" رتق غشاء البكارة "
في
"ميزان المقاصد الشرعية "
للدكتور / محمد نعيم ياسين
رئيس قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الكويت
مدخل وتقسيم : ـ
البكارة بالفتح هي الجلدة التي على قبل المرأة ، وتسمى عذرة أيضا والعذراء هي المرأة التي لم تفتض ، والبكر هي التي لم يمسها رجل ،ويقال للرجل بكر إذا لم يقرب النساء ، ومنه حديث (البكر بالبكر جلد مائة ثم نفي سنة ) .
والبكارة ـ كسائر أجزاء الجسد ـ معرضة لأن تصاب بتلف كلي أو جزئي نتيجة حادث مقصود أو غير مقصود ، بسبب آفة سماوية أو بسبب تصرف إنساني ، وقد يكون هذا التصرف في ذاته معصية وقد لا يكون .
وقد نشأت أعراف وتقاليد اجتماعية تعطي كثيرا من الأهمية والاعتبار لوجود هذا الغشاء في الفتاة البكر ، وتجعله دليلا على عفتها ، وتجعل تمزقه قبل الزواج عنوانا على فسادها ، ويترتب على ذلك من ردود الفعل عند الزوج وأهل الفتاة والناس ما يتراوح بين مجرد الظنون والشكوك وبين تدمير الأسرة الناشئة وإيقاع الأذى في تلك الفتاة المتهمة .
ورتق البكارة إصلاحها وإعادتها إلى وضعها السابق قبل التمزق أو إلى وضع قريب منه ، وهو عمل الأطباء المتخصصين .
والبحث يدور في موضوعه حول الحكم الشرعي لهذا الفعل بالنسبة للطبيب الذي يقوم به .
والمنهج في استنباط أحكام التصرفات الإنسانية من حيث الجملة يتلخص في عرضها على النصوص أولا ، فإن لم تدخل في متناولها ، نظر إلى مثيلاتها مما تعرضت له النصوص وقيست عليها ، وإلا فيجتهد في استنباط حكمها بعرضها على مباديء الشريعة وروحها ومقاصدها وقواعدها العامة ، والنظر في المصالح والمفاسد المترتبة على التصرف ، وترجيح بعضها على بعض .
ولا شكل في أن رتق البكارة مسألة مستجدة ، لم يتناولها نصل من نصوص الشريعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ولم يتعرض الفقهاء لبيان حكمها ؛ لعدم تصور عن إمكان حدوثها في عصرهم ، وليس لها مثيل في عهد التشريع حتى يمكن قياسها عليه . فلم يبق إلا النظر في روح الشرع ومقاصده وقواعده العامة ، والمصالح والمفاسد التي يمكن أن تترتب على هذا التصرف .
هذا وفي سبيل الوصول إلى استنباط الحكم الشرعي لرتق البكارة نتناول هذا الموضوع في ثلاثة مباحث وخاتمة : ـ
المبحث الأول : في بيان المصالح والمفاسد التي يعتبر الرتق مظنة لها من حيث الجملة .
المبحث الثاني : في بيان تفاوت المصالح والمفاسد بالنظر إلى أسباب تمزق البكارة ، والموازنة بينها .
المبحث الثالث : في بيان موقف الطبيب من الحالات التي تعرض عليه في طبيعة تلك الأحكام ورد بعض الشبهات .
المبحث الأول
المصالح والمفاسد التي يعتبر
الرتق مظنة لها من حيث الجملة
المطلب الأول
المصالح التي يعتبر الرتق مظنة لها .
إذا نظرنا إلى هذا التصرف من حيث آثاره ، آخذين بعين الاعتبار ما أشرنا إليه من الأعراف الناشئة التي ترتب على اكتشاف تمزق البكارة كثيرا من المؤاخذات وردود الفعل ، وجدنـاه مظنة لتحقيق طائفة من المصالح المعتبرة في الشرع ، أهمها : ـ
أ – مصلحة الستر :
فإن هذا العمل الذي يقوم به الطبيب فيه معنى الستر على الفتاة ، مهما كان سبب تمزق بكارتها ؛ حيث يخفى من أمرها ما لو اكتشف لترتب عليه كثير من الأذى .
والستر لا يقتصر على مجرد الامتناع عن التبليغ ، فيها ستر بالموقف السلبي ، وقيام الطبيب برتق البكارة ستر بموقف إيجابي ، وكلاهما ينبغي به درء الفضيحة والمؤاخذة عن المستور .
وهذا المعنى لا يتم في حق الفتاة البكر إلا بالنوع الثاني ، والنوع الأول لا ينفعها في تحقيق تلك الغاية ، في ظل ما ذكرنا من العادات ، وإن كان ينفع غيرها كالرجل والثيب ، وسيأتي زيادة إيضاح لهذا في المبحث الثاني إن شاء الله تعالى . والستر مقصد شرعي عظيم قررته عدة نصوص من السنة المشرفة .منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة " . وقوله " لا يرى مؤمن من أخيه عورة فيسترها عليه إلا أدخله الله بها الجنة " ، وقوله " من ستر عورة فكأنما استحيا موؤدة في قبرها " ، وقوله لهزال ـ الرجل الذي عرف أمر ماعز عندما زنى ـ " لو سترته بثوبك كان خيرا لك "
ب – ويترتب على تحقيق مصلحة الستر مصلحة أخرى : ـ
وهي حماية بعض الأسر التي ستتكون في المستقبل من بعض عوامل الانهيار ؛ فإنه إذا امتنع الطبيب عن إصلاح ما فسد من البكارة ، وتزوجت الفتاة ، وعرف الزوج أمرها ، كان ذلك مظنة القضاء على هذه الأسرة الوليدة في مهدها ، أو على الأقل إضعافها بالشك وفقدان الثقة بين طرفيها ولا شك في أن إيجاد الأسرة المتماسكة بالفقه بين طرفيها مقصد شرعي .
ج – الوقاية من سوء الظن : ـ
فإن قيام الطبيب بهذا العمل يساعد على إشاعة حسن الظن بين الناس ، ويسد بابا لو ظل مفتوحا لاحتمل أن يدخل منه سوء الظن إلى النفوس ، والحوض فيما حرم الله تعال وحذر مجتمع الإيمان منه تحذيرا شديدا ، وقد يترتب على ذلك ظلم البريئات من الفتيات . وإشاعة حسن الظن بين المؤمنين مقصد شرعي معتبر ؛ فقد قال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ..) ويقول أيضا ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث .." ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول " ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك ! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ، ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا " .
د – تحقيق المساواة والعدالة بين الرجل والمرأة :
وذلك أن الرجل مهما فعل من الفاحشة ، لا يترتب على فعله أي أثر مادي في جسده ، في الوقت الذي صارت فيه المرأة البكر تؤاخذ اجتماعيا وعرفيا على زوال بكارتها ، حتى وإن لم يقم أي دليل معترف به في الشرع على ارتكابها الفاحشة ، كذلك فإن المرأة المتزوجة أو التي سبق لها الزواج ، كالمطلقة والأرملة لا تتعرض لمثل تلك المؤاخذة الاجتماعية والعرفية مهما ارتكبت من الفاحشة ما دامت البينات الشرعية قاصرة عن إثبات ما ارتكبت .
ولا شك في أن تحقيق العدالة بين الناس أمام القانون الإسلامي مقصد شرعي ، إلا ما ثبت استثناؤه بدليل شرعي معتبر . وليس في الشرع ولا فيما قرره الفقهاء ما يدل على زيادة الوسائل التي تثبت بها جريمة الزنى في حق الفتاة البكر .
لذلك فإننا نجد إجماعا من الفقهاء على أن الزنى لا يثبت بمجرد اكتشاف زوال بكارة المرأة ، لتعدد أسباب هذا الزوال ، فإن لم يقترن باعتراف أو شهادة أو حبل لم يكن فيه أية دلالة على ارتكاب الفاحشة ،ولا يترتب علبه أية عقوبة .
ويرى الفقهاء التساوي في وسائل الإثبات في جريمة الزنى بين الرجل والمرأة من حيث الجملة ، ويرى كثير منهم أن هذا التساوي ليس له استثناء ، فلا تثبت عندهم هذه الجريمة إلا بشهادة أربعة رجال عدول ، أو إقرار يصير عليه صاحبه إلى حين الانتهاء من إقامة الحد عليه . والاستثناء الوحيد الذي اختلفوا فيه هو دلالة قرينة واحدة بالنسبة للمرأة ، وهي قرينة الحبل الذي يظهر على امرأة غير متزوجة ؛ فرأى بعضهم الاكتفاء به في إثبات الزنى على المرأة إذا لم تثر شبهة معتبرة حوله كإكراه واستغاثة بالناس ونحو ذلك . ورأى جمهورهم أن هذه القرينة ليست كافية في إثبات الفاحشة ما لم يصاحبها اعتراف أو إقرار . وأما زوال البكارة فلم نجد أحدا منهم قال بإثبات الزنى به إذا لم يقترن بأدلة الإثبات الأخرى.
والمفروض في مجتمع يدين بالإسلام و يحكم قيمه وأخلاقه وموازينه أن لا يتهم شخصا بأدلة أو بقرائن لا يراها الشرع ولا يقيم لها وزنا . وهذا هو التحكيم الاجتماعي لشرع الله تعالى ، ينبغي أن يكون مكملا للتحكيم القانوني والقضائي لذلك الشرع ومتناسقا معه . ولا يكون الحكم بشرع الله كاملا إلا بذلك ، أي يجعل الأعراف والتقاليد والمؤاخذات الاجتماعية على أي تصرف تبعا للمناهج والمؤاخذات الشرعية التي تتمثل فيما يصدره القضاء وينفذه السلطان من الأحكام .
فإذا ما قامت أعراف وتقاليد اجتماعية مغايرة للقانون الإسلامي كان ذلك انحرافا في المجتمع ، ينبغي تصحيحه بالتوعية الإسلامية من جهة ، وعدم ترتيب أية آثار شرعية عليه من جهة أخرى ، ومن جهة ثالثة ينبغي حماية المتضررين من هذا الانحراف الاجتماعي ، الذين يؤاخذون بما لم يؤاخذهم به الله تعالى ، في الدنيا على الأقل ، ويتحملون من المضايقات بسببه ما لم يحملهم الشرع .
إن الشريعة ـ كما تقدم ـ لا ترتب على المرأة التي يظهر تمزق بكارتها أية عقوبة في الدنيا ، إذا لم يقترن ذلك باعتراف منها أو شهادة عدول أربعة عليها ، ومع ذلك فإن طائفة من مجتمعاتنا تعاقب هذه المرأة بعقوبات تفوق في شدتها أحيانا ما يعاقب به الشرع امرأة بكرا ثبت عليها الزنى بالوسائل الشرعية ، فتكون سببا في تدمير حياتها الزوجية أحيانا ، أو في حرمانها من الزواج أحيانا ،وقد يصل الأمر في بعض المجتمعات إلى إزهاق روحها . فتكون هذه المجتمعات بذلك قد نصبت نفسها قاضيا ظالما بما لم يأذن به الله عز وجل ، وبناء على قرائن لا يعترف بها شرعه الحنيف .
وإذا كان من الصعب ـ في كثير من الأحيان ـ تغيير هذه التقاليد ، فلا أقل من حماية المرأة من هذا العسف الاجتماعي بإخفاء القرينة ـ التي لم يعتبرها الشرع ـ عن أولئك الذين يبنون عليها أحكامهم الظالمة .
هـ – إن قيام الطبيب المسلم بإخفاء تلك القرينـة الوهمية (في دلالتها على الفاحشة ) له أثر تربوي عام في المجتمع وخاص يتعلق بالفتاة نفسها .
فأما الأثر التربوي العام فبيانه أن المعصية إذا أخفيت انحصر ضررها في نطاق ضيق جدا ، وقد يقتصر فاعلها إن لم يتب عنها ، فإن تاب عنها أمحى أثرها تماما، أما إذا شاعت بين الناس وتناقلتها الأخبار فإن أثرها السيء يزداد ، وتتناقص هيبة الناس من الإقدام عليها ، فإن تكررت مرات ومرات ازداد ذلك التناقص إلى أن يضمر الحس الاجتماعي بآثارها السيئة ، فإذا وصل الأمر إلى هذا الحد صار من الهين على أفراد المجتمع الإقدام على هذه المعصية ،ولقد قيل في الأثر : ( إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ، فإن أعلنت ولم تنكر أضرت بالعامة ). ولعل هذا المعنى بعض من حكمة الستر الذي حث عليه الإسلام ـ كما تقدم ـ ولعله حكمة من حكم التشدد في إثبات فاحشة الزنى ودرئها عن المتهم بأدنى شبهة ،وحكمة من حكم العقاب الجسيم الذي شرعه الإسلام لمن رمى الناس بها بغير دليل معتبر .
فإن من مقاصد هذه التعاليم والأحكام الشرعية ضرب الحصار حول المعاصي والفواحش التي لم تثبت بالأسلوب الشرعي في الإثبات ، ولم تعرض على القضاء ، حتى لا تتسرب روائحها الخبيثة إلى الناس ، فتثير ردود فعلهم في باديء الأمر ، فإذا كثرت وطغت اعتادوا عليها وصارت أمرا غير مستنكر ولا مستقبح ولا يسوغ في الإسلامي إعلان المعاصي وفك الحصار الذي ضربه حولها بتلك التعاليم إلا لسبب واحد هو أن تعرض على القضاء وتثبت أمامه بالوسائل المشروعة ، وعندئذ يوفي العاصي عقوبته على مرأى من الناس ومسمع منهم ، إذ يصبح إعلان العقوبة عندئذ وسيلة لإبقاء المعصية الثابتة المعلنة في حيز دائرة لاستنكار من نفوس الناس .
والطبيب عندما يقوم بالستر على فتاة بطمس علامة سيتخذها الزوج في المستقبل ومن بعده الناس ، دليلا على الفاحشة ،مع أنها في الحقيقة وفي الشرع ليست كذلك ، إنما يحقق ذلك المقصد الشرعي ويعرقل تطبيعا غير مقصود لتقبل المعاصي على المدى الطويل قد يقع فيه الحس الاجتماعي .
وأما الأثر التربوي الخاص بالفتاة نفسها فذلك أن الطبيب برتقه بكارتها إنما يشجعها على التوبة وييسر أمرها عليها ، على فرض وقوعها في المعصية ، ويثبتها على العفاف الذي كانت عليه على فرض أن تمزق بكارتها لم يكن بسبب معصية .
وأما إحجامه عن ذلك وإيصاد الباب أمام الفتاة في إزالة أثر يحاسب عليه المجتمع أشد الحساب ، فإن لم يكن إيمانها بالله تعالى واليوم الآخر راسخا فإنها قد تندفع برد فعل معاكس إلى هاوية الرذيلة وارتكاب الفاحشة مرة ومرات وبخاصة أنها لا تخشى من زوال العلامة التي ترضى المجتمع وتقنعه بالعفة والاستقامة بعد أن فقدتها بسبب لا يد لها فيه أو بغلطة غلطتها ، وهذا في الوقت الذي ستمتنع فيه عن الزواج وترفض الخطاب بأعذار تختلقها ، ويكون في ذلك ضياعها وتوظيفها وسيلة فساد وإفساد في المجتمع ، مع أن استصلاحها كان ممكنا لو أن الطبيب استجاب لاستغاثتها من أول الأمر .
المطلب الثاني
المفاسد التي يعتبر الرتق مظنة لها
1 – الغش والخداع :
الذي يتبادر إلى الذهن في أول الأمر أن قيام الطبيب برتق بكارة فتاة عمل فيه تمويه وخداع لمن يريد الزواج من هذه الفتاة في المستقبل ؛ حيث يحجب عنه علامة قد تكون أثرا من آثار سلوك شائن وقعت فيه تلك الفتاة ، لو عرفه منها قبل الزواج لما تزوجها ، ولو عرفه عند الدخول ، بها لما استمر معها في الحياة الزوجية ، احتياطا لنسله ،وخوفا من أن تدخل عليه من الأولاد من ليس من صلبه.
وبخاصة أن الله تعالى قد وجه المؤمنين في كتابه الكريم إلى أنه لا ينكح الزانية أو المشركة إلا زان أو مشرك ؛ فقال عز وجل ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية ولا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) وقد نقل عن بعض العلماء أن الزاني إذا تزوج عفيفة ، وأن الزانية إذا تزوجها عفيف فرق بينهما عملا بظاهر الآية .
والطبيب برتقه غشاء البكارة قد يكون سببا في استمرار الزوج في زواج لا يشجع الشرع على استمراره حسب الفهم السابق للآية الكريمة .
ومن جهة أخرى فإن بعض الفقهاء قد ذهبوا إلى أن للزوج الحق في فسخ الزواج إذا كان قد اشترط على الزوجة أنها عذراء فتبين خلاف ذلك . فيكون الطبيب بعمله قد فوت على مثل هذا الزوج حقه في الفسخ ، وغشه في ذلك حيث أوهمه بالعذرية المصطنعة أن شرطه متحقق في الفتاة التي تزوجها .
2 – تشجيع الفاحشة :
كذلك قد يتبادر أن رتق الطبيب لغشاء البكارة يؤدي إلى تشجيع فاحشة الزنى في المجتمع ؛ وذلك أنه بهذا العمل يزيل كثيرا من التهيب والشعور بالمسؤولية الذي ينتاب عادة أية فتاة تحدثها نفسها بارتكاب هذه الفاحشة ؛ فإنها إذا علمت أن فعلتها سوف تترك أثارا في جسدها يرتب عليها المجتمع عقوبات قاسية ، وإن استطاعت أن تفلت من العقوبة الشرعية المفروضة على مثل هذه الجريمة ، إذا علمت ذلك ، وأحست بمخاطر المستقبل المنتظر على فرض وقوعها في الزنى أحجمت عنه إيثارا للسلامة في الدنيا على الأقل .
أما إذا علمت أن بإمكانها التخلص من آثار جريمتها ، بإصلاح ما أفسدته تلك الجريمة ، تناقص إحساسها بالمخاطر المستقبلية ، وشجعها ذلك على الإقدام على المعصية . وهذا يتنافى مع روح الشريعة في مكافحة الزنى ، وسد جميع الأبواب التي توصل إليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، فكان تشريع حد الزنى والأمر بستر العورات ، والنهي عن خلوة الرجل بالمرأة ، والنظر إليها وسفرها من غير محرم ،وغير ذلك .
كشف العورة :
وذلك أن فرج المرأة وما حوله عورة مغلظة عند جميع الفقهاء ؛ ولا يجوز النظر إليه ولا لمسه لغير الزوج ، سواء أكان الناظر أو اللامس رجلا أم امرأة ، والرتق يقتضي النظر واللمس قطعا . وكشف العورة ، وبخاصة المغلظة منها لا يحل إلا لضرورة أو حاجة ، والطب لم يكتشف بعد أية فائدة صحية للبكارة ؛ فالحاجة المقتضية لحل الكشف غير متوفرة ، اللهم إلا إذا حدث نزيف نتيجة تمزق البكارة.
المبحث الثاني
بيان تفاوت تلك المصالح والمفاسد بالنظر
إلى أسباب التمزق والموازنة بينهما
تلك هي المفاسد والمصالح التي يعتبر الرتق مظنة لها بصورة عامة ،ولكن مدى تحققها في الواقع يختلف باختلاف الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى فساد غشاء البكارة ، ولمعرفة ذلك يمكن تصنيف هذه الأسباب إلى ثلاثة أصناف :
الأول : أسباب ـ غير وطء النكاح ـ لا تعتبر في ذاتها معاصي .
الثاني : ارتكاب فاحشة الزنى دون إكراه .
الثالث : وطء النكاح وما يلتحق به .
ونبحث المصالح والمفاسد التي يحتمل أن تترتب على رتق البكارة المتمزقة بكل سبب من هذه الأسباب في ثلاثة مطالب :
المطلب الأول
الصنف الأول
وهي الأسباب التي لا تعتبر في ذاتها معاصي ، ولا يترتب عليها إثم أخروي ، بل قد تكون أسبابا للمغفرة وحط الخطايا ؛ لأنها حوادث وآفات ومصائب تصيب الفتاة فتؤدي إلى تمزق بكارتها كالسقطة والصدمة ، والحمل الثقيل وطول العنوسة ،وكثرة دم الحيض والخطأ في بعض العمليات التي يكون الغشاء محلا لها ،ونحو ذلك .
ويلتحق بذلك الاغتصاب الذي قد يقع على الفتاة ، وإن كانت بالغة راشدة ؛ فإنها لا حيلة لها فيما يصيبها نتيجة هذا الإكراه . وكذلك الزنى الذي تقع فيه نائمة أو جارية صغيرة بناء على مخادعة أو غير ذلك ؛ فإن المسئولية في الدنيا والآخرة مرفوعة عن الصغار مهما ارتكبوا من المعاصي ، وعن المكرهين على فعلها ؛ حيث قال رسول الله r " رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يعقل ، وعن النائم حتى يستيقظ ،وعن المجنون حتى يفيق " ،وقال " وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
إن إصلاح تمزق البكارة الناشيء عن هذا النوع من الأسباب مظنة لتحقيق جميع ما تقدم من المصالح في المبحث الأول بصورة كاملة ؛ لأن الفتيات اللواتي يقعن في مثل هذه الأسباب أحق بالنظر والرعاية والمساعدة ؛ وهن معذورات عند الله تعالى وعند الناس .فالستر مثلا إذا كان أمرا مندوبا بالنسبة لمن وقعن في الفاحشة بالفعل ؛ لما تقدم من النصوص الشرعية ، فلان يكون كذلك بالنسبة لهذا الصنف من الفتيات أولى بكثير ؛ إذ لم يقعن في فاحشة أصلا ،أو لم يكن لهن اختيار عند الوقع فيها ، والستر عليهن يحميهن من مؤاخذات ظالمة .
وأما مصلحة حسن الظن فإن تصرف الطبيب مع هذا الصنف من الفتيات بإزالة أثر الحادث الذي تعرضن له يسهم إلى حد كبير في تحقيق هذه المصلحة ؛ حيث يمحو بتصرفه هذا مبررا وهميا قد يدفع أفراد المجتمع ـ لو بقي ـ إلى سوء الظن ببعض بناته .
وهو من جهة أخرى يشجع هذا الصنف من الفتيات على مواصلة الاستقامة ، ويسد بابا قد ينفذ منه الشيطان إلى نفوسهن لو لم يستجب إلى ما طلبن من العون والمساعدة .
ومن جهة ثالثة يحتمل أن يكون تصرف الطبيب هذا سببا في إنقاذ المجتمع وكذلك الأزواج الذين قد يرتبطون بهذا الصنف من الفتيات من ردود فعل تجاههن ليس لها أي مبرر ، ومن ظلم لهن كانوا سيقعون فيه لو وقف الطبيب موقفا سلبيا .
وأما مفاسد الرتق لهذا الصنف فهي ضئيلة إذا ما قيست بتلك المصالح ، وبيان ذلك فيما يأتي :
أولا : إن النوع الأول من المفاسد التي سبق ذكرها ، وهو غش الزوج وخداعه غير موجود في هذا التصرف ؛ لأن الغش إنما هو إخفاء عيب أو نقص في المحل بحيث يبدوا أمام طالبيه خاليا من ذلك العيب ، فيترتب عليه الإضرار بذلك الطالب . فإذا كانت الفتاة قد تمزقت بكارتها بسبب لا يبعد معصية ، ولا عيبا في عرف الشارع ولا في عرف الناس ، ثم قام الطبيب بإصلاح هذا الخلل ، لم يكن بذلك غاشا للزوج ؛ لأن العيب في الفتاة إما أن يكون خلقيا ، وإما أن يكون خلقيا ، والفتاة التي تمزقت بكارتها بحادث أو رغما عنها ليس فيها أي عيب خلقي ، وإنما حدث فيها عيب طفيف في الجسد ، فإذا أصلحه الطبيب ، وأعاده إلى سابق خلقته فإن صنيعه هذا إظهار للحقيقة ، ووضع للأمر في نصابه ، وليس في فعله إخفاء عيب كان موجودا في الفتاة ، بل حقيقته منه الوقوع في الوهم وسوء الظن ؛ حيث إن إحجامه عن رتق البكارة سيؤدي إلى اتهام الفتاة بما لم تقع فيه ، وتعريض الزوج والناس إلى الوقوع في الإثم بسبب هذا الاتهام . وفعله هذا لا يقل في استجلاب الأجر من علاجه لجرح عادي وقع على الجسد ، بل هو أولى بالأجر من ذلك ؛ لما ذكر من تخليص الفتاة من مفاسد معنوية كثيرة تفوق ما يترتب على الجرح العادي أو تمزق غشاء آخر من أغشية الجسد الآدمي .
ومن الناحية الفقهية فإن الفقهاء يكادون يتفقون على أن فوات وصف العذرية لا يعتبر عيبا يستوجب فسخ عقد النكاح إذا لم يشترطه الزوج بصراحة .
وبناء على هذا فإن الطبيب ؛ برتقه بكرة الفتاة ، لا يكون قد فوت على من سيتزوجها حقه في الفسخ .
أما إذا اشترط الخاطب أن تكون الفتاة بكرا ، فباتت ثيبا ،وكان سبب ثيوبتها ما تقدم ذكره من وثبة أو حدة حيض أو تعنيس أو حمل ثقيل ، لم يكن للزوج حق الرد عند جمهور الفقهاء ؛ لأن البكر عندهم هي التي لم توطأ في عقد نكاح .
وهذه الفتاة التي زالت بكارتها بغير وطء في نكاح يصدق عليها أنها بكر ،وبالتالي لا يكون الطبيب بالرتق قد فوت حقا للزوج ، وإن اشترط البكارة عند الزواج .
نعم ذهب بعض الفقهاء إلى أن للزوج فسخ العقد إذا اشترط أن تكون عذراء ، وهو أخص من شرط البكارة ؛ إذ يعني على التحديد أن يكون غشاء البكارة موجودا ، قالوا : لأن وصف العذرية وصف مرغوب فيه عند الناس ، فإذا اشترطه أخذ بالاعتبار وترتب على تخلفه ثبوت الخيار للزوج في الرد وعدمه ، مثل بقية الأوصاف التي يرغب فيها الناس ، فإن كانت محل اشتراط ، ولم يتحقق ثبت الخيار ، كما لو اشترط أن تكون بيضاء فبانت سوداء ، أو اشترط أن تكون كبيرة أو صغيرة ، أو غير ضعيفة السمع أو البصر ، فإذا هي خلاف ما شرط .
وهذا قول بعض الفقهاء ، ورأى آخرون عدم ثبوت الخيار للزوج مهما اشترط ، إذا لم يتبين فيها عيب من العيوب المحددة التي تستوجب الخيار من غير اشتراط .
وهذه الحالة المحددة التي أعطى فيها بعض الفقهاء للزوج حق الرد لا تنقض ما ذكر من أن رتق الطبيب لبكارة تمزقت بسبب ليس فيه معصية لا يضيع حقا لأحد ، وليس فيه أي نوع من الغش ؛ لأن فعله هذا ليس فيه تدليس على الزوج ؛ حيث لم يفوت عليه الوصف الذي اشترطه ، وإنما كان سببا في تحقيق هذا الوصف في الوقت الذي لم يتستر برتقه البكارة على عمل مشين أو معصية كانت الفتاة قد ارتكبتها ؛ وهو في ذلك كالطبيب الذي تأتيه فتاة فاقدة السمع أو البصر ، فيجري لها عملية تعيد إليها سمعها أو بصرها ، ثم يتقدم لخطبتها شخص ، ويشترط أن تكون مبصرة أو سميعة ، ثم يتبين له بعد ذلك أنها كانت في وقت ما عمياء أو صماء ، فليس له أن يفسخ الزواج بناء على ذلك .
ثانيا : لا شك في أن قيام الطبيب بإصلاح غشاء البكارة الذي تمزق بهذا الصنف من الأسباب لا يترتب عليه أي معنى من معاني التشجيع على فعل الفاحشة ؛ إذا المفترض أن الفتاة لم تقع في فاحشة أصلا ، ولم تعص ربها سبحانه بما وقع عليها رغما عنها . وامتناع الطبيب عن الرتق ليس فيه أي معنى من معاني الزجر عن الوقوع في فاحشة الزنى ؛ لأن الزجر لا يتأتى إلا بالنسبة للعصاة . وقد عرفنا ذلك من تجاوز الشرع عن المكرهين والمضطرين والمخطئين ؛ حيث رفع عنهم المسؤولية والعقاب ؛ لما فيه من ظلم أولا ، ولعدم جدداه ثانيا .
بل إن هذه المفسدة ، وهي تشجيع الفاحشة ، قد تكون أثرا لامتناع الأطباء عن الرتق ، كما أشرنا إليه فيما سبق ؛ لأن الفتاة التي تجد نفسها وقد زال دليل عذريتها ،وأغلقت الأبواب أمام إعادته ، في مجتمعات تؤاخذ على ذلك ، ستكون أقرب إلى مطاوعة الشيطان والوقوع في الفاحشة ، في زمن انتشرت فيه الوسائل الكفيلة بالوقاية من القرينة الأكثر دلالة على تلك الفاحشة وهي الحمل ، مع ملاحظة ما ركب في ابن آدم وبناته من الغريزة الجنسية ، التي لاحظها الشارع في تشجيع الزواج . وهذه الفتاة تخشى من الإقدام على الزواج ، الذي سيكشف عن حالها ، ولا يبقى أمامها سبيل يلبي لها داعي فطرتها ، سوى الاتصال المحرم الذي يمكن ببعض الاحتياط أن يكون مستورا .
ثالثا : وأما مفسدة كشف العورة والنظر إليها فلا شك في وجودها في الرتق مهما كان سبب التمزق .
غير أن الفقهاء أجازوا كشفها والنظر إليها إذا وجدت حاجة أو مصلحة راجحة أو ترتب على الكشف دفع مفسدة أعظم من مفسدته ، يقول العز بن عبد السلام ( كشف العورات والنظر إليها مفسدتان محرمتان على الناظر والمنظور إليه ؛ لما في ذلك من هتك الأستار ويجوزان لما يتضمنه من مصلحة الختان أو المداواة أو الشهادات على العيوب أو النظر إلى فرج الزانين ؛ لإقامة حدود الله ، إن كان الناظر أهلا لشهادة بالزنى وكمل العدد … " .
وبناء على ذلك ، وما دامت المصالح التي سبق ذكرها قائمة ، وما دام تمزق البكارة مظنة قوية لترتب مفاسد تصيب الفتاة والمجتمع ، فإن الحاجة إلى الكشف عن العورة في هذه المسألة جائز ، ولا تقل عن تلك الحاجات التي ذكرها الفقهاء واعتبروها مبررات لكشف العورات والنظر إليها .