بسم الله ، و الحمد لله ، و الصلاة و السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم
و بعد
بيان دليل الإجماع في مشروعية ختان الإناث
تُعدّ قضية ختان الإناث من القضايا الدينية الإسلامية التي انعقد الإجماع الصريح على مشروعيتها ، و وقع التلبيس و التدليس فيها في عصرنا هذا ، و جرى إثارتها و تضخيمها و تشويهها ، كما جرى التشكيك في مشروعيتها ، و كثر الجدال و الكلام فيها ، في ديار الإسلام و في غير ديار الإسلام ؛ بسوء قصد من البعض ، و بسوء فهم من البعض الآخر .
و ما كان لهذه القضية أن تُثار أصلاً ؛ لمشروعية ذلك الختان في الإسلام ، و وجود المُبرِرّ و المُسَوّغ الشرعي لفعله ؛ متمثلاً بالنصوص الحديثية الصحيحة الثبوت ، و الإجماع على دلالتها على تلك المشروعية ، مثله في ذلك مثل ختان الذكور .
و هو موضوع هذه الدراسة .
و ما كان لي أن أكتب الآن في مثل تلك القضية البسيطة الأثر - في الوقت الذي تعاني فيه أمة الإسلام من قضايا كبيرة الخطر على وجودها و مصيرها ، مما نشهده الآن في كل مكان - إلاّ لكونها قضية دينية ، تتعلق بحكم مقرر من أحكام الدين ، لا يجوز السكوت على إنكاره ، أو التهاون على إبطاله ، و حظره و تجريمه !
و كذا لاعتباري الانشغال بمثلها من قضايا الأحكام الشرعية الثابتة نوعاً من أنواع الرباط على ثغرٍ من ثغور الإسلام ، و دفاعاً عن شرعه ، و بياناً لأحكامه .
و هناك أدلة دينية معتبرة في مشروعية ختان الإناث في الإسلام ؛ هي السُنة الصحيحة ، و الإجماع المبنيّ عليها . و سيأتي بيانه
و المشروعية : نسبة إلى المشروع ، و هو اسم مفعول من شرَع : أي : سَنّ ؛ ففي " المخصص " لابن سيده : شَرَعَ الدِّينَ : سنَّه .
و في " المحكم والمحيط الأعظم " – لابن سيده أيضاً - : شَرَعَ الدين يَشْرَعُه شَرْعا: سَنَّه. وفي التنزيل: (شَرَعَ لكم مِن الدّينِ ما وَصَّى به نُوحا) . اهـ
و أمرٌ مشروع : مسنون . سَنّه الشرع .
و في " الحدود الأنيقة و التعريفات الدقيقة " للإمام زكريا الأنصاري :
المشروع : ما أظهره الشرع . اهـ
و أقل أحوال المشروعية الجواز و الإباحة .
أولاً : دليل السُنة على مشروعية ختان الإناث
1 – حديث عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومَسّ الختانُ الختانَ ، فقد وجب الغسل " .
حديثٌ صحيحٌ أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه "
و هو في موجب الغسل عند جماع الزوجيْن ، و المراد : ختان الرجل و ختان المرأة ، و المقصود : موضعهما . أي موضع ختان الرجال و موضع ختان المرأة .
و يلزم من ذكر النبي صلى الله عليه و سلم و تصريحه بهذا الختان و ذاك – و عدم ورود إنكاره لأيّ منهما – إباحته لهما قطعاً و جزماً .
و هذا الحديث جاء مُفسّراً بقول النبي صلى الله عليه و سلم في رواية أخرى ؛ بلفظ : " إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل " .
أخرجه الترمذي و غيره .
2 – و عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " الفطرة خمس - أو خمس من الفطرة - : الختان ، والاستحداد ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وقص الشارب " . متفقٌ عليه
أخرجه الإمامان البخاري و مسلم في " صحيحيهما " ، و غيرهما .
و لفظ " الختان " هنا : عامٌ . فيدخل فيه ختان الذكور و ختان الإناث ؛ قال الإمام مالك رحمه الله - و هو من كبار أتباع التابعين ، و إمام دار الهجرة - : ( من الفطرة ختان الرجال و النساء ) .
ذكره الإمام ابن عبد البر في كتابه " التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأسانيد " .
هذا ، و قد انعقد الإجماع على مشروعية ختان الإناث ، و هو إجماعٌ مبنيّ على تلك الأحاديث و نحوها ، و عمل الإجماع هو رفع مرتبة الأدلة من الظنية إلى القطعية ، من حيث الثبوت و الدلالة .
ثانياًً : دليل الإجماع ، و انتفاء الخلاف
الإجماع هو ثالث أدلة الأحكام الشرعية بعد الكتاب و السُنة – كما هو مقرر عند علماء الأصول – و هو " عبارة عن اتفاق جملة أهل الحَل والعَقد من أمة محمد صلى الله عليه و سلم في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع " ؛ كما قال الآمدي ، و أهل الحَل و العَقد هم العلماء المجتهدون .
و إجماع المسلمين من المجتهدين حجة في الشرع ؛ كما قال الإمام الوزير ابن هبيرة الشيباني في كتنابه " اختلاف الأئمة العلماء " .
و ذلك لعصمة أمة الإسلام من الاجتماع على الضلالة ؛ لقول النبيّ صلى الله عليه و سلم : " إن الله أجاركم من ثلاث خلال : أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا ، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق ، وأن لا تجتمعوا على ضلالة " . رواه أبو داود في " سُننه " .
و قد أخرج الإمام الحاكم - في " المستدرك على الصحيحين " - عدة أحاديث ذكر أنها من حجة العلماء بأن الإجماع حجة ، و منها الحديث الذي رواه عن عبد الرزاق عن إبراهيم بن ميمون العدني - وكان يسمى قريش اليمن ، وكان من العابدين المجتهدين - قال : قلت لأبي جعفر : والله لقد حدثني ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : سمعت ابن عباس ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبدا ، ويد الله على الجماعة » . قال الحاكم : « فإبراهيم بن ميمون العدني هذا قد عدّله عبد الرزاق وأثنى عليه ، وعبد الرزاق إمام أهل اليمن ، وتعديله حجة » . اهـ
و حكى الحاكم إجماع أهل السنة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام : قاعدة عدم اجتماع الأمة على ضلالة أبداً .
و قد اجتمعت أمة الإسلام – مُمثّلةً بالمجتهدين من علمائها – على مشروعية و إباحة ختان الإناث .
وقع الاتفاق ، و انعقد الإجماع على مشروعية ختان الإناث ، و صرّح بذلك المتقدمون من العلماء الأعلام .
و العلماء المجتهدون الذين آلت إليهم الإمامة في الفقه و العلم بالأحكام الشرعية – عند أهل السُنة - : الأئمة الأربعة ، و هم : : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، رضي اللَّهِ عنهم .
أ - و في قضية الختان قال الإمام ابن هبيرة الشيباني : ( اتفقوا على أن الختان في حق الرجال ، والخفاض في حق الأنثى مشروع ) . اهـ
قاله في ( باب الختان ) من كتابه " اختلاف الأئمة العلماء " ، و قال : رأيت أن أجعل ما أذكره من إجماع مشيرا به إلى إجماع هؤلاء الأربعة ، وما أذكره من خلاف مشيرا به إلى الخلاف بينهم .
و اتفاقهم حجةٌ قاطعة ؛ كما قال ابن قدامة .
ب - و لم يُنقل خلافٌ في تلك المشروعية ، و هو ما صرّح به الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه " فتح الباري " – و هو غير كتاب الحافظ ابن حجر " - ؛ قال : ( وختان المرأة مشروع ، بغير خلاف ) . اهـ
و انتفاء الخلاف هو معنى و مقتضى الإجماع .
و الإمام ابن رجب نفى وجود ذلك الخلاف ، و هو إمام جليلٌ عالمٌ بما يقول ؛ فكان هذا إجماعاً - و هذا مُغايرٌ لِما لو قال مثلاً : لا أعلم فيه خلافاً ، الذي قد يُنازع في اعتباره إجماعاً ، و هو المقصود بقول الإمام ابن حنبل ( من ادعى الإجماع فهو كاذب ) - .
و انتفاء الخلاف في مشروعيته جزم به الإمام ابن حزم قبله في كتابه " مراتب الإجماع " ، حيث أدخل فيه إباحة ختان النساء ، و قال في مقدمته : وإنما ندخل في هذا الكتاب الإجماع التام الذي لا مخالف فيه البتة ، الذي يُعلم كما يُعلم أن الصبح في الأمن والخوف ركعتان ، وأن شهر رمضان هو الذي بين شوال وشعبان ، وأن الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه وحي من الله ، و أن في خمس من الإبل شاة ، و نحو ذلك . اهـ
جـ – و في كتاب " مراتب الإجماع " ؛ قال الإمام ابن حزم : ( واتفقوا أن من ختن ابنه فقد أصاب ، واتفقوا على اباحة الختان للنساء ) . اهـ
و مراده بالاتفاق : اتفاق جميع العلماء ؛ ذكره في مقدمته ، و قال : إنما نعني بقولنا : ( العلماء ) : مَن حُفِظ عنه الفتيا من الصحابة ، والتابعين ، وتابعيهم ، وعلماء الأمصار ، وأئمة أهل الحديث ، ومن تبعهم ، رضي الله عنهم أجمعين . اهـ
و اتفاقهم هذا على إباحة ختان النساء هو من الإجماع الذي سمّاه : " الإجماع اللازم " ؛ كما قال في مقدمة كتابه هذا .
و قال : وصفة الإجماع هو ما تيّقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الاسلام ، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك ؛ مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز واليمن ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام ، وأن بني أمية ملكوا دهرا طويلا ، ثم ملك بنو العباس ، وأنه كانت وقعة صفين والحرة ، وسائر ذلك مما يعلم بيقين وضرورة . انتهى
و لأجل هذا العلم بيقين و ضرورة بمواضع الإجماع قال ابن حزم بكفر مخالف الإجماع ، بشرط قيام الحجة عليه بأنه إجماع ، في واقعة من الوقائع . و ختان الإناث من هذا القبيل ، من حيث قيام الحجة .
د – و إضافةً إلى ما تقدم : فقد وقع التصريح بالإجماع على مشروعية ختان الإناث ، و ذلك فيي كتاب " البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار " للإمام أحمد بن يحيى بن المرتضى ؛ جاء فيه : ( والختان مشروع إجماعا للرجال والنساء ) . اهـ
* * *
و على كل ما تقدم : فمشروعية و إباحة ختان الإناث ثابتةٌ بالإجماع الصريح المتَيقّن ، الذي لا يتخالج فيه شك ، و لا يداخله ريب ، و لا خلاف فيه ألبَتّة بين أحدٍ من علماء الإسلام .
و بهذا قامت الحجة على كل منكرٍ لختان الإناث ، و يُخشى عليه من الدخول في عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : « من خالف جماعة المسلمين شبرا ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه » .
رواه الحاكم في " المستدرك على الصحيحين ، عن خالد بن وهبان ، عن أبي ذرٍ ، به ، و قال : « خالد بن وهبان لم يجرح في رواياته ، وهو تابعي معروف ، إلا أن الشيخين لم يخرجاه » . وقد روي هذا المتن ، عن عبد الله بن عمر بإسناد صحيح على شرطهما . أهـ
* * *
و مع هذا الإجماع الصريح على تلك المشروعية و الإباحة خرج صوت المفتي – د . علي جمعة – على ملإٍ من الناس ، و أمام ملايين المشاهدين ؛ ليقول بملء فيه : " ختان الإناث حرام . حرام . حرام " . !
و هو ما تناولته الصحف ؛ فنشرت صحيفة " المصري اليوم " – في عدد25/6/2007 م – خبراً بعنوان :
المفتي: "قلناها مرة واتنين وعشرة ختان الإناث حرام.. حرام ..حرام"
و جاء فيه :
«ممارسة هذه العادة في عصرنا الحالي حرام حرام».. بهذه الكلمات المباشرة أفتي الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية، بعدم شرعية ختان الإناث.
وقال المفتي في اتصال هاتفي مع برنامج «٩٠ دقيقة» علي قناة «المحور» أمس الأول: لقد عقدنا مؤتمرا موسعا ضم نخبة من الأطباء والفقهاء وانتهوا إلي أن هذه العادة «ممنوعة»، والكلمة الأخيرة يرادفها في الشريعة كلمة «حرام».
وأضاف المفتي أن هناك أوساطا ثقافية مختلفة، يجب أن نشرح لها لماذا الختان حرام، مشيراً إلي أن هناك وسطا ثقافيا مخالفا، وآخر رافضاً، وثالثاً، جاهلاً، وجميعهم يحتاج إلي شرح خاص، حتي يدرك أن ما نقوله ليس مخالفا للدين، ولا يتناقض مع ما ورد في الكتب، لأننا علماء ونعرف جيداً الموجود فيها.
وتابع جمعة: إن إيقاع الحياة أصبح سريعا، مما يصعب علينا إقناع كل شخص علي حدة، ولكن إذا أرادوا كلمة واضحة من مفتي مصر، فأنا أقول «إن ختان الإناث حرام» . انتهى كلامه
و إنّا لله ، و إنّا إليه راجعون ؛ كلمة علّمنا القرآن الكريم أن نقولها عند وقوع المصيبة في الدنيا ، و في الدين بالأولى
و لله الأمر من قبل ، و من بعد .
جو بناءً على ما ادعاه المفتي د . جمعة صدر قرار وزاري بحظر ختان الإناث في مصر ، و هو ما نشره الموقع العربي لهيئة الإذاعة البريطانية – يوم 28/6/2007م – بعنوان : منع ختان الإناث نهائيا في مصر ، و نُشر كذلك على الموقع الخاص بوزارة الصحة و السكان – المصرية .
و هذه الأقوال الشاذة ، و هذا القرار الوزاري مخالفان قطعاً للثابت من الإجماع الشرعي المنعقد ، و المبني على الأحاديث الصحيحة التي لا مطعن فيها ، و التي ذكرنا بعضاً منها آنفا ، و القول بتحريم ما أحلّه الله من ختان الإناث – بدلالة ما صَح من أحاديث رسوله صلى الله عليه و سلم ، و بدلالة الإجماع الصريح – هو معارضةٌ لله عزّ و جَلّ في أقواله ، و منازعةٌ له في أحكامه ؛ تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيرا .
* * *
و لا وجه – في الشرع – يبيح حظره ؛ بدعوى حق وليّ الأمر في تقييد المباح ، عند الحاجة – كما ادعى في بحثه المقدم إلى " مؤتمر العلماء العالمي نحو حظر انتهاك جسد المرأة " - و ذلك لأنه استدلال في غير موضعه ؛ لأن حكم ختان الإناث في الشرع ليس مقتصراً على مُجرّد الإباحة ، بل هو دائرٌ بين الوجوب و السُنيّة ، و ما في معناها ؛ فلا يدخل في القول بجواز التقييد للمباح ؛ لارتفاع حكم ذلك الختان في مرتبته عن مجرد المباح ؛ فلا يدخل الأعلى في موضع تقييد الأدنى . و هو ظاهر .
و الله تعالى أعلم
كتبه
د . أبو بكر بن عبد الستار آل خليل
غفر الله له و لوالديه