ضوابط الطّيب المحرَّم على المحرِم(2)
قاسم عبدالواحد
الحمد لله ربّ العالمين, والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, سيّدنا ونبيّنا محمد الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين. أمّا بعد:
فلقد قدّمنا في الحلقة الماضية الضّوابط التي وقع في اعتبارها – في الطّيب المحرَّم وغير المحرَّم على المحرِم - الاتفاق بين أهل العلم رحمهم الله تعالى, كما تكلّمنا بأن هناك ضوابط وقع في اعتبارها الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى؛ وقد ذكرنا الأوّل منها؛ وهو إيجاب الفدية في شمّ المحرم ما ينبته الآدميون للطيب, ولا يتخذ منه الطيب كالرياحين, والنرجس, والريحان الفارسي, وسائر الرياحين؛ وختمنا المسألة بأن القول بإيجاب الفدية في شم الرياحين هو الأقوى؛ لأنه مبني على الاحتياط, ولأنّ الأخذ به فيه خروج من الخلاف, كما بيّنا بأن ذلك مقيَّد بأن يكون هذا الشم مقصودا, وأن يكون للاستمتاع برائحة ذلك المشموم؛ بحيث لا تجب الفدية إذا كان الشمّ بقصد التعرف أو الاختبار؛ وذلك لأن مقصد التّرفه لا يحصل إلا بهذا القيد؛ إذ هو سبب التحريم في محظورات الإحرام.
وفي هذه الحلقة نتكلّم عن الضَّابط الثّاني الذي وقع في اعتباره خلاف بين أهل العلم؛ وهو تقييد شمّ أنواعٍ من الطّيب المتفق على تحريمه على المحرِم كالمسك والكافور والعنبر ونحوها بأن يكون قصدًا؛ بحيث لا يوجب شمّها الفدية إذا كان بغير قصدٍ.
نقول وبالله التَّوفيق: لا خلاف بين أهل العلم في سقوط الفدية عن المحرم الذي شمّ جميع أنواع الطيب المتفق على تحريمه على المحرِم كالمسك والكافور والعنبر ونحوها؛ إذا كان الشمّ بغير قصد[1].
قال ابن قدامة: فأما شمّه من غير قصد، كالجالس عند العطار لحاجته، وداخل السوق، أو داخل الكعبة للتبرك بها، ومن يشتري طيبا لنفسه وللتجارة ولا يمسه، فغير ممنوع منه؛ لأنه لا يمكن التحرز من هذا، فعفي عنه[2].
وقال العلامة ابن العثيمين: وهذه المسألة لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى:أن يشمه بلا قصد.
الحال الثانية:أن يقصد شمه، لكن لا للتلذذ به أو الترفه به، بل ليختبره، هل هو جيد أو رديء؟
الحال الثالثة:أن يقصد شمه للتلذذ به، فالقول بتحريم الثالثة وجيه، وهذه فيها خلاف. أما الأولى فلا تحرم، قولا واحدا، ومن ذلك ما يحصل للإنسان إذا كان يطوف فإنه يشم رائحة الطيب الذي في الكعبة، وقد رأينا بعض الناس يصبون الطيب صبا على جدار الكعبة، ومثل هذا لا بد أن يفوح له رائحة، ولكن لا يؤثر على المحرم[3].
واختلفوا في وجوب الفدية على من شمّها بقصد, ولهم في ذلك قولان مشهوران:
القول الأوّل: أنّ شم الطّيب موجب للفدية. وهو قول عند المالكيّة, والشّافعيّة في الأصحّ, والحنابلة في المذهب[4].
قال الإمام الماوردي: ما كان طيبا ويتخذ بعد يبسه طيبا، مثل الزعفران، والورس، والكافور، والعود، والورد، والياسمين، والنرجس، والخيري، والزنبق، والكاذي، فهذا كل طيب متى استعمله المحرم بشم، أو غيره فعليه الفدية[5].
وقال في موضع آخر: إذا أكل المحرم طيبا افتدى، إلا أن يكون عودا فلا يفتدي بأكله؛ لأنه لا يكون متطيبا به، إلا أن يتخير به وما سواه من الطيب يكون متطيبا به بملاقاة بشره, وكذلك لو استعاط الطيب، أو احتقن به، أو اقتصر على شمه افتدى[6].
وقال المرداوي: وإن جلس عند العطار، أو في موضع ليشم الطيب فشمه, مثل من قصد الكعبة حال تجميرها فعليه الفدية، وإلا فمتى قصد شم الطيب حرم عليه، وعليه الفدية إذا شم, وهذا المذهب نص عليه، وعليه الأصحاب[7].
الأدلّة:
الدّليل الأوّل:استدلوا بالأحاديث الواردة في تحريم استعمال الطيب للمحرِم, ومن هذه الأحاديث ما يلي:
الحديث الأوّل: أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سئل النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - ما يلبس المحرم؟ قال: «لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران...»[8].
الحديث الثَّاني: أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا وقصه بعيره ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا»[9].
وجه الدلالة من الحديثين: قالوا هاذان الحديثان يدلان على منع المحرم حيًّا وميتًا من استعمال الطيب؛ والاستمتاع به, والشّم نوع من الاستمتاع.
نوقش: بأن الوارد في الأحاديث الاستعمال, والشم ليس حراما، ولا شيء فيه؛ لأنه ليس استعمالا؛ إذ لا يؤثر في الثوب ولا البدن[10].
أجيب: بأن القصد شمه لا مباشرته، بدليل ما لو مس اليابس الذي لا يعلق بيده لم يكن عليه شيء، ولو رفعه بخرقة وشمه لوجبت عليه الفدية، ولو لم يباشره[11].
الدّليل الثَّاني:ما أخرجه البيهقي في الكبرى؛ أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه سئل عن الريحان أيشمه المحرم والطيب والدهن؟ فقال: لا[12].
وجه الدلالة: أن في الأثر إشارة واضحة إلى منع المحرم من شم الريحان والطيب؛ وذلك يدل على وجوب الفدية عليه.
نوقش:بأن في إيجاب الفدية من شم الريحان خلاف بين الصحابة رضوان الله عليه؛ وليس قول بعضهم بأولى من بعض.
الدليل الثّالث:أن القصد بالمنع ترك الترفه والتلذذ بالطيب كسائر المحظورات, والتلذذ بالطيب تارة يكون بالشم, وتارة يكون بالاستعمال بالبرة ثم شمه, فكان الاستعمال كالشم, بل الاستعمال يراد به الشم[13].
الدّليل الرّابع:أن المقصود من التطيب وجود رائحة الطيب، فإذا تعمد الشم فقد أتى بمقصود المحظور، بل اشتمامه للطيب أبلغ في الاستمتاع والترفه من حمل طيب لا يجد ريحه بأن يكون ميتا أو نائما، أو أخشم لا يشم البتة [14].
القول الثّاني في المسألة: أن شمّ الطّيب لا يوجب الفدية مطلقًا. وهذا مذهب الحنفيّة, والمالكيّة في الأظهر, والشّافعيّة في قول, والحنابلة في رواية[15].
في البدائع: ويكره للمحرم أن يشم الطيب والريحان, ولو شمه لا شيء عليه عندنا.
الأدلّة:
الدّليل الأوّل: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ من حديث عبد اللهبن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا وقصه بعيره ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا»[16].
وجه الدلالة: أن المقصود بالمنع ليس الشم, بل المس أو الوضع في الثوب والبدن؛ إذ لو كان المقصود الشمّ لما منع منه الميّت؛ إذ الميت بلا شك لا يشم[17].
أجيب بجوابين:
الجواب الأول: أن المقصود منه الترفه بالطيب, وهو يحصل للحي بالشم والمس والوضع في الثوب والبدن, ويحصل للميت بالوضع في الثوب والبدن.
الجواب الثاني: أن المقصود بالمنع إذا بعث الميت أنه سيكون على هيئة المحرم, وإلا فالميت لا يترفه بتغطية رأسه, ومع ذلك فهو ممنوع منها؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا, ومعلوم أنه عندما يبعث فهو يتمتع بجميع الحواس ومنها الشم[18].
الدّليل الثَّاني: أن شم الطيب لا يوجب الفدية قياسا على ما لو جلس , أو اجتاز سوق العطارين, إذ لا فدية عليه في الجلوس والاجتياز؛ فكذلك في الشم؛ بل لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, أنهم كان ينهون المحرم عن المرور أو الجلوس إليهم[19].
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: لو سلّمنا أن للمحرم أن يشم الطيب في الأماكن المذكورة, فإنه سيشمها من غيره, والشم من الغير ليس استمتاعا كاملا، ولا يسمى به متطيبا فافترقا[20].
الوجه الثاني: أن الشام لا يخلوا من أن يكون غير قاصد للشم, وهذا غير داخل في محل الخلاف, أو أن يكون قاصدا للشم؛ فإن كان قاصدا للشم فلا يخلوا من أن يريد بشمه التجربة ومعرفة الجودة دون الاستمتاع فهذا ينبغي أن لا يكون داخلا في محل الخلاف أيضا ويكون جائزا, أو أن يريد بشمه الاستمتاع بالطيب فهذا من موضع الخلاف, فلا يستدل بموضع الخلاف[21].
التَّرجيح:يظهر – والله تعالى أعلم – رجحان القول بإيجاب الفدية على المحرم الذي تعمّد شم الطيب؛ إذا قصد بذلك الاستمتاع, وأما إذا قصد بشمه التجربة والاختبار هل هو جيد أم رديء, فلا فدية عليه, وعلى هذا التفصيل العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى[22].
المراجع
[1] ينظر: المغني 3/299, النوازل في الحج للشلعان ص: 202.
[2] المغني 3/299.
[3] الشرح الممتع 7/139-140.
[4] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/59-60, شرح زروق على متن الرسالة 1/550, الحاوي الكبير 4/108, المغني 3/294, الكافي 1/491, الإنصاف 3/473.
[5] الحاوي الكبير 4/108.
[6] المصدر السابق 4/111.
[7] الإنصاف 3/473.
[8] صحيح البخاري 1/39 برقم 134 كتاب العلم/ باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله. صحيح مسلم 2/835 برقم 1177 كتاب الحج/ باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه.
[9] صحيح البخاري 2/76 برقم 1267 كتاب الجنائز/ باب: كيف يكفن المحرم؟. صحيح مسلم 2/866 برقم 1206 كتاب الحج/ باب ما يفعل بالمحرم إذا مات.
[10] الشرح الممتع 7/140.
[11] المغني 3/299.
[12] السنن الكبرى 5/92 برقم 9105.
[13] ينظر: الحاوي الكبير 4/111.
[14] ينظر: شرح العمدة 2/88.
[15] المبسوط 4/123, بدائع الصنائع 2/191, حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/59-60, شرح زروق على متن الرسالة 1/550, الحاوي الكبير 4/108, الإنصاف 3/473.
[16] سبق تخريجه.
[17] النوازل في الحج للشلعان ص: 205.
[18] المصدر السَّابق.
[19] ينظر: المبسوط 4/123, بدائع الصنائع 2/191, النوازل في الحج ص: 206.
[20] ينظر: الحاوي الكبير 4/111.
[21] ينظر: النوازل في الحج ص: 206.
[22] الشرح الممتع 7/139-140.