احترام الفقهاء فريضة دينية
عبد الأحد أحمدي





احترام الفقهاء فريضة دينية



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمال من يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة الله للعالمين القائل العلماء ورثة الأنبياء، وبعد:



فلا يخفى ما للفقهاء والعلماء من مكانة عظيمة في الشريعة الإسلامية وفضائل جمة، وفي هذا المقال نقوم بإلقاء الضوء على مكانة العلماء ووجوب احترامهم حيث إن الله عز وجل امتن على هذه الأمة ببعثة محمد – صلى الله عليه وسلم – فكانت نعمة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم النعم على الأمة،وأجلها.



وإن من تمام هذه النعمة: توريث الله عز وجل العلماء علوم هذا النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – فكان العلماء هم ورثة القائمين في أمته بمهمة البلاغ، والتعليم والتوجيه، وبيان حدود الحلال والحرام.



وإذا كان العلماء ورثة علوم الأنبياء، فإنهم أيضا ورثوا قدرا لائقا بهم من الاعتبار، والمكانة في الشريعة، فكان واجباً على الأمة من بعد طاعتهم في طاعة الله، وموالاتهم، واحترامهم, والسعي إليهم, والأخذ عنهم.



يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر ويعرف لعالمنا حقه" (رواه الإمام أحمد في مسنده).



فمن حقهم على الأمة توقيرهم وتقديرهم واحترامهم.



قال طاووس بن كيسان (رحمه الله): "من السنة أن يوقر أربعة: العالم وذوو الشيبة، والسلطان, والوالد" (شرح السنة للبغوي 13/ 43).



وإجلال العالم لعلمه, وتقديره لما يحفظه من القرآن إجلال لله – عز وجل ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه, وإكرام ذي السلطان المقسط " (رواه أبو داود برقم 4843).



لقد كان سلف هذه الأمة يحترمون علماءهم احتراماً كبيراً ويتأدبون معهم, فلقد أخذ عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما – مع جلالته وعلو مرتبته بركاب زيد بن ثابت الأنصاري وقال: "هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا" (رواه الحاكم في المستدرك 4/ 433).



قال ابن عباس رضي الله عنه: "أقبلت على المسألة وتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قائلاً فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي حتى يخرج فإذا خرج قال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك؟ فأقول: بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك, قال فيقول: هلا بعثت إلي حتى آتيك، فأقول: أنا أحق أن آتيك" (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 76).



وقال الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – لخلف الأحمر: "لا أقعد إلا بين يديك أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه" (تذكرة السامع والمتكلم لابن جامعة ص 88).



ولما جاء الإمام مسلم بن الحجاج- رحمه الله – إلى الإمام البخاري وقبل بين عينيه, وقال: "دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين, وطبيب الحديث في علله" (البداية والنهاية لابن كثير 13 / 43).



ولقد كان من تمام احترام السلف لعلمائهم أنهم كانوا يهابونهم:



عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: "مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن حديث ما منعني منه إلا هيبته" (جامع بيان العلم وفضله ص 112).



ولقد أكثر أهل العلم من الكلام عن أسلوب التعامل مع العالم في مجلسه, وأسلوب الحديث معه مما هو مذكور بتوسع في كتب آداب العالم والمتعلم، ومن أجمع ما روي في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: "إن من حق العالم ألا تكثر عليه السؤال، ولا تعنته في الجواب, وأن لا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشين له سرا ولا تغتابن عنده أحداً، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله مادام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته" (جامع بيان العلم وفضله ص 117).



وقال: "من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة، وعلى القوم عامة, وتجلس قدامه، ولا تشر بيديك, ولا تغمز بعينيك، ولا تقل قال فلان خلاف قولك ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه في السؤال فإنه بمنزلة النخلة المرطبة لا يزال يسقط عليك منها شيء"



فمن هذا يتبين أن العلماء هم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا هو الأصل, فإن من الواجب التماس العذر وإحسان الظن بهم، إذ من الواجب على المؤمن أن يظن بأهل الإيمان والخير والدين والصلاح الخير، حينما يسمع عنهم تهمة من التهم يقول الله عز وجل في قصة الإفك: }لولا إذ سمعتموه ظن مؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إ فك مبين{ (النور 12).



فإحسان الظن والتماس العذر للمؤمنين خلق نبيل يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءا، وأنت تجد لها في الخير محملاً" (تفسر القرآن العظيم 2 / 1166).



وقال محمد بن سيرين – رحمه الله -: "إذا بلغك عن أخيك شئ فالتمس له عذرا،فإن تجد فقل: لعل له عذرا".



وقال أبو قلابة – رحمه الله -: "إذا بلغك عن أخيك شئ تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد عذرا فقل في نفسك لعل لأخي عذرا لا أعلمه" (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني 2/ 95).



وهذا الكلام في العلاقات الأخوية فما بالك بعلاقة التلميذ مع شيخه، وعلاقات الأمة مع العلماء، إن الأمر حينذاك آكد.



يقول السبكيّ– رحمه الله -: "فإذا كان الرجل ثقة مشهود له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه، وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه، ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح وحسن الظن الواجب به وبأمثاله" (قاعدة الجرح والتعديل للسبكي ص 92).



إن من التماس العذر للعلماء التماسه لمن أجاب في فتنة خلق القرآن وما يشبهها خوفاً من النكال والعذاب بما يخالف الحق فأتى الرخصة – التي قد ثبتت في النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان – والعالم بشر يعرض له الخوف، فقد يقول تقية ما يطلب منه خشية الضرب والسجن فيفعل الرخصة مع ترك العزيمة التي هي أولى في حق العالم الذي ينبغي منه الصبر على الأذى في الله عز وجل حتى لا يفتتن الناس بفعله وقوله.



وإن للعلماء ميزات تميزهم عن غيرهم من الناس رأسها العلم الذي تحويه صدورهم, والفقه الذي تميزوا به، وبهذا يعرفهم الناس فيشهدوا لهم بالعلم والفضل والمؤمنون شهداء الله في أرضه.



إن العلماء يتميزون عن غيرهم من الناس وخصوصاً من يظن الجهلة أنهم من العلماء وليسوا كذلك من مثل: القراء و(المفكرين) والمثقفين والوعاظ والخطباء.



إذ معرفة العالم عائدة إلى معنى غير المعاني المتوافرة في هؤلاء الأصناف وإن كانوا في جملتهم أهل فضل ولكن لكل فن رجاله.



إن للعلماء اعتباراً في الشرعية ومنزلة في الدين لم ينلها غيرهم من الناس.



يتعلق بهذا الأمر عدة ملاحظ:



· أن اعتبار العلماء لا يعني تقديس ذواتهم إذ طاعتهم تبع لطاعة الله عز وجل وإنما هم أدلاء على حكم الله.



· أن اعتبار العلماء اعتبار كلي في جميع جوانب الحياة كما أن الشر ع شرع ينتظم جوانب الحياة كلها فهم يطاعون في أمور الاقتصاد والسياسة كما يطاعون في أمور العبادات.



· أن الاعتبار جاء عن طريق الشرع ولا يرفعه إلا الشرع فلا يزيل مكانة العالم أمر دنيوي من مثل حسد قرنائه له أو عزله أو عدم رضا أحد من الناس برأيه.



· أن هذا الاعتبار يقوي كلما كان القول مجمعاً عليه أو قال به طائفة كبيرة من المعتبرين في الأمة.



· أن واجب الناس موالاة العلماء ومحبتهم، فهم أحق الناس بالموالاة والمحبة في الله عز وجل، وتلك المحبة عنوان رشد المرء وسلامة معتقده ومنهجه.



· أن توقير العلماء واحترامهم سنة ماضية حض عليها النبي – صلى الله عليه وسلم – ودرج عليها سلف الأمة.



· أن طريق صنع العلماء هو الأخذ عن العلماء ,والأدلة متضافرة على الأمر بأخذ عن العلماء والسعي إليهم والشأن أن الناس هم الذين يسعون إلى العلماء لا العكس.



· أن العلم درجات والعلماء مراتب يتفاوتون بعدة اعتبارات عدة، مثل: السن, والتخصص، وعلى الناس أن يراعوا للعلماء مراتبهم.



· أن القدح في العلماء والطعن فيهم سبيل من سبل أهل الزيغ والضلال، ذلك أن الطعن فيهم طعن في الدين ذاته إذ هم حملته العالمون به.



· أن العلماء بشر يخطئون ولكن اتهامهم بالخطأ يعرض فيه مزلقان خطيران: أن يكون اتهامهم بالخطأ غير صحيح، أو أن يحكم على العالم بالخطأ غير العالم، والجاهل لا يعرف خطأ نفسه فضلاً عن أن يعرف خطأ غيره، فضلاً عن أن يحكم على العالم بالخطأ.



· أن العلماء هم خير الأمة, ومن الواجب التماس العذر لهم وإحسان الظن بهم, فهذا حق لجميع المؤمنين، والعلماء أولى الناس به.



· أن وقوع الفتن كثير في هذه الأمة، ومن شأن الفتن أن تشتبه الأمور فيها ويكثر الخلط وتزيغ الإفهام والعقول، والعصمة حينذاك إنما هي للجماعة والتي يمثل العلماء رأسها فالواجب على الناس الأخذ بآرائهم والصدور عن أقوالهم في كل حين،وفي حين الفتن على وجه الخصوص.



· أن الناظر في تراجم العلماء وسيرهم لا يكاد يجد أحدا ً برز ولم يختلف فيه، فما أن يبرز شخص في هذه الأمة إلا ويتكلم فيه، مابين معظم مصوب، ومحقر مخطئ.



والموقف الرشيد من ذلك: التثبت الذي أمر الله عز وجل في قوله: }يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا{ ( الحجرات: 6).



· إن من المتقرر في العقل أن العلماء غير معصومون من الخطأ ولكن المظنون فيمن عرف في الأمة بالعلم وشهد له بالفضل أن خطأه قليل بالنسبة لصوابه، وإذا كان الأمر كذلك فإن الاعتبار في الحكم إنما يعود إلى كثرة الفضائل, وهذا القاعدة قاعدة سنية سلفية،وليست بدعية خلفية.



· أن الموقف السليم من زلات العلماء وأخطائهم ينبني على أمرين: عدم اعتماد تلك الزلة لمجيئها على خلاف الشرع, والعدل في الحكم على صاحبها فلا يشنع عليه من أجلها ولا ترد أقواله بسببها.



· أن العلماء من أئمة المسلمين، ومن حقهم إن أخطأوا أن ينصحوا ولكن بالأسلوب اللائق بمقامهم المؤدي إلى الغرض.



· أن أقوال العلماء في الجرح والتعديل أقوال اجتهادية يعرض للعلماء فيها الخطأ، بل قد يكون مبنى كلام بعضهم في بعض العصبية والهوى والحسد، وبناء على ذلك فإن كلام العلماء الأقران في بعض يطوى ولا يروى.



· أن مما يدخل في العدل المأمور به في الشرع العدل في الحكم على المجتهدين



ويمكن إجمال ما قبل في هذا في نقاط:



· المجتهد مأجور غير مأزور حتى وإن أخطأ.



· الاختلاف بين العلماء أمر مقدور لا يمكن تجاوزه والمنهي عنه إنما هو البغي بسبب ذلك الاختلاف.



· إن اختلاف المجتهدين ليس اعتباطياً بل له أسباب معتبرة أفرد لها العلماء مؤلفات خاصة.



· أن الأصل الذي يرد إليه الخلاف هو الكتاب والسنة.



· أنه ليس أحد إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.



· أن ترك الاعتراض على العلماء المعروفين في الأمة بالعلم والأمانة والعدل أمر محمود، إذ على طالب العلم أن يتهم رأيه عند رأي الأجلة من العلماء، ولا يبادر إلى الاعتراض قبل التوثق.



· أن أكثر الناس استحقاقا للثقة هم العلماء فعلى المسلم أن يضع ثقته في أهل العلم.



اللهم احفظ فقهاء هذه الأمة وأهدهم سبل السلام، ووفقهم لخدمة دينك وسنة نبيك، وفقهنا في الدين وعلمنا التأويل.



عبد الأحد أحمدي



باحث في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة بالرياض.







المصادر:



- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن ناصر السعدي.



- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.



- حلية طالب العلم للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد.



- رفع الملام عن أئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية.



- الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.



- قواعد في التعامل مع العلماء للشيخ عبد الرحمن اللويحق.