(حقوق مشتركة بين الزوجين)
الشيخ ندا أبو أحمد
تمهيد:
إن الحمد لله - تعالى - نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله - تعالى - من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71]. أمَّا بعدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. مقدمة:
قال - تعالى -: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]. قال ابن زيد - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "أي: تتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله - عز وجل - فيكم. ويقول القرطبي - رحمه الله - كما في "تفسيره" (3/ 123): "الآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية"؛ ا.هـ. وعلى هذا يتبين لنا جليًّا أن كلاًّ من الزوجين له حقوق، وعليه من الواجبات، فيجب على كليهما أن يؤدي ما عليه من الواجبات، ويؤدَّى ما له من حقوق، وهناك من الحقوق ما يختص بها الزوج، وهناك من الحقوق ما تختص بها الزوجة، وقد سبق ذكر هذه الحقوق، وينبغي أن يعلم أن هذه الحقوق أوجبها الشرع، فيجب الوفاء بها. إلا أن هناك حقوقًا مشتركة بين الزوجين، فليَسْعَ كل منهما إلى تحقيقها والالتزام بها؛ حتى يسعد في الدنيا والآخرة. ومن هذه الحقوق:
• ألا يُفشِي كل من الزوجين سر الآخر:
فيجب عليهما ألا يُفشِي كل منهما سر الآخر، وخصوصًا إذا كانت هذه الأسرار متعلقة بالفراش واللقاء بين الزوجين، وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من نشر هذه الأسرار وإذاعتها؛ فقد أخرج الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها -: "أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرجال والنساء قعود، فقال: لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها! فأرمَّ القوم[1]، فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهن ليفعلن، وإنهم ليفعلون، قال: ((فلا تفعلوا؛ فإنما ذلك مثلُ الشيطان لقي شيطانة في طريق، فغَشِيها والناس ينظرون)). وعند مسلم: ((إن من أعظم الخيانة: أن يُفضِي الرجل إلى امرأته[2]، وتُفضِي إليه، ثم يُفشي سرها)). وفي رواية أخرى عند مسلم، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أشر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرجل يُفضِي إلى امرأته، وتُفضِي إليه، ثم ينشر سرها)). وقد أضاف الحديث الشر إلى الرجل وحده؛ لأنه أجرأ في الكشف عن مثله، وليس معنى ذلك أن ذِكر الإفضاء حرام على الرجل، مباح للمرأة، فالتحريم يشملهما معًا. فالحاصل: أنه ما ينبغي لأحد الزوجين أن ينشر أسرار الفراش؛ لأن هذا من الخيانة، وهذا يؤدي بدوره إلى الشقاق وعدم الوفاق، وتكون النفرة مكان الأُلفة، والوحشة موضع الأنس، ولقُبح هذا الفعل وضرره، جاء الشرع الشريف بتحريمه، وذم مَن يفعله. • أما بالنسبة للأسرار الزوجية الأخرى:
فلا ينبغي للزوج أن يفشي سر زوجته، بأن يذكر عيوبها من خُلق أو خِلقة، أو أن يعيب طعامها، وشرابها، ونومها، وغير ذلك من الأمور التي تكون عيبًا في المرأة، فلا يحق للزوج أن يفشي مثل هذه الأسرار بين الناس حتى أهله وأهلها؛ لأن الزوج مطالب بأن يكون أمينًا وسترًا على زوجته، وهو مطالب برعايتها، وحفظ حيائها وكرامتها، وإفشاء سرها يعد خدشًا في حيائها وكرامتها. قيل لبعض الصالحين - وقد أراد طلاق زوجته -:
ما الذي يريبك منها؟ فقال: العاقل لا يهتك سرًّا، فلما طلقها قيل له: لما طلَّقتها؟ فقال: مالي ولامرأة غيري. • وكذلك بالنسبة للزوجة، فلا تعكِّر عليها حياتها الزوجية بنشر أسرار زوجها من جهة المعاملات المادية أو فراش الزوجية، وغير ذلك من الأمور - التي لو علمها الزوج، لتنغصَّت عليهما الحياة والبقاء معًا - والمرأة إذا وقع بينها وبين زوجها خصام، وذهبت إلى أهلها شاكية، فإنها تفشي جميع ما تعرفه من الأسرار، وتتحدث بعيوب الزوج الخفية، والتي لا يعرفها أحد غيرها، وتذكر خصوصيات الزوج، وهذا ذنب كبيرٌ، وإثم عظيم، وخيانة للأمانة، وإن كان حفظ الغيب واجبًا على كلا الزوجين، إلا إنه آكد وأقوى في حق المرأة؛ لأن الخطر في تساهلها عظيم، يهدد بأفظع النتائج الدينية والدنيوية، ويدمر الأسرة، فالمرأة الصالحة حافظة لزوجها في غيابه: من عِرض، فلا تزني، ومن سرٍّ، فلا تُفشِي، ومن سمعة، فلا تجعلها مُضغة في الأفواه. ولقد مدح الله الصالحات، والتي من أوصافهن أنهن يحفظْنَ السر، فقال - تعالى -: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34]. الخلاصة:
أنه ينبغي على الزوجين أن يحفظ سر صاحبه، فهذا من شِيَم الأحرار.
وقديمًا قالوا: "صدور الأحرار قبور الأسرار". • تبادل الحب بين الزوجين:
وهو أساس نجاح واستقرار الحياة الزوجية، وقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يحب أزواجه، وكانت أحبهنَّ إليه عائشة، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته، فقلت: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: ((عائشة))، فقلت: من الرجال؟ فقال: ((أبوها))، قلت: ثم من؟ قال: ((عمر)). وكان يقول لها - كما عند البخاري ومسلم في الحديث الطويل -: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرعٍ)). بل انظر إلى حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول - عندما سُئِلت عن الحناء -: "فقالت: أنها تكره ريحه؛ لأن حبيبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره ريحها". وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرف غضبك من رضاك))، قالت: وكيف تعرفه؟ قال: ((إذا رضيت، قلت: لا وإله محمد، وإذا غضبت، قلت: لا وإله إبراهيم))، قالت: صدَقت إنما أهجر اسمك". وهي تهجر اسمه فقط، لكن هو في قلبها، وإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل تزوَّج عباسة بنت المفضل - أم ولده صالح - وكان الإمام أحمد يثني عليها، ويقول في حقها: أقامت أم صالح معي عشرين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة"؛ "طبقات الحنابلة" (1/ 430). وقال القاضي شريح بن الحارث لتلميذه الشعبي:
"يا شعبي، لقد عشت معها - أي مع زوجته - عشرين سنة، ما اختلفت إلا مرةً واحدة كنت فيها مُخطئًا". المشاركة الوجدانية في الأفراح والأحزان:
إن المشاركة في الأفراح تجعلها مضاعفة، والمواساة في المصائب تَكسِر حِدتها، والمصيبة إذا عمَّت خفَّت، فها هي الخنساء - رضي الله عنها - تنعي أخاها صخرًا، وذلك قبل الإسلام، فتقول:
وَلَوْلا كَثرةُ الباكين حَوْلي
على إخوانهم لَقَتَلتُ نفْسي
وَما يَبكون مثلَ أخي وَلكِن
أُعَزِّي النَّفسَ عنهم بالتَّأَسِّي فالمشاركة الوجدانية دليل على صدق المحبة:
وانظر إلى عمر - رضي الله عنه -: عندما دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرآه يبكي هو وأبو بكر - رضي الله عنه - بعد قَبوله الفداء في أسرى بدر ونزول العتاب، فقال عمر - رضي الله عنه -: يا نبي الله! أخبِرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيتُ، وإلا تباكيت لبكائكما"؛ الحديث في مسلم. فحقيقة الأمر أن المشاركة العاطفية والوجدانية سر من أسرار السعادة الزوجية؛ ولذلك كان من وصية أُمَامة بنت الحارث لابنتها عندما حان زفافها على عمرو بن حجر، قالت لها: "فلا تعصين له أمرًا، ولا تُفشِين له سرًّا، فإنك إن خالفت أمره، أوغَرت صدره، وإن أفشيت سره، لم تأمني غدره، ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهتمًّا، والكآبة بين يديه إن كان فرِحًا". • أن يتزين كل من الزوجين للآخر:
وهذا الحق متبادل بين الزوجين، وإن كان في حق المرأة أكثر، ولكن على الرجل كذلك أن يتزيَّن لزوجته، فإن المرأة تحب من الرجل كما يحب هو منها. قال - تعالى -: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]. فإذا كان الرجل يحب أن يشم من امرأته الرائحة الجميلة، فلماذا يَزكم أنفها برائحة الدخان المنبعثة من فمه، أو رائحة العرق، أو الرائحة التي تنبعث من ملابس العمل. يقول يحيى بن عبدالرحمن الحنظلي:
"أتيت محمد بن الحنفية، فخرج إلي في ملحفة حمراء، ولحيته تقطر من الغالية[3]، فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي، ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتهي منهن"؛ ا.هـ. وقد أخرج الطبري في "تفسيره"، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة، كما أحب أن تتزين لي؛ لأن الله - تعالى - يقول: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]". • ومن الزينة بالنسبة للرجل:
ترجيل الشعر، والطيب، والسواك، والاكتحال، وتغيير الشيب بالصفرة أو بالحُمرة، ولُبس الثياب الحسنة، وفي الحديث الطويل الذي أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - وهي تحكي قصة النسوة اللاتي جلسْنَ وتعاقَدْنَ على ألا يَكتمن من خبر أزواجهن شيئًا - والحديث معروف بحديث "أم زرع" - فذكرت إحداهن محاسن زوجها، فقالت: "زوجي: المَسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرْنَب"[4]. فهي تصف زوجها بحُسن التجمل والتطيب لها، فعلى الزوج أن يهتم بمظهره، وحسن ثيابه، وطِيب ريحه، ونظافة جسمه؛ حتى لا تنفر منه المرأة. ولذلك ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته بدأ بالسواك".
والزينة من الرجل لزوجته تكون سعيًا في دوام الود والمحبة بينهما، وذلك بشرط ألا يكون فيها إسراف يُخل بمُروءة الرجل ورجولته، أو أن يتشبَّه بالنساء. • وكذلك الحال بالنسبة للمرأة:
فينبغي عليها أن تهتم بنظافة جسدها ورائحة فمها، وأن ترجِّل شعرها، ولا بأس بوضع "الماكياج" لزوجها ما لم تُبالغ فيه، فتُغيِّر خلق الله، أو تتشبَّه بالكافرات، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((إن الله جميل يحب الجمال)). والمرأة مجبولة مفطورة على حب الزينة؛ كما بيَّن الله - تعالى - في كتابه الكريم، فقال - تعالى -: ﴿ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ [الزخرف: 18]. ولذلك تجد أن الشرع الحكيم أباح التحلي واللباس والتزين بأمور حرَّمها على الرجال؛ وذلك لحاجة المرأة للتزين إلى الزوج.
ومن الإشارات النبوية إلى أهمية التزين للأزواج، وأثره في التواد والتحاب بين الزوجين:
ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فلما قدِمنا المدينة، ذهبنا لندخل، فقال - صلى الله عليه وسلم -:((أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً - يعني: عشاءً - لكي تمتشط الشَّعِثَة[5]، وتستحد المُغِيبة)) [6]. • وفي رواية للبخاري أيضًا: ((إذا طال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلاً)).
وفي الحديث دليل على أنه يُستحب التأني للقادم على أهله، وإعلامهم بقدومه؛ حتى لا يراها في هيئة غير مناسبة، فيقع النفور منها. • ويستفاد من الحديث أيضًا: أن المرأة ما دام زوجها حاضرًا مقيمًا، فهي دائمة التزين، فلا تَهجر التزين إلا في غياب الزوج. وأخرج أبو داود - بسند صحيح - من حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أن خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة، كانت تحت عثمان بن مظعون، فدخلت على عائشة، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَذاذة هيئتها، فقال لي: ((يا عائشة، ما أبذَّ هيئةَ خولة؟))، فقالت عائشة: يا رسول الله، امرأة لها زوج يصوم النهار ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت عائشة: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عثمان بن مَظعون فجاءه، فقال: ((يا عثمان، أرغبةً عن سُنتي؟))، قال: لا والله يا رسول الله، ولكن سُنتَك أطلبُ، قال: ((فإني أنام وأصلي، وأصوم وأُفطِر، وأَنكِح النساء، فاتَّق الله يا عثمان؛ فإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لضيفك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، فصم وأفطر، وصلِّ ونَم)). وفي رواية عند الإمام أحمد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كانت امرأة عثمان بن مظعون تَخضِب - أي: بالحنَّاء - وتتطيب، فتركته، فدخلت علي، فقلت: أمشهد أم مغيب؟ فقالت: مشهد - وفي رواية: مشهد كمغيب - قالت: عثمان لا يريد الدنيا ولا يريد النساء، قالت عائشة: فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك، فلقي عثمان، فقال: ((يا عثمان، تؤمن بما نؤمن به؟))، قال: نعم يا رسول الله، قال: ((فأُسوة ما لك بنا))؛ السلسلة الصحيحة (394). • وفي هذا الحديث تأكيد على الأصل المقرر عند السلف الصالح، وهو أن المرأة تُداوم على الزينة ما دام زوجها مقيمًا؛ ولذلك ربطت عائشة - رضي الله عنها - بين هِجرانها للزينة وبين غياب الزوج. ونختم بهذه الوصية من أم لابنتها، حيث قالت لها:
"أي بُنَيَّة! لا تغفلي عن نظافة بدنك؛ فإن نظافته تضيء وجهك، وتحبِّب فيك زوجك، وتُبعد عنك الأمراض والعلل، وتقوي جسمك على العمل، فالمرأة التَّفِلة تمجها الطباع، وتنبو عنها العيون والأسماع، وإذا قابلت زوجك، فقابليه فرِحة مستبشرة، فإن المودة جسم رُوحه بشاشة الوجه"؛ "نظرات في الأسرة المسلمة"؛ للدكتور محمد الصباغ، ص (70 -71). • أن يغار كل من الزوجين على الآخر:
وهذا حق مشترك بين الزوجين، فعلى كل منهما أن يغار على الآخر، ومن علامات محبة الرجل للزوجة أن يغار عليها، ويحفظها، ويصونها، والمرأة تحب أن ترى من زوجها هذه الغَيْرة، فهي تريد أن تشعر بأن لها رجلاً يغار عليها ويحميها، وما أتعس المرأة إذا شعرت أن زوجها لا يبالي بها ولا يغار عليها، فإذا كانت الغيرة من أهم مميزات المرأة ومن صفاتها، فهي كذلك من أهم سمات الزوج المحب، وكان كرام الرجال يمتدحون بالغيرة على نسائهم، والمحافظة عليهن. فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يغار، والمؤمن مَن يغار، وغيرة الله أن يأتي الرجل المؤمن ما حرَّم الله)). وهناك أمر مهم، وضابط ينبغي الوقوف عليه عند الكلام على الغيرة، وهو أنه ينبغي أن تكون هذه الغيرة عند كل من الزوجين محمودة، وهي الحسنة بين السيئتين، والوسط بين الطرفين، أما الإفراط في الغيرة أو التفريط، فهذا أمر مذموم غير محمود. فالنوع الأول: عدم الغيرة:
فإذا كان هناك تفريط في الغيرة، يصبح الرجل ديُّوثًا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في "مستدرك الحاكم"، وصحَّحه الألباني -: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والدَّيُّوث، ورَجِلَة النساء)). والرجل الديُّوث هو الذي لا يغار على أهله، أو يقر في أهله الخبث، فيترك زوجته بلا حجاب، كاشفة عن جسدها، وعن شعرها لكل من أراد أن ينظر، وبهذا يجعل الزوج زوجته سلعة رخيصة، ولحمًا مباحًا لكل من أراد أن ينهش فيه بعينه، بل ربما بيده، فقد يطلب منه أحدهم أن يرقص مع زوجته، فيسمح له باسم التقدم، فيرقص هذا الرجل الأجنبي مع زوجته بطنًا لبطن، وهو ينظر إليهما ويبتسم. • وهناك من الرجال - أقصد من الذكور - مَن يسمح لزوجته أن ترقص أمام الناس في مناسبة من المناسبات، وربما صَعِد ليرقص معها هو الآخر. • وهناك من يستخدم زوجته لتسهيل أموره في بعض المصالح. • وهناك من يسمح لزوجته بمجالسة أصحاب السوء في مجالسهم الشيطانية، التي يدار فيها كأس الخمر والمخدرات. فلا خير فيمن لا يغار على أهل بيته، ولا يهتم: دخل من دخل، وخرج مَن خرج، لبست زوجته الحجاب أو خلعته، ينظر إليها وهي تشاهد ما يندى له الجبين في الفضائيات، وعلى التلفاز، ولا يتحرك فيه ساكن. فهذا الرجل ما هو إلا خنزير بري متخفٍّ في مِسلاخ بشري، فهذا لا خير فيه. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق، ألا تغارون؟ إنه لا خير فيمن لا يغار". النوع الثاني: الغيرة المذمومة (الإفراط في الغيرة):
فالإسراف في الغيرة يؤدي إلى احتراق البيت بنارها الموقدة، وإلى فِقدان الثقة المتبادلة بين الرجل وامرأته، فتجد الرجل لفرط الغيرة يمنع زوجته من الخروج، ومن المكالمات التليفونية، ومن استقبال قريباتها وصديقاتها، ويغلق نوافذ البيت وأبوابه، ويتجسس على أوراقها، يسيء الظن بها، ويأتي البيت على حين غفلة، وهذا كله يجعل الزوج يعيش مهمومًا حيرانًا مغمومًا معذبًا، بل يكون هذا الزوج سببًا لجعل زوجته محل الشك في نظر الناس وتُرمى بالسوء. وصدق علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حيث قال: "لا تكثر الغيرة على أهلك، فتُرمى بالسوء من أجلك". وقد أخرج أبو داود - بسند صحيح - من حديث جابر بن عَتِيك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الغيرة التي يحبها الله، فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يُبغضها الله، فالغيرة في غير ريبة))؛ صحيح الجامع (2221). • وهناك من الزوجات التي تغار من نجاح زوجها؛ وذلك خوفًا أن يبعده هذا النجاح عنها، فتعمل على تعطيل هذا النجاح، وفي الخفض من قيمة الزوج في نظر الآخرين؛ لذا كان من نصائح سلفنا الصالح لبناتهنَّ في ليلة الزفاف: البُعد عن تلك الغيرة المدمرة، فأوصى عبدالله بن جعفر - رحمه الله - ابنته في ليلة زفافها قائلاً لها: "إياك والغيرة؛ فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب؛ فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل؛ فإنه أزين الزينة، وأطيب الطِّيب الماء". فينبغي على المرأة ألا تكون شديدة الغيرة؛ لأن هذا يؤجِّج في صدرها نارًا، تشعل جيوش الظن والشكوك، فتحيل حياة الأسرة إلى جحيم لا يطاق، وانظر كيف دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة أن يُذهب الله عنها الغيرة لَمَّا أعلمته أنها شديدة الغيرة، ولعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا يؤثر على استقرار الحياة الزوجية؛ فقد أخرج الإمام أحمد - بسند صحيح - عن أم سلمة، قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولكني امرأة في غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يُعذبني الله به، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما ما ذكرتِ من غيرتك، فسوف يُذهِبها الله - عز وجل - عنك)). وفي رواية النسائي: ((فأدعو الله - عز وجل - فيُذهِب غيرتك)). وأخرج النسائي - بإسناد صحيح - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "قالوا: يا رسول الله، ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال: ((إن فيهنَّ لغيرةً شديدة)). ولذلك تجد أن الله - تعالى - طهر الحور العين في الجنة من هذا الداء العُضال. يقول ابن القيم في تفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ [البقرة:25]. "أي: طَهُرت من الحيض والبول، وكل أذًى يكون في نساء الدنيا، وطهرت بواطنهنَّ من الغيرة وأذى الأزواج، وتجنِّيهن عليهم وإرادة غيرهم". • النوع الثالث: الغيرة المعتدلة:
وهي الوسط بين الطرفين، والحسنة بين السيئتين:
وهذه الغيرة مطلوبة؛ حيث تشعل المحبة، وتُستَمْلَح أحيانًا، فالغيرة المعتدلة في الحياة الزوجية كالملح في الطعام، فالغيرة إذا كانت في موضعها، فهي صحة وعافية، والاعتدال فيها من الرجال والنساء من جملة الأمور المحمودة والمعاشرة بالمعروف، وإذا أردنا أن نضرب لذلك أمثلة، فلا نجد إلا حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكيف كانت تغار على سيد الخلق وحبيب الحق؛ أخرج البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه - وفي رواية: عائشة - فأرسلت إليه إحدى أمهات المؤمنين - وفي رواية: أم سلمة، وفي أخرى: صفية - بصَحْفَة فيها طعام، فضربت التي هو في بيتها يد الخادم، فسقطت الصَّحْفَة، فانفلقت، فجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِلَق الصَّحْفَة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصفحة، ويقول: ((غارت أمكم، غارت أمكم))، ثم حبس الخادم، حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفعها إلى التي كُسِرت صَحْفَتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسَرتها". وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلاً، فقالت: فغِرت عليه أن يكون أتى بعض نسائه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: ((أغرتِ؟))، فقلت: وهل مثلي لا تغار على مثلك؟"، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد جاءك شيطانك))، قلت: أَوَمَعِي شيطان؟ قال: ((ليس أحد إلا ومعه شيطان))، قلت: ومعك، قال: ((نعم، ولكن أعانني الله عليه، فأسلم[7])). وعند البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أغار من اللاتي وهبْن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أتهب نفسها؟ فلما أنزل الله - تعالى -: ﴿ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 51]؛ قلتُ: ما أرى ربَّك إلا يُسارع في هواك". وأخرج الإمام مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ألا أُحدثكم عني وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلي، فقالت: لما كانت ليلتي انقلب، فوضع نعليه عند رجليه، ووضع رداءه، وبسَط طرف إزاره على فراشه، ولم يلبث إلا ريثما ظنَّ أني قد رقدت، ثم انتقل رويدًا، وأخذ رداءه رويدًا، ثم فتح الباب رويدًا، فخرج وأجافه رويدًا، وجعلت درعي في رأسي، واختمرت وتقنَّعت إزاري، وانطلقت في أثره حتى جاء البقيع، فرفع يديه ثلاث مرات، وأطال القيام، ثم انحرف وانحرفت، وأسرع فأسرعت، فهرْوَل فهرولت، وأحضر وأحضرت، وسبقتُه فدخلت، فليس إلا أن اضطجَعت فدخل، فقال: ((ما لك يا عائش، حَشْيَا رَابِيَةً؟))، قلت: لا شيء، قال: ((لتخبرني، أو ليخبرني اللطيف الخبير))، قلت: يا رسول الله، فأخبرته الخبر، قال: ((أنت السواد الذي رأيته أمامي؟))، قلت: نعم، قالت: فلَهَزني لَهْزَة في صدري أوجعتني، قال: ((أظننت أن يَحيف الله عليك ورسوله))، قالت: مهما يكتم الناس، فقد علمه الله، قال: ((نعم؛ فإن جبريل أتاني حين رأيت، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، فناداني وأخفى منك، وأجبته فأخفيته منك، وظننت أن قد رقَدت، فكرهت أن أُوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فأمرني أن آتي أهل البقيع، فأستغفر لهم)). تنبيه:
هناك نوع من الغيرة يحبها الله - عز وجل - في عبده المؤمن، وهي الغيرة المحمودة، والتي تكون إذا ما ارتكبت أو انتُهِكت محارم الله - عز وجل. فقد أخرج البخاري ومسلم أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي، لضربته بالسيف غير مُصْفح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتعجَبون من غَيْرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني؛ من أجل غيرة الله - تعالى - حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطَن)). وأخرج البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المؤمن يغار، والله أشد غيرة)). وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)). فهذه جملة من الأحاديث يتبيَّن من خلالها أن المؤمن يغار إذا انتُهِكت محارم الله، كأن تتجرأ زوجته على ما حرم الله، فتفعله، أو يترك أهل بيته الصلاة، أو ما أمر الله به. أو يغار الرجل على زوجته غيرة يصونها بها ويحفظها معها من كلِّ ما يَخدِش شرفها، ويَمتَهِن كرامتها، وهذا من صفات المؤمنين. • استمتاع كل من الزوجين بالآخر، وسعي كل منهما على إعفاف الآخر:
وهذا الأمر مشترك بينهما، فيحل للزوج من زوجته ما يحل لها منه، وهذا الاستمتاع حق للزوجين، ولا يحصل إلا بمشاركتهما معًا، لأنه لا يمكن أن ينفردَ به أحدهما؛ قال - تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: 5 - 7]. فلكلٍّ من الزوجين الحق في الاستمتاع بالآخر، بشرط ألا يكون هناك مانع: كالحيض، أو النفاس، أو صوم الفريضة، أو الإحرام بالحج أو العمرة. فعلى المرأة أن تعفَّ زوجها في زمن كَثُر فيه الفتن، فتستجيب لطلب الزوج إذا دعاها للفراش، ويحرم عليها أن تمتنع عليه؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء فبات غضبانَ عليها؛ لعَنتها الملائكة حتى تصبح)). تنبيه:
لا يختص اللعن بالمرأة إذا امتنعت عن زوجها ليلاً فقط، بل لو حدَث أن امتنعت عن زوجها بالنهار، لَحِقها اللعن أيضًا. وقد نقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 294) عن أبي جمرة - رحمه الله - أنه قال: "ظاهر الحديث اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلاً؛ لقوله: ((حتى تصبح))، وكأن السرَّ تأكُّد ذلك الشأن في الليل، وقوة الباعث عليه، ولا يلزم من ذلك أنه يجوز لها الامتناع في النهار، وإنما خص الليل بالذكر؛ لأنه المظنة لذلك"؛ ا.هـ. وجاء في رواية أخرى - هي أيضًا في الصحيح - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها، حتى يرضى عنها)). ويستفاد من الحديث:
"أن سخط الزوج - إن كان لأمر شرعي - يوجب سخط الرب، ولا يرضى عنها الله - عز وجل - إلا إذا رضي عنها زوجها، وهنا تظهر مكانة الزوج. وفي هذه الأحاديث: الإرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب مرضاته، وأن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، وأن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح؛ ولذلك حض الشارع النساء على مساعدة الرجال في ذلك، أو السبب فيه الحض على التناسل، وفيه إشارة إلى ملازمة طاعة الله، والصبر على عبادته جزاءً على مراعاته لعبده؛ حيث لم يترك شيئًا من حقوقه إلا جعل له من يقوم به، حتى جعل الملائكة تلعن من أغضب عبده بمنع شهوة من شهواته، فعلى العبد أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه، وإلا فما أقبح الجفاء من الفقير المحتاج إلى الغني الكثير الإحسان"؛ ا.هـ؛ فتح الباري (9/ 295). قال الصنعاني - كما في "سبل السلام" (3/ 143) -:
في الحديث إخبار بأنه يجب على المرأة أن تجيب زوجها إذا دعاها للجماع؛ لأن قوله: ((إلى فراشه))، كناية عن الجماع، ودليل الوجوب لعن الملائكة لها؛ إذ لا يلعنون إلا عن أمر الله، ولا يكون إلا عن عقوبة، ولا عقوبة إلا على ترك واجب. وعلى الرجل كذلك أن يَعِفَّ زوجته قدر الطاقة والاستطاعة، ولا يشغل بالعبادات - النوافل - عن حق زوجته؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: ((يا عبدالله، ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟))، قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((فلا تفعل، صم وأفطر، ونَم وقُم؛ فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينيك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا)). وأخرج البخاري أن الحبيب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي الدرداء: ((يا أبا الدرداء، إن لجسدك عليك حقًّا، ولربك عليك حقًّا، ولضيفك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا؛ صم وأفطر، وصلِّ، وائت أهلك، وأعط كلَّ ذي حق حقه)). وأخرج عبدالرزاق في "مصنفه" عن الشعبي: "أن كعب بن سُور كان جالسًا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجاءت امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت رجلاً قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائمًا، ويظل نهاره صائمًا، فاستغفر لها وأثنى عليها، واستحيت المرأة، وقامت راجعةً، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، هلاَّ أعديت - أنصفت - المرأة على زوجها، فلقد أبلغت إليك في الشكوى، فقال لكعب: فاقضِ بينهما؛ فإنك فهِمت من أمرها ما لم أفهم، وقال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن، فاقض بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة، فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة، نِعم القاضي أنت"، وأورد هذا الأثر الحافظ في "الإصابة" في ترجمة كعب بن سور، وصحَّحه الألباني في "الإرواء" (7/ 80). وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود - بسند فيه مقال، وله شواهد - عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: "دخلت عليّ خويلة بنت حكيم، وكانت عند عثمان بن مظعون، قالت: فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذاذة هيئتها، فقال لي: ((يا عائشة، ما أبذَّ هيئةَ خويلة!))، قالت عائشة: يا رسول الله، امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عثمان بن مظعون، فجاءه، فقال: ((يا عثمان، أرغبةً عن سنتي!))، فقال عثمان: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتَك أطلبُ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإني أنام، وأصلي، وأصوم، وأفطر، وأنكح النساء، فاتَّق الله يا عثمان؛ فإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لضيفك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، قال: فصم وأفطر، وصل ونم)). • وجاء في "المغني (7/31): أن الإمام أحمد سُئل: يؤجر الرجل أن يأتي أهله، وليس له شهوة؟ فقال: إي والله، يحتسب الولد، وإن لم يرد الولد، يقول: هذه امرأة شابة، لِم لا يؤجر؟". • حسن العشرة (المعاشرة بالمعروف):
فلكل من الزوجين أن يعامل الآخر بالمعروف؛ مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة:228]، وانظر إلى قوله - سبحانه -: ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، وما تعنيه هذه الكلمة من معان سامية وحقوق عالية، فهي تعني: عطاءً بلا منٍّ، وبذلاً للمودة والرحمة والمحبة، ومعاملةً حسنةً من كلا الطرفين للآخر. تجمُّل كل من الطرفين للآخر، وتعهُّد الفم والجسد بالنظافة، ووضع العطور، صبر الزوجة على زوجها إذا أصابه فاقة وضائقة مالية، مساعدة الزوجة في حمل الأشياء الثقيلة، أو تقديم يد المساعدة إذا كانت مريضة أو نُفساء، فهذا لا يقدح في رجولة الزوج، فكل هذا عملٌ بوصية الله؛ حيث قال - سبحانه وتعالى - في كتابه: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]. وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول كما عند البخاري: "كان - صلى الله عليه وسلم - يرقع الثوب، ويَخصف النعل، ويساعد أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة". وفي "حلية الأولياء" (1/ 344)، و"صفة الصفوة" (1/ 273)، و"الإحسان" (3270) في ترجمة سعيد بن عامر - رضي الله عنه -: "عندما عاب عليه أهل حمص أنه يخرج إليهم إذا ارتفع النهار، فأجاب: والله إني كنت أكره أن أقول ذلك، أما وإنه لا بد منه، فإنه ليس لأهلي خادم، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريَّث قليلاً حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضَّأ وأخرج للناس". فالمعاشرة بالمعروف بين الزوجين أساس السعادة الزوجية.
وفي مسند الإمام أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))؛ صححه الألباني. وعند الترمذي - وحسنه الألباني - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخيارهم خيارهم لنسائهم)). ومن حُسن الخلق أن يُنتقى معها أطايب الكلام، كما ينتقى طيب التمر، فلا يكون سبَّابًا ولا لعَّانًا، ولا يفعل قبيح العادات، فكل هذا ليس من المعاشرة بالمعروف، فالمعاشرة بالمعروف تعني حسن الخلق في الأقوال والأفعال، والصفات ظاهرًا وباطنًا، حتى إذا استحالت الحياة بين الزوجين، ينبغي كذلك أن تنتهي بالمعروف؛ قال - تعالى -: ﴿ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [الطلاق: 2]. تحمُّل كل منهما الآخر والصبر عليه:
وهذا من المعاشرة بالمعروف، فمما لا شك فيه أن الزوج عندما يخرج إلى عمله، فإنه يواجه أمورًا صعبة في العمل، تجعله متعكِّر المزاج سريع الغضب، وكذلك فهو مهموم بتوفير احتياجات الأسرة: من مطعم، وملبس، ومصاريف التعليم، وغير ذلك، وقد يمر الزوج في بعض الأحيان بضائقة مالية، والاحتكاك في وسائل المواصلات، ومع الجمهور في العمل، وأخذ الأوامر من المدير، كل هذا قد يجعله في بعض الأحيان ضيِّق الصدر، فعلى الزوجة أن تقدِّر ذلك، وتوفر له سبل الراحة والسكن؛ حتى ينسى كل هذه الهموم، ويُلقيها عن كاهله على عتبة المنزل. • وكذلك الزوج لا بد أن يُقدِّر ما تفعله الزوجة من مجهود في البيت: من طهي، وإعداد للطعام، وتنظيف السكن، وتربية للأولاد، وسهر على راحتهم، وكذلك تعرُّض المرأة للحمل والوضع والنفاس والحيض، كل هذه الأمور تجعل المرأة متعكرة المزاج في الغالب، فعلى الزوج أن يراعي ذلك، وألا يلقي بالمسؤولية كلها عليها، بل تجده لا يقدرها ولا يصبر عليها، فيقف لها على الهفوات، ويستغل القوامة التي حباه الله بها في الضرب واللعن والسب، وهذا كله ليس من أخلاق المسلم. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في الترمذي وأبي داود - وصححه الألباني -: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا)). وقال أيضًا في حديث آخر - هو عند الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني كذلك -: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)). • فلا بد من غض الطرف عن الهفوات والأخطاء، وخاصة غير المقصود منها، وليعلم كل من الزوجين أنه لا يخلو إنسان من خطأ؛ فقد أخرج الترمذي وابن ماجه عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون)). وصدق الشاعر حيث قال:
مَن ذا الذي ما ساءَ قَطْ
طُ ومَن له الحُسنى فقَطْ فعلى كل من الزوج والزوجة أن يتحمل صاحبه، فلكل جَواد كَبْوة، ولكل امرئ هفوة، ولكل إنسان زلة، وأحق الناس بالاحتمال مَن كان كثير الاحتكاك بمن يعاشر.