آفات الفهم الخاطئ.. "الجرأة على الفتوى"
د.عبد الله فرج الله
في غياب الفهم الشامل، وفي ظل الفهم الجزئي القاصر، يتسابق أنصاف العلماء، وحملة الألقاب والشهادات، على الفتوى والإفتاء، هذا يفتي وذاك يرد الفتوى، وثالث يؤيدها ويحشد لها الأنصار.. وهكذا، معركة لها بداية، وليس لها نهاية.. ويغيب عن ذهن القوم أن "الفتوى قول على الله".
فالفتوى التي كان بالأمس يتهرب منها العلماء خوفاً ووجلاً؛ لأنها قول على الله، وتوقيع باسم رب العالمين، نرى البعض اليوم يتزاحمون بجرأة نادرة على بابها، وقد كان سلف هذه الأمة، يوم كان الفهم تاجها، يتدافعون الفتيا، ويهربون منها، ليس جهلاً بالمسألة، بل إعظاماً وإجلالاً للأمر، ثم تقديراً وتقديماً لمن هو أدرى وأعلم.. يروي ابن أبي مليكة: "أدركت مائة وعشرين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم كانوا يتدافعون الفتيا، كل واحد منهم ودّ لو أن أخاه كفاه".
وكان الإمام الشعبي - رحمه الله - يقول: "لا أدري نصف العلم".. ولم يكتف بالقول فقط، بل ترجمة ذلك سلوكاً، فهذا الصلت بن بهرام - رحمه الله - يؤكد أنه "ما بلغ أحد مبلغ الشعبي أكثر منه يقول: لا أدري".. وكان الشعبي إذا جاءه شيء اتقاه، أي من أمر الفتوى، بل روي أنه "يكون منبسطاً، فإذا وقعت الفتوى انقبض".
لماذا؟؟!
إنهم أدركوا بفهم ووعي، قول معلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "أجرأ الناس على الفتيا أجرؤهم على النار".
تخويف، كي تبقى للفتيا مكانتها السامقة، ومهابتها في النفوس، كي لا تصبح مضغة سهلة تلوكها الألسنة، وهو أمر مهول عظيم، قد أفزع ابن مسعود رضي الله عنه، حين قال: "إن أحدكم ليفتي الفتوى لو سئل عنها عمر لجمع لها أهل بدر".
فماذا عساه يقول يرحمه الله.. لو أدرك زماناً كزماننا، الكل فيه حاز لقب (مفتي)؟؟!
إنها آفة قاتلة، هذه الآفة التي لا تفسح مجالاً ولو ضيقاً لـ "فوق كل ذي علم عليم" و لـ "من قال لا أدري فقد أفتى"، فغابت: (لا أدري) عن قاموس الكثيرين، حتى بات لا تعجزه مسألة، ولا تُسكته معضلة، فلا يحار في إجابة كل سائل عن مسألته، فحاله ولسانه قائل: نعم أدري، وقد كان من سبق من أهل العلم والفهم يقول: (لا أدري) أكثر من قوله: (أدري)!!
ويعلّق ابن الجوزي - رحمه الله - على هذه الظاهرة عند العلماء بقوله: "إذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف، فإن كثيراً من العلماء يأنفون من قول لا أدري، فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئلا يقال: جهلوا الجواب، وإن كانوا على غير يقين مما قالوا، وهذا نهاية الخذلان".
ويذكر عن مالك بن أنس - رحمه الله - أن رجلاً سأله عن مسألة فقال: لا أدري، فقال: سافرت البلدان إليك، فقال: ارجع إلى بلدك، وقل: سألت مالكاً، فقال: لا أدري.
ويقول الإمام العارف ابن عطاء الله السكندري – رحمه الله -: "من رأيته مجيباً عن كل ما سئل، ومعبراً عن كل ما شهد، وذاكراً ما علم، فاستدِلَّ بذلك على وجود جهله".
ومما أوصى به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
".. ولا يستحين أحد إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، ولا يستحين أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه". وقال أيضاً: "من ترك قول (لا أدري) أصيبت مقاتله".
والإمام الشعبي - رحمه الله - أمام عظمة المسؤولية لحاملي هذا العلم، يقول: "ليتني لم أكن علمت من ذا العلم شيئاً". وهنا يعلّق الإمام الذهبي رحمه الله على هذا بقوله: " لأنه حجة على العالم، فينبغي أن يعمل به، وينبه الجاهل، فيأمره وينهاه، ولأنه مظنة أن لا يخلص فيه، وأن يفتخر به، ويماري به؛ لينال رياسة، ودنيا فانية".
د.عبد الله فرج الله