التعليم والحكمة (1)

العلم والحكمة أخوان لا يختلفان، لكن معارف الناس وطباعهم وأهواءهم تختلف، فيؤدّي ذلك إلى اختلاف التعليم والحكمة.

مثال ذلك: أنّ النّصوص الشرعية منها ما يورث سعة الرَّجاء في رحمة الله تعالى ومغفرته، ومنها ما يورث شدة الخوف منه عزَّ وجلَّ وخشيته، ولا ريب أنَّها كلها حقّ. وأن معرفة الأمر على حقيقته هو حقيقة العلم، وأن الإنسان لو أحاط بذلك وأعطى كلًّا من الجانبين حقّه لكان قائمًا بين الرَّجاء والخوف، وذلك هو مقتضى الحكمة.

لكن الإنسان قد يعلم شيئًا مما يورث الرَّجاء، ويجهل ما يقابله أو يغفل عنه، ويكون طبعه وهواه الميل إلى الرَّجاء، فيميل إليه حتى يتعدّى الحد، فيُخشى عليه أن يقع في الأمن من مكر الله عزَّ وجلَّ. وقد يعلم شيئًا مما يورث الخوف والخشية، ويجهل ما يقابله أو يغفل عنه، ويكون طبعه يميل إلى ضعف الرَّجاء، فيميل إليه حتى يتعدّى الحدّ، فيُخشى عليه أن يقع في اليأس والقنوط من رحمة الله عزَّ وجلَّ.

وكلا الأمرين - أعني الأمن من مكر الله عزَّ وجلَّ، واليأس من رحمته -
مهلكٌ. وقد يؤديان إلى نتيجة واحدة، وهي الاسترسال في الفجور.
أما الأمن فواضح. وأما اليأس، فيقول اليائس: أما الآخرة فلا حظّ لي فيها إلاَّ النّار، فلماذا أجمع على نفسي مع ذلك تعذيبها في الدنيا بتحمُّل مشاقَّ الطاعات واتقاء الشهوات؟

فإن لم يؤديا إلى هذا، فلا بدّ أن يؤديا إلى الجهل بالله عزَّ وجلَّ. أما الأمن فجهلٌ بحكم الله عزَّ وجلَّ وعدله، وأما اليأس فجهلٌ برحمة الله عزَّ وجلَّ وفضله.

فإذا عمد العالِم إلى أُناس مائلين إلى ما يقرب من الأمن فتلا عليهم النصوص المورثة للرجاء، أو إلى أُناسٍ مائلين إلى ما يقرب من اليأس فتلا عليهم النصوص المورثة للخوف والخشية = فالنصوص حقّ ومعرفتُها عِلم، ولكن التعليم مخالف للحكمة كما لا يخفى, لأن من شأنه أن يزيد الأولين قربًا من الأمن من مكر الله عزَّ وجلَّ، ويزيد الآخرين قربًا من اليأس من رحمته.

فمن لم يُراعِ في التعليم إلا بيانَ العلم أوشك أن يقع في مثل هذا مما هو مخالف للحكمة، بل ولحقيقة العلم؛ فإن حقيقة العلم هنا إنما هي ما يُوقِف الإنسان بين الرَّجاء والخوف.
فمن هنا اقتضت الحكمة أن يُراعَى في التعليم حال المخاطبين، وبذلك نزل القرآن. فمن الآيات ما روعي فيها الجانبان كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50].

ومنه ما كان ينزل بحسب أحوال الناس، إذا مالوا إلى شدة الرَّجاء نزلت آية مخوّفة، وإذا مالوا إلى شدة الخوف نزلت آية مبشّرة.

وعلى حسب هذا كان تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجرى عليه حكماء العلماء.
فقد ورد حديث في أنّ امرأة دخلت النار في جزاء هرَّة (2)، وجاء حديث في أن بغيًّا من بغايا بني إسرائيل غُفِرَ لها في كلب سقته (3).
فكان الزهريّ إذا روى أحد هذين الحديثين روى الآخر معه (4).

وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام في محاربته لأهل الشام والخوارج يُظهِر مساوئهم، فلما سمع بعضَ أصحابه يظن كفرَهم نفى عنهم الكفر والنفاق، وقال: "إخواننا بغوا علينا" (5).
ولما خرجت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، كان علي وأصحابه يسكتون عن الثناء عليها، فلما خشي عمار - وكان من أصحاب

علي - أن يكون في ظاهر حاله أو كلامه ما يوهم انتقاص عائشة قال: "والله إنّا لنعلم أنها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها"، ومع هذا ضرَّتْه هذه الكلمة؛ فإن أهل البصرة أجابوا بقولهم: "فنحن مع الذي شهدتَ له بالجنة يا عمّار" (6).
وأمثلة هذه القاعدة لا تحصى، وسيأتي بعضها.
...
__________

(1) هذا المبحث كان في صدر رسالةٍ عزم الشيخ على تأليفها تعقُّبًا على الشيخ محمَّد حامد الفقي في بعض تعليقاته على رسائل لشيخ الإِسلام ابن تيمية، أثنى على الشيخ الفقي فيها لكنه بيَّن أنه لم يوفَّق في التعليق لا من جهة بيان ما في نفس الأمر، ولا من جهة الحكمة والنصيحة. ولكن لم نقف إلا على صدر هذه الرسالة، فأثبتنا منها هذا المبحث هنا لأهميته.
2) أخرجه البخاري (2365)، ومسلم (2242) من حديث ابن عمر. وأخرجه مسلم (2243) من حديث أبي هريرة أيضًا.
(3) أخرجه البخاري (3321) ومسلم (2245) من حديث أبي هريرة.
(4) الحديثان اللذان رواهما الزهري معًا هما حديث "دخلت امرأة النار في هرَّة" وحديث الرجل الذي أمر نبيه أن يحرقوه إذا مات ويذروه في الريح. ثم قال الزهري: "ذلك أن لا يتَّكل رجلٌ، ولا ييأس رجل". أخرجه أحمد (7647 - 7648) ومسلم (2756).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (38938) من قول علي في الخوارج بإسناد صحيح. وأخرجه (38759) من قوله في أهل الجمل بإسناد مُرسل.
(6) قول عمّار أخرجه البخاري (3772)، وأما إجابة أهل البصرة فأخرجه الطبري في "تاريخه" (3/ 27) بإسناد واه.