شخصية المرأة في القرآن
(امرأة عمران)
يقدم لنا القرآن الكريم (امرأة عمران) امرأة حرمت من نعمة الأمومة مدة طويلة، ثم بعد أن منّ الله عليها بهذه النعمة - التي لا يدرك قدرها وقيمة الشوق إليها إلا من حرم منها - تقابلها بمزيد من الشكر، فتقوم بنذر ما كانت تتمناه وتهفو نفسها إلى نيله برده إلى من وهبها هذه النعمة، فتجعله نذرًا لله ليكون واحدًا من سدنة بيت المقدس.
وبينما كانت تعيش في غمرة تلك الفرحة، وباحة هذا السرور الذي انتابها بمجرد شعورها بحركة الجنين في بطنها، يموت زوجها (عمران)، ذلكم الرجل الصالح كبير سدنة بيت المقدس، وواحد من أهم أحبار اليهود في زمانه، والذي اصطفاه ربه مع آل بيته مع جملة المصطفين من أنبيائه ورسله، ولكن هذه المرأة الصالحة كما قابلت النعمة بالشكر قابلت ابتلاء الله لها بالصبر، فنهضت - وهي في ثقة تامة من رعاية الله لها - بدورها المنوط بها، يحدوها أمل في أن تجد العوض في المولود عن الزوج المفقود، ولكن الأقدار سارت بها على عكس ما ترغب وتشتهي - لحكمة يريدها الله - فيأتي المولود (أنثى) والأنثى لا تصلح للوفاء بنذرها؛ لأن خدمة بيت المقدس حتى ذلك الوقت كانت مقصورة على الذكور دون الإناث، ولأن تلك المرأة الصالحة تعرف أن طَرق أبواب السماء بالدعاء هو أقصر الطُرق وأيسرها للخلاص من الهموم والكروب، ترفع يد الضراعة والمناجاة إلى ربها تعلن أسفها، وحسرتها، وحزنها على أنها لم تستطع أن تحقق نذرها.
ولما فات مولودتها - بأنوثتها - أن تكون في خدمة البيت، فقد تمنت أن تكون طائعة عابدة فسمتها (مريم).
و(مريم) في لغتهم بمعنى العابدة، ثم عرضت هذه التسمية على علام الغيوب، عله يحقق لها في هذه المولودة ما قصدته من تسميتها، فيتفق الاسم مع المسمى.
ولأن هذه المرأة الصالحة التقية كانت تمتلك عقلية إيمانية حاضرة وتحمل المنهج التعبدي كله، واصلت ضراعتها لربها، راجية أن يعيذ وليدتها، ويحفظها مع ذريتها من الشيطان الرجيم، وذلك لأنها تدرك أن المعاصي كلها تأتي من نزغ الشيطان.
ويستجيب الله دعاء هذه الأم الصالحة التقية الورعة فيتقبل مولودتها بالقبول والإنبات الحسن.
هذا مجمل لملامح شخصية (امرأة عمران) أم مريم -عليها السلام- كما حددها القرآن الكريم.
ولنذهب إلى النص القرآني لنتبين في ضوئه هذه الملامح:
بدأ القرآن حديثه عن تلك الشخصية بالثناء عليها ثناء عاما في إطار الثناء على (آل عمران) الذين اصطفاهم الله تعالى واختارهم لنفسه مع أنبيائه ورسله فقال تعالى:
(إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 33)
وآل عمران - كما يحددهم المفسرون - هم: (عمران) وزوجته (حنة) أم مريم وأختها زوجة زكريا، وزكريا كافل مريم، ومريم عليها السلام.
ومن ثناء الله العام على (امرأة عمران)، والذي جاء في سياق الثناء على آل عمران اختصاص آل عمران بسورة باسمهم في القرآن الكريم يثني فيها عليهم، وعلى مناقبهم، ويشير إلى الأحداث التي مرت بهم، وهذا الثناء على (امرأة عمران) في جملة آل عمران يحدد لنا أول ملمح من ملامح شخصيتها، وهو صلاحها، وتقواها، ورفيع منزلتها عند ربها.
ثم بعد ذلك يبدأ القرآن الكريم في تخصيص الحديث عن شخصيتها فيقول:
(إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)
(آل عمران: 33)
فهذه المرأة التي حرمت من نعمة الولد مدة طويلة، وعانت بسبب ذلك - شأن أي امرأة تحرم من هذه النعمة الكثير من الآلام النفسية - لم يشغلها الفرح بالنعمة عن شكر المنعم، فما كادت تشعر بتفضل ربها عليها بعطائه حتى قامت بالتقرب بهذا العطاء العزيز عليها إلى المعطي حيث جعلته نذراً مقصوراً على بيت المقدس؛ ليتسنى له السير على درب أبيه في الصلاح والتقوى، فهم ذرية بعضها من بعض، فتقول مناجية ربها:
(إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران: 35)
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران: 36)
وسياق الآيات يشير إلى أن امرأة عمران ما كادت تكتمل لها فرحتها بشعورها بالحمل حتى مات زوجها (عمران) فتصبر على مصيبة التثكل كما صبرت قبل ذلك على مصيبة الحرمان من الأمومة، والذي يشير إلى ذلك من خلال سياق الآيات، أنها هي التي (نذرت)، وأنها هي التي قامت (بتسمية مولودها)، فلو كان عمران موجوداً لكان هو الأحق بفعل ذلك؛ لأنه من أهم واجباته، ولكن القرآن الكريم طوى الحديث عن وفاته لأن هذا لا يفيد كثيراً في المغزى، كما أنه يمكن استنتاجه بيسر وسهولة من خلال السياق.
وأم مريم - في ضراعتها لربها شأنها شأن المقربين من الأنبياء والرسل والصالحين - تستحضر الألفاظ والأساليب التي تستطيع من خلالها أن تستمطر سحائب الرحمة، وتحرك سلسلة الإجابة؛ فهي تصدر مناجاتها بقولها: (أعيذها)، ولا يخفى ما في هذا اللفظ من دلالة على استشعار المتضرع إلى شدة عوذه وافتقاره إلى رب يتكفل به ويرعاه في كل أحواله، ولا يضن عليه برحمته وعفوه وجوده.
ثم تأمل دلالة التوكيد في الجملة:
(رب إني نذرت لك ) فهو يدل على حرصها الشديد، ورغبتها الأكيدة على الوفاء بالنذر، وأنه لن يحول بينها وبين ذلك أي حائل حتى ولو كان حبها الشديد لهذا المولود الذي انتظرته طويلاً وصارت حاجتها إليه بعد وفاة زوجها أشد وآكد.
وجاء تقديم الجار والمجرور (لك) ليزيد من تأكيد هذا المعنى؛ فقد قصدت من هذا التقديم أن تقول: إن هذا المولود لن يكون لأحد سواك حتى لي وأنا أمه؛ لتدل بذلك على أن حبها لربها قد ارتقى على حبها لفلذة كبدها.
وامرأة عمران - بنذرها لما في بطنها لربها محرراً من كل شيء إلا الطاعة لله سبحانه وتعالى - كانت قبل ذلك قد حررت نفسها من كل الأهواء، والنزعات، والعواطف إلا الإخلاص لله، وعلى رأس هذه العواطف التي تحررت منها عاطفة الأمومة، وهي - كما هو معلوم - من أقوى العواطف في المرأة، وبخاصة إذا كانت هذه المرأة قد حرمت من هذه العاطفة طويلا - كما كان حال امرأة عمران - وزاد من تأجج هذه العاطفة ووهجها عندها مصيبة الموت التي ألمت بزوجها، ولم يعد لها أنيس في هذه الحياة، فصارت حاجتها إلى المولود القادم أشد، وعلى الرغم من كل ذلك فإنها تتسامى بنفسها فوق كل هذه العواطف في سبيل إرضاء ربها، فتقدم - باختيارها - على جعل هذا المولود نذراً محرراً لربها، وكان يمكنها أن تجد وسيلة أخرى تتقرب بها إلى ربها غير هذا الشيء العزيز الذي انتظرته طويلاً، والظروف التي تحيط بها جعلتها أشد حاجة إليه، ولكن ورعها وتقواها جعلها لا ترى عاطفة أقوى من عاطفة الحب الإلهي حتى ولو كانت عاطفة الأمومة وهي في موقفها هذا تسير على درب أم موسى، ودرب إبراهيم عليه السلام.
وهكذا تتلاقى المرأة مع الرجل في ميدان من أعظم ميادين التضحية من أجل نيل رضا الله سبحانه وتعالى والقرب منه.
وتواصل امرأة عمران - من خلال ما جاء في القرآن الكريم على لسانها - الكشف عن ملامح شخصيتها وذلك في قولها:
(فتقبل مني) فامرأة عمران الصالحة التقية لا تكتفي بتقديم النذر ولكنها - شأن أهل القرن، وأصحاب القلوب الوجلة الذين كلما ازدادوا قربا من ربهم وتذوقوا حلاوة الطاعة ازداد خوفهم من أن يتدخل في عملهم ما يحبطه ويرده عليهم - تتضرع إلى ربها راجية إياه أن يقبل منها نذرها، وتأكيدها الجملة للإيذان بوفور الرغبة في مضمونها، وتقديم الجار والمجرور (لك) لكمال الاعتناء به.
ومبالغة منها في هذه الضراعة، ولبيان انقطاع حبل رجائها عما سواه قالت:
(إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي: أنت السميع لسائر المسموعات فتسمع دعائي، العليم بما كان ويكون فتعلم نيتي، وهذا تعليل لاستدعاء القبول من حيث إن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلاً وإحساناً، وتأكيد الجملة لغرض قوة يقينها بمضمونها.
وتمر أيام الحمل وشهوره، وامرأة عمران تنتظر مولودها القادم في لهفة وشوق لتُرضي في نفسها عاطفة الأمومة، ولتوفي بنذرها وتحافظ من خلاله على تواصل ذرية (عمران).
ويأتي المولود ولكن على عكس ما كانت تأمل وتتمنى، فقد جاء أنثى، والأنثى لا تحقق كل هذه الأماني، وبخاصة وفاؤها بنذرها؛ لأن خدمة البيت حتى ذلك الوقت كانت حكراً على الرجال دون النساء، فتلجأ كعادتها في كل أحوالها لتطرق أبواب السماء بتلك المناجاة المصحوبة بالتحسر والأسى:
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران: 36)
ولكن تلك المرأة الصالحة التي خاب ظنها في مولودها، وأعلنت تأسفها وحسرتها على فوات الوفاء بنذرها من خلال تلك المناجاة تطمع - من خلال التسمية التي اختارتها لهذه المولودة وهي (مريم) التي تعني في لغتهم (العابدة)- أن يكون لها من اسمها نصيب، فتحيا في معية الله عابدة طائعة.
ولأنها تعلم أن الشيطان أول ما يعترض العبودية؛ إذ هو الذي يجعل الإنسان يتمرد عليها، أرادت (امرأة عمران) أن تحمي ابنتها وذريتها من نزغ الشيطان الرجيم، فقالت:
( وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
وبالنظرة المدققة في ألفاظ وأساليب الآية يتضح لنا توكيدها على أهم ملمح في شخصية (أم مريم) وهو صلاحها، وورعها، وتقواها، مع ما تشير إليه من ملامح أخرى، فهي كما اتجهت إلى ربها تشكره بمجرد استشعارها لحركة الجنين في بطنها بتقديمه نذراً لله، فإنها - هنا أيضاً - لما خاب رجاؤها في هذا المولود الذي كانت تأمل أن يكون ذكراً اتجهت إلى ربها تبثه أسفها وحسرتها على فوات مقصودها من وليدها، فهي في معية الله قريبة منه في كل أحوالها.
ثم إنها - وهي تعرض اسم ابنتها على الله الذي هو علام الغيوب - كانت تقصد التقرب إلى الله تعالى، وإظهار حبها لعبادته الذي يشعر به تسميتها لابنتها بالعابدة كما قصدت - أيضاً - أن تستدعي العصمة لابنتها من ربها، أي: كأنها كانت تقول: رب إني سميتها العابدة وأنت عليك أن تحقق لها مرادي من هذه التسمية ليتوافق الاسم مع المسمى، ولحرصها على أن تظل هذه المولودة باستمرار هي وذريتها في رعاية الله وحفظه، جاءت بخبر (إن) في قولها: ( أعيذها ) مضارعاً.
وإذا كان سياق الآيات يدل على أن (امرأة عمران) كانت الغاية الأولى من رغبتها في أن يكون المولود ذكراً وفاءها بنذرها الذي لا يصلح له إلا الذكور، فإن السياق لا يمنع أن يكون بجوار هذه الرغبة - أيضاً - الرغبة الفطرية في أي أم في أن يكون مولودها - وبخاصة الأول - ذكراً؛ لأن المرأة بطبيعتها الضعيفة تكون أكثر ميلاً إلى الولد الذكر منه إلى الأنثى لتعوض من خلاله ذلك الضعف الذي تشعر به، فالذكر رمز القوة والمسئولية والحماية، وإذا كان ضعف المرأة بصفة عامة يجعلها أكثر ميلاً إلى الولد الذكر منه إلى الأنثى فإن (امرأة عمران) قد اجتمع عليها ضعف آخر، وهو فقد الزوج والعائل، مما يجعل حاجتها إلى المولود الذكر أشد من حاجة غيرها؛ ولذلك فإنها حينما شعرت بالحمل انصرف ذهنها بناء على هذه الرغبة الكامنة فيها إلى هذه الطاعة - طاعة النذر - التي لا تتحقق إلا بمولود ذكر، ويؤيد ذلك ما نراه من محاولة تأكيدها لنفسها على أن المولد أنثى من خلال تلك المناجاة الداخلية:
(قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ)، فهذه المناجاة الداخلية تكشف عن حرصها الشديد على أن يكون المولود ذكراً، ومن دوافعها على هذا الحرص طبيعة المرأة الراغبة في ذلك.
ويستجيب الله لضراعة وابتهالات تلك المرأة الصالحة الصابرة التقية ويتقبل منها مولودتها بأفضل القبول وينبتها أحسن الإنبات.. وهنا ينتهي حديث القرآن عن شخصية (امرأة عمران) ليبدأ الحديث عن شخصية ابنتها (مريم) عليها السلام.
منقول بتصرف مع زيادات