن الله.
أضف إلى ذلك ما وعد الله للصابرين من معية الله لهم وحبِّه لهم وأن يجزيهم أجراً بغير حسابٍ كما أن لمتيقنين بآيات الله سيبلِّغهم الله درجة الإحسان التي هي أعلا درجات الإيمان.
وما من شكٍ أن هاتين الصفتين – الا وهما الصبر واليقين - يتساندان ويكتملان كما يُعظِّمان عبد المؤمن حتى يجعلوه في درجة الصدِّيقين التي هي الدرجة التي دون النَّبيِّين.
وما أقلَّ من يحقِّقهما أشد التَّحقيق خصوصاً عند الابتلاءات أو دعني أقول لك: لا يكاد يبلغهما السالكون في عمقهما وغايتهما إلا من رحم الله, وإنما المطلوب والمقصود هو هذا التحقيق الذي نحن بصدد شرحه وتفصيله ولا يَنال ذلك إلا لمن أراد الله له خيراً, لذلك قد أخبر الله سبحانه أن الصبر لا يعطيه لكل الناس بل إنما يُعطى لصاحب نصيب الأكبر والحظ الأوفر كما قال تعالى {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35 ]
وقد جاء التكلم عن ملاقاة الله سبحانه في سورة البقرة في مواضع كثيرة , غير موضوع الجهاد ألا وهو الحذر من الانغماس في الشهوات مع عدم التقديم للنفس ما يصلحها في الدنيا والآخرة كتقوى الله وعدم الغفلة والجهل عن ملاقاة الربِّ سبحانه وجلَّ جلاله لننعم في الآخرة كذلك كما ننعم هنا في الدنيا, وما أروع وأحسن تربية القرآن على الفضائل في كل مناسبة.
كما قال سبحانه وتعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223 ]..
فكيف إذا كان الأمر بمجرد اتِّباع للشهوات الحرام والترك والتشاغل عن العبادات كالصلوات وقراءة القرآن والأذكار وغير ذلك.
فقد توعَّد الله لمن سلك مثل هذا المنحنى الخطير والمنزلق العظيم في سورة مريم بعد الثناء على الأنبياء وممن هداهم الله واجتباهم من الصالحين كما قال تعالى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] وقال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28 ].
وما من شكٍ أن الانكباب على ملذَّات الدنيا وشهواتها تعمي العباد عن الحق وعن الآخرة والاشتغال بها كما تسبب الهزائم تلو الهزائم والهلاك العام للمسلمين.
ولذلك ينبغي على مُحبِّي الآخرة أن يُخرجوا عن قلوبهم محبة الدنيا كما يجب عليهم التطلُّع إلى عظيم أجر الآخرة ونعيمها الباقي , ولذلك وجَّه الله أمر القتال في سبيل الله للذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة كما قال تعالى {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيماً} [النساء: 74]
ولأن الإنسان مستحيل أن يكون ذو قلبين فالأمور ليست مزدوجة هكذا كما قد يظنه بعض الناس, وإنما هي بين أمرين إما أن تعظِّم في قلبك محبتك للآخرة وإما للدنيا كما قال تعالى {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ}[ آل عمران: 152] فهنا ترى أن الله سبحانه قد فصَّل ما كان يخلطه بعض الصحابة ألا وهو جهاد أعداء الله والاهتمام بالدنيا وطلبها وقد افتتنوا بها حتى تعاموا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كان تعظيمهم لمحبة الدنيا في قلوبهم تسبَّب للمسلمين هزيمة في غزوة أحد, فالذين لا يهتمُّون ولا يحزنون إلا لدنياهم فإنهم لا يرضون إلا عند تحصيلهم لدنياهم فحسب ولو كان هذا على حساب الدِّين.
أما الذين يهتمُّون ويحزنون للآخرة ولبلوغ نصر المسلمين وعزَّتهم فإنهم لا يرضون أبداً ولا يقر لهم قرار حتى ولو جعلوا كل أموال الدنيا في أيديهم حتى ينتصر المسلمون ويعتزُّوا بدينهم.
وفي حديث ثوبان عبرة للمتعتبرين «يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ»
الراوي: ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم: 8183 | خلاصة حكم المحدث: صحيح...
ولأحد علماءنا السلف قصة عجيبة والتي هي عبرة للمعتبرين حيث إنه أمَّ قومة مدة طويلة أظن أنها أربعين سنة فلم يسهوا ولا مرة واحدة في صلاته فقيل له في ذلك فقال: إني لم أُدخل يوماً قط في المسجد وفي قلبي غير الله. أو كلمة نحوها.
فسبحان الله, ما أعظم هذا الإخلاص والإحسان!, فحقيقٌ من كانت صفته كذلك أن يوصله مقام الصدِّيقين الذين جعل الله درجتهم بعد درجة النَّبيِّين وقليلٌ ما هم.
فسبحان الله ولا إله إلا الله, فكم أضلت المادة وطلب ملذَّاتها كثيراً من المسلمين اليوم حتى استبدلوا بها دينهم في هذا الزمان, والعياذ بالله والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصدق رسول الله حيث قال: " بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ يُصبِحُ الرَّجُلُ فيها مؤمنًا ويُمسي كافرًا ويُصبِحُ كافرًا ويُمسي مؤمِنًا يبيعُ دِينَه بعرَضٍ مِن الدُّنيا
الراوي: أبو هريرة | المحدث: ابن حبان | المصدر: صحيح ابن حبان | الصفحة أو الرقم: 6704 | خلاصة حكم المحدث: أخرجه في صحيحه..."
يتبع