بقلم: خالد الحايك
ديث عُبادة بن الصامت – رضي الله عنه – في مبايعة النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث مشهور، وقد رواه عنه: ابنه الوليد بن عبادة، وجُنادة بن أبي أُمية. ·حديث الوليد بن عُبادة بن الصامت:
1) أما حديث الوليد بن عبادة: فرواه مالكٌ في «الموطأ» (2/445) عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بنُ الْوَلِيدِ بنِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ». ورواه الإمام البخاري في «صحيحه»، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس، (6/2633) عن إسماعيل بن أبي أُويس عن مالك، به. ورواه مسلم في «صحيحه» (3/1470) عن أَبي بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، عن عَبْدِاللَّهِ بن إِدْرِيس، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ وَعُبَيْدِاللَّ هِ بنِ عُمَرَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، به. ثم رواه عن ابن نُمَيْرٍ،عن عَبْداللَّهِ بن إِدْرِيس،عن ابن عَجْلان وَعُبَيْداللَّه ِ بن عُمَر وَيَحْيَى بن سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الْوَلِيدِ فِي هَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.ثم رواه عن ابن أَبِي عُمَر، عن عَبْدِالْعَزِيز ِ الدَّرَاوَرْدِي َّ، عَنْ يَزِيدبن الْهَادِ، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الْوَلِيدِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابنِ إِدْرِيسَ. ورواه الإمام أحمد في «مسنده» (5/316) يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، به. ورواه ابن أبي عاصم في «كتاب السنة» (2/494) عن عبدالله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيدالله بن عمر. وعن ابن كاسب، عن عبدالعزيز بن محمد وعبدالعزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن عبدالله بن الهاد. وعن أحمد بن عبدة، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن ابن اسحاق. وعن زياد بن يحيى بن حسان، عن أبي عتاب،عن شعبة، عن سيّار. كلّهم عن عبادة بن الوليد بن عبادة، به. ورواه النسائي في «السنن الكبرى»، كتاب البيعة، باب البيعة على السمع والطاعة، (4/421)عن عيسى بن حماد قال: أنبأنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه: أن عبادة بن الصامت. ثم رواه في (باب البيعة على أن لا ننازع الأمر أهله) عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم،عن مالك، عن يحيى بن سعيد، به. ثم رواه في (باب البيعة على القول بالعدل) عن هارون بن عبدالله، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن عبادة بن الوليد، به.بلفظ: «وعلى أن نقول بالعدل أين كنا لا نخاف في الله لومة لائم». ثم رواه في (باب البيعة على القول بالحق) عن محمد بن يحيى بن أيوب عن عبدالله بن إدريس عن ابن إسحاق ويحيى بن سعيد عن عبادة بن الوليد، به. ثم رواه في (باب البيعة على الأثرة) عن محمد بن الوليد، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سيار ويحيى بن سعيد أنهما سمعا عبادة بن الوليد يُحدِّث عن أبيه - أما سيار فقال: عن أبيه القاضي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما يحيى فقال: عن أبيه عن جدّه – قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا والأثرة عليا وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث كان لا نخاف في الله لومة لائم». قال شعبة :"سيار لم يذكر هذا الحرف «حيث كان»، فذكره يحيى. قال شعبة: إن كنت زدت فيه شيئاً فهو عن سيار أو عن يحيى". ورواه ابن ماجة في «السنن»، كتاب الجهاد، باب البيعة، (2/957) عن علي بن محمد، عن عبدالله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق ويحيى بن سعيد وعبيدالله بن عمر وابن عجلان، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، به. ورواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (7/464) عن عبدالله بن إدريس عن يحيى وعبيدالله وابن إسحاق، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، به. قلت: هكذا رواه: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعُبيدالله بن عمر، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن إسحاق، ويزيد بن عبدالله بن الهاد، وسيّار أبو الحكم، والوليد بن كثير، كلّهم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جدّه عبادة بن الصامت.
هل سمع عبادة بن الوليد هذا الحديث من جدّه مباشرة؟!
2) ورُوي أيضاً عن عبادة بن الوليد عن جدّه عبادة بن الصامت، لم يذكر أباه: رواه الإمام أحمد في «مسنده» (1/192) قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الوَلِيدِ بنِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ: سَمِعَهُ مِنْ جَدِّهِ - وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَعُبَادَةُ نَقِيبٌ وَهُوَ مِنْ السَّبْعَةِ– «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَلا نُنَازِعُ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، نَقُولُ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لانَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ».
قَالَ سُفْيَانُ:"زَادَ بَعْضُ النَّاسِ: مَا لَمْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا".
ورواه الحُميدي في «مسنده» (1/192) عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، مثله، دون ذكر قول سفيان الأخير. ورواه أحمد في «مسنده» (5/319) عن وكيع، عن أسامة بن زيد الليثي، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن جدّه عبادة بن الصامت، به. ورواه النسائي في «السنن الكبرى»، كتاب البيعة، البيعة على السمع والطاعة، (4/421) عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن عبادة بن الصامت. ورواه ابن حبان في «صحيحه» (10/413) عن الحسين بن إدريس الأنصاري، عن أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن يحيى بن سعيد أنه قال: أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت: أنّ عبادة بن الصامت قال، فذكره. قال أبو حاتم ابن حبان:"سمع عبادة بن الوليد عبادة بن الصامت". قلت: كذا جاء في هذه الروايات أن عبادة بن الوليد سمع هذا الحديث من جدّه مباشرة، وكأنه من أجل هذا أثبت ابن حبان هذا السماع بعد تخريجه للرواية!
·عبادة بن الوليد لم يسمع من جدّه عبادة بن الصامت، وأوهام لبعض أهل العلم!
والصواب أن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت لم يسمع من جدّه عبادة بن الصامت، وهذا الاختلاف في الإسناد على يحيى بن سعيد، والصواب من قال: "عن أبيه عن جده". والوليد بن عبادة والد عبادة وُلد في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووالده عبادة توفي سنة (34هـ)، وهذا ينفي سماع عبادة بن الوليد من جدّه. ويؤيد ذلك ما رواه عبادة بن الوليد بن عبادة، قال: حدثني أبي قال: "دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني...".
ومن ذكر أن عبادة بن الوليد له رواية عن جدّه إنما اعتمد بعض هذه الروايات السابقة كالمزي في «تهذيب الكمال»، وابن حجر في «تهذيب التهذيب»، والسيوطي في «إسعاف المبطأ»! وكل ذلك خطأ. وأما ما رُوي عن مالك كما عند ابن حبان، فالصواب عن مالك عن يحيى عن عبادة بن الوليد عن أبيه عن جدّه. قال الحافظ ابن عبدالبر في «التمهيد» (23/271): "هكذا روى هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد جمهور رواته وهو الصحيح منهم: ابن وهب، وابن القاسم، ومعن، وابن بكير، وابن أويس، وغيرهم. وما خالفه عن مالك فليس بشيء، ورواه القعنبي في جامع الموطأ عن مالك عن يحيى عن عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت،ولم يذكر أباه، وتابعه عبدالله بن يوسف، ورواه قتيبة عن مالك عن يحيى عن عبادة بن الوليد: أخبرني أبي قال: بايعنا رسول الله، ولم يذكر عبادة بن الصامت، وتابعه أبو مسهر وأبو مصعب عن محمد بن زريق بن جامع عنه.
3) وقداختلف فيه على يحيى بن سعيد، فرواه بعضهم عنه عن عبادة بن الوليد عن أبيه قال: وبايعنا رسول الله، الحديث، لم يذكر عبادة بن الصامت، وزعم أن البيعة المذكورة في هذا الحديث ليست بيعة العقبة، وأن الوليد بن عبادة له صحبة، وأنه ممكن أن يشاهد هذه البيعة؛ لأنها كانت على الحرب وذلك بالمدينة. ورواه سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن عبادة بن الوليد عن جده عبادة بن الصامت، لم يذكر الوليد بن عبادة، هكذا رواه الحميدي عن ابن عيينة. ورواه أبو إسحاق الفزاري عن يحيى بن سعيد عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه، لم يذكر عبادة بن الوليد، وهذا عندي غلط، والله أعلم. والصحيح فيه إن شاء الله: يحيى بن سعيد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدّه". قلت: نعم، هذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى.
قال الدارقطني في «العلل» (11/244): "مالك وجماعة من الحفاظ ممن رواه عن يحيى بن سعيد رووه: عن يحيى، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب".وأما قول ابن عبدالبر السابق: "ورواه القعنبي في جامع الموطأ عن مالك عن يحيى عن عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت، ولم يذكر أباه"؛ فقد وجدت ما يخالفه وأنه ذكر فيه: "عن أبيه". كذا رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/145) من طريق عثمان بن سعيد الدارمي، قال: حدثنا القعنبي فيما قرأ على مالك، عن يحيى بن سعيد أنه قال: أخبرني عبادة بن الوليد، عن أبيه، عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، الحديث. وأما رواية أحمد عن وكيع، عن أسامة بن زيد الليثي، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن جدّه عبادة بن الصامت؛ فقد أخرجه الشاشي في «مسنده» من طريق زيد بن الحباب عن أسامة بن زيد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدّه. وقد أشار محقق الكتاب إلى أنه في أصل المخطوط قد ضُبِّبَ على قوله: "عن أبيه". قلت: يُحتمل أن المحفوظ عن أسامة بن زيد دون ذكره: "عن أبيه"، فإن صحّ هذا فلا تعمتد روايته في إثبات سماع عبادة بن الوليد عن جدّه عبادة؛ لأن المحفوظ وجود واسطة بينهما، وأسامة بن زيد صدوق يَهِم. ·هل كان الوليد بن عبادة بن الصامت في البيعة؟! وقد روى الإمام أحمد في «المسند» (5/318) عن هاشم بن القاسم وعفّان، قالا: حدثنا محمد بن طلحة، عن الأعمش، عن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المكره والمنشط والعسر واليسر والأثرة علينا وأن نقيم ألسنتنا بالعدل أينما كنا لا نخاف في الله لومه لائم». وسبقت الرواية التي رواها النسائي من طريق سيار ويحيى بن سعيد أنهما سمعا عبادة بن الوليد يُحدِّث عن أبيه - أما سيار فقال: عن أبيه القاضي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أشار ابن عبدالبر إلى صحبة الوليد فيما مضى من كلامه. قال في «الاستيعاب» (4/1552): "الوليد بن عبادة بن الصامت، له صحبة، قاله هشام بن عمار عن حنظلة عن أبي حرزة يعقوب بن مجاهد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: كنت أخرج مع أبي، وكانت له صحبة، فذكر الحديث". وقال ابن حجر في «الإصابة» (6/631): "الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري... وجاءت رواية توهم أن له صحبة، فعند أحمد من طريق سيار عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبادة بن الوليد عن أبيه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، الحديث، وهذا الحديث إنما هو لعبادة والده، فلعل مراده بقوله: عن أبيه عن جده، وقد أخرجه الموطأ والشيخان وأحمد أيضاً والنسائي من طرق عن يحيى بن سعيد وغيره عن عبادة بن الوليد عن أبيه عن عبادة، وأخرج الترمذي من طريق عبدالواحد بن سليم: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح، فقال عطاء: لقيتُ الوليدَ بن عبادةَ بن الصامتِ صاحبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما كانت وصية أبيك عند الموت، ذكر حديثاً، فإن قرئ صاحب بالنصب نعتاً للوليد اقتضى أن يكون صحابياً، وإن قرئ بالجر نعتاً لعبادة فلا إشكال". قلت: لا إشكال أصلاً لأن "صاحب" نعت لعبادة كما هو ظاهر، وقد رواه الترمذي أيضاً في مكان آخر من الطريق نفسها دون هذا النعت (5/424) عن عبدالواحد بن سليم قال: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح، فقلت له: يا أبا محمد، إن أناساً عندنا يقولون في القدر، فقال عطاء: لقيت الوليد بن عبادة بن الصامت قال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد»، وفي الحديث قصة. قال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح غريب". وقال في الحديث الأول: "هذا حديث غريبٌ من هذا الوجه". قلت: فالعجب من الترمذي! حكم بغرابته مطلقاً، ثم حكم بغرابته مع تصحيحه!! وعبدالواحد بن سليم البصري: هالك. قال أحمد:"حديثه حديث منكر، أحاديثه موضوعة". وقال يحيى بن معين ويعقوب بن سفيان: "ضعيف". وقال البخاري: "فيه نظر". وقال النسائي:"ليس بثقة". وقال العقيلي: "مجهول في النقل، وحديثه غير محفوظ، ولا يتابع". وقال الذهبي: "حدّث عنه أبو داود وعلي بن الجعد وسعدويه، له حديث منكرٌ في القدر وخلق القلم، والعجب أن ابن حبان ذكره في الثقات".وللحديث شاهد رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/264)، والطبري في «تفسيره» (29/17)، وأحمد في «مسنده» (5/317)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (6/92) من طريق معاوية بن صالح، عن أيوب بن زياد أبي زيد الحمصي، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه: أنه دخل على عبادة وهو مريض، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول شيء خلق الله القلم، فقال: اجر فجرى تلك الساعة بما هو كائن...». وأبو زيد الحمصي، قال ابن القطان: "لا يُعرف"، وحسّن ابن المديني حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات (لسان الميزان: 1/481). وتبع الشيخ شعيب ورفاقه في تحقيقهم للمسند (37/379) حديث رقم (22705) تبعوا الترمذي فصححوا الحديث. قلت: أبو زيد ليس بالمشهور، وتفرده لا يُحتمل، ولم يتابعه أحد عليه من المقبولين، والحديث منكر، والله أعلم. وأما حديث "محمد بن طلحة، عن الأعمش، عن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه"؛ فمحمد بن طلحة بن مصرف اليامي الكوفي رجل صدوق، وتفرده عن الأعمش يُتوقف فيه؛ لأنه لم يروه عن الأعمش إلا هو!! قال أحمد: "محمد بن طلحة لا بأس به؛ إلا أنه كان لا يكاد يقول في شيء من حديثه حدثنا".
==
الخلاصة: أن حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدّه، لا خلاف فيه. ولا يوجد فيه زيادة: «إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَان».
=
قال أبو زرعة الرازي في عبادة بن الوليد:"هو مدني ثقة"، وقال النسائي:"هو ثقة"، قيل له: كيف أحاديثه عن أبيه عن جدّه؟ قال: "ثقة لا شك فيه".
============================
·حديث جُنادة بن أبي أمية: وأما حديث جُنادة بن أبي أمية: فروي عنه ببعض الزيادات التي لا توجد في حديث الوليد بن عبادة عن أبيه. ·رواية البخاري ومسلم: روى الإمامُ البخاريُّ في «صحيحه»، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «سترون بعدي أموراً تنكرونها»، (6/2588) قال: حدّثنا إسماعيلُ، قال: حدَّثني ابن وهب، عن عَمرو– هو: ابن الحارث -،عن بُكير – هو ابن عبدالله الأشج -، عن بُسْرِ بنِ سعيدٍ، عَنْ جُنَادَةَ بنِ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ حدِّث بِحَدِيثٍ يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «دَعَانَا النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ، فقال فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ». ورواه الإمام مسلمٌ في «صحيحه» (3/1470) عن أحمد بن عبدالرحمن بن وهب بن مسلم عن عمّه عبدالله بن وهب، مثله. ولكن هذه اللفظة منفصلة في آخر الحديث: "قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان". ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/145) من طريق نُعيم بن حماد عنابن وهب، به. وكذلك فصل هذه اللفظة في آخر الحديث: "قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان". فهل "قال" هذه تابعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم أم هي من قول عبادة أم من قول جنادة؟! ورواه الطبراني – كما قال الحافظ في الفتح: 13/8 - من رواية أحمد بن صالح عن ابن وهب، وفيه: «كفراً صُراحاً». وأخرج ابن أبي عاصم في «كتاب السنة» (2/495) حديث عُبادة من طريق آخر بلفظ: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله». ثم رواه عن ابن أخي حزم، قال: حدثنا بشر بن عمر، عن ابن لهيعة، عن بكير بن عبدالله، عن بسر بن سعيد، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. أي بنحو اللفظ السابق، ولم يسق ابن أبي عاصم اللفظ، ولا نبّه إلى اللفظة التي في حديث ابن وهب: «إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»، فالله أعلم هل هي في حديث ابن لهيعة أو لا!! وعليه فيكون عمرو بن الحارث وابن لهيعة روياه عن بكير الأشج عن بسر بن سعيد عن جنادة عن عبادة. وخالفهما محمد بن عجلان فلم يذكر في إسناده: "بُسر بن سعيد"!! ·رواية ابن عجلان عن بُكير: وروى ابن أبي عاصم في «كتاب السنة» (2/494) قال: حدثنا أبو شرحبيل، قال: حدثنا أبو اليمان، عن إسماعيل بن عيّاش، عن محمد بن عجلان، عن بُكير بن عبدالله بن الأشج، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. أي بمثل الذي قبله. قال الشيخ الألباني معلقاً على هذه الرواية: "حديث صحيح، ورجاله ثقات، إلا أن إسماعيل بن عياش قد ضعّف في روايته عن الحجازيين وهذه منها، لكنه قد تابعه عبدالله بن إدريس كما تقدم قبل حديث، لكنه أسقط بكير بن الأشج من السند، وهو المحفوظ عن ابن عجلان، وقد رواه غيره عن بكير كما يأتي في الذي بعده" يعني حديث بكير عن بسر بن سعيد عن جنادة. قلت: متابعة عبدالله بن إدريس التي ذكرها الشيخ قبل هي ما رواه ابن ماجه في «سننه» (2/957) عنه عن محمد بن إسحاق ويحيى بن سعيد وعبيدالله بن عمر وابن عجلان، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن عبادة بن الصامت. وزعم الشيخ أن عبدالله بن إدريس أسقط "بكير بن الأشج" من السند! وهذه دعوى غير صحيحة؛ لأن الشيخ اعتمد على رواية ابن ماجه! ولا مدخل لبكير في هذه الرواية، وهي رواية أخرى لابن عجلان عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، وقد تقدم ذكرها. وابن إدريس لم يسقط "بكير" من الإسناد، فقد روى ابن أبي شيبة في «المصنف» (7/464) قال: حدثنا عبدالله بن إدريس، عن محمد بن عجلان، عن بكير بن عبدالله بن الأشج، قال: قال عبادة بن الصامت لجنادة بن أبي أمية الأنصاري: «تعال حتى أخبرك ماذا لك وماذا عليك: إن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك والأثرة عليك، وأن تقول بلسانك، وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن ترى كفراً براحاً». موقوفاً. قلت: فهذه هي متابعة إسماعيل بن عيّاش. وهنا قد خالف ابن عجلان: عمرو بن الحارث وابن لهيعة، فلم يذكر: "عبدالله بن بسر"، ولفظة: "إلا أن تروا كفراً بواحاً – أو براحاً-" وفي رواية عمرو بن الحارث زيادة: "عندكم من الله فيه برهان". وهنا نرجّح رواية عمرو بن الحارث وابن لهيعة المصريين على رواية ابن عجلان المدني؛ وابن عجلان له بعض الأخطاء، ومما يرجّح به أيضاً أن بكير بن الأشج (مدني نزل مصر قديماً) (ت 120هـ) لا تعرف له رواية عن جنادة بن أبي أمية الشامي (توفي على الراجح سنة 80هـ)، فلا بدّ من واسطة بينهما وهو "بسر بن سعيد المدني". وإن ثبت حديث ابن عجلان وضبطه عن بكير بدون ذكر "بسر بن سعيد"، فيحتمل أن يكون بكيراً أخطأ فيه عندما حدّث به في مصر فزاد فيه بسراً؛ وله أحاديث عنه، فربما وهم فيه، فتكون رواية بكير عن جنادة مرسلة، والله أعلم. وعليه فإن هذا الإسناد تفرد به بكير عن بسر بن سعيد عن جنادة عن عبادة. وأهل مصر رووه عنه بلفظ: «وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ». وأهل المدينة رووه عنه بلفظ: «وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن ترى كفراً براحاً». وبعض هذه الأحاديث رُويت موقوفة على عبادة، أي أن هذا من قول عبادة وليس من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأحاديث المصريين كثير منها أصله مدنيّ، ولهذا نجد أسانيدهم نازلة.ولكن قد خالفهم أهل الشام في لفظه: ·رواية حيّان أبي النضر الأسدي وعُمير بن هانئ عن جُنادة: فروى ابن أبي عاصم في كتاب «السنة» (2/492) عن هشام بن عمّار، قال: حدثنا مُدْرِك بن سعد، قال: سمعت حيّان أبا النضر قال: سمعت جُنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «اسمع وأطع في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثره عليك؛ وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك». ورواه ابن حبان في «صحيحه» (10/425) عن الحسين بن عبدالله بن يزيد القطان عن هشام بن عمار، به. ولفظه: «وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك إلا أن يكون معصية». ورواه أيضاً (10/428) من طريق الهيثم بن خارجة عن مدرك بن سعد الفزاري أبي سعيد، به. ورواه ابن عساكر في «تاريخه» (57/184) من طريق علي بن حجر عن مدرك بن أبي سعد، به. وللحديث قصة رواها ابن عساكر في «تاريخه» (15/374) من طريق أبي علي بن منير: أنَّ محمد بن خريم، قال:حدثنا هشام، قال:حدثنا مدرك بن أبي سعد قال: أتينا يونس بن حلبس عائدين له في بيته، وكان عنده شيخ أكبر منه يُقال له: أبو النضر، اسمه حيان القارئ فقال يونس: يا أبا النضر، الحديث الذي حدثتنا، فقال أبو النضر: حدثني جنادة بن أبي أمية الأزدي عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا عبادة، اسمع وأطع في يسرك وعسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك؛ وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، إلا أن يكون معصية بواحاً».
4) قلت: وهذا الزيادة تفرّد بها مدرك بن سعد، وهو قليل الحديث، وهو مستور الحال وإن وثقه بعض أهل العلم. قال يزيد بن محمد بن عبدالصمد وعثمان الدارمي وأبو حاتم الرازي: "ثقة". وقال أبو حاتم أيضاً وأبو داود: "لا بأس به". وقال أبو زرعة الدمشقي عن أبي مُسهر: "صالح". وقال أيضاً: سألت أبا مسهر عنه؟ فقال: "لا بأس به، يؤخذ من حديثه المعروف". قلت: أبو مسهر عالِم الشام ولم يوثقه التوثيق المعتبَر عند أهل النقد، ومن أطلق التوثيق فيه ليس من أهل الشام العارفين بحديث الرجل، وهو كما ذكرت مستور الحال، ولهذا قال أبو مسهر: "صالح"، أي يُعتبر بحديثه ويُكتب، ويحتاج لمُتابِع، وقال: "يؤخذ من حديثه المعروف"، أي الحديث الذي يُتابع عليه، ويُردّ ما تفرد به. ونحن لا نشك أنه سمع هذا الحديث من أبي النضر بحسب القصة التي ساقها ابن عساكر، ولكنه زاد في الحديث لفظة تفرد بها عن أبي النضر، وغير أبي النضر لا يذكر هذه الزيادة. وقد خالفه في هذا أيضاً سعيد بن عبدالعزيز عن أبي النضر كما سيأتي. روى الإمام أحمد في «المسند» (5/321) عن الوليد بن مسلم، قال: حدثني الأوزاعي، عن عُمير بن هانئ: أنه حدّثه عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله، وإن رأيت أن لك». ثم رواه عن الوليد بن مسلم، قال:حدثنا سعيد بن عبدالعزيز، عن حَيَّان أبي النضر: أنه سمع من جنادة يُحدث عن عبادة، بمثله. قلت: فأشار الإمام أحمد إلى رواية سعيد بن عبدالعزيز التنوخي الدمشقي عن أبي النضر مثل رواية عمير بن هانئ، ليس فيها: «وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك»! فيكون مدرك قد خالف سعيد بن عبدالعزيز، ومخالفته هذه لا يُعتد بها سيما وأن الروايات الأخرى عن جنادة من غير طريق أبي النضر ليس فيها هذه الزيادة كرواية عُمير بن هانئ، وهي رواية صحيحة لا أعرف لها علة.
فرواية عمير بن هانئ عن جنادة ليس فيها: «إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»، كما أنّ رواية المصريين التي أخرجها البخاري ومسلم من حديث جنادة ليس فيها هذه الزيادة: «وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك».
=
·تصحيح الشيخ الألباني لرواية حيّان أبي النضر! قال الشيخ الألباني أثناء تحقيقه لكتاب «السنة» حديث رقم (1026) (2/492) في حديث هشام بن عمار عن مدرك عن حيّان: "حديث صحيح، ورجاله ثقات على ضعف في هشام بن عمّار، فإنه كان يلقن فيتلقن، لكنه توبع... والحديث أخرجه ابن حبان: أخبرنا الحسين بن عبدالله بن يزيد القطان – بالرقة – حدثنا هشام بن عمار، به. ثم أخرجه من طريق الهيثم بن خارجة: حدثنا مدرك بن سعيد الفزاري، به. وتابعه سعيد بن عبدالعزيز عن حيان أبي النضر به. أخرجه أحمد: ثنا الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبدالعزيز. وتابعه بسر بن سعيد عن جنادة به نحوه كما سيأتي برقم (1026). وتابعه جماعة عن عبادة" انتهى.
لت: قد خلط الشيخ بين هذه الروايات، وهو – رحمه الله – لا يعطي أهمية للاختلاف في المتون والزيادات، وهذا عنده كله من باب زيادة الثقة، وهو يقبلها مطلقاً! وهذا خلاف منهج أئمة النقد المتقدمين، فإنهم يقبلون الزيادات بقرائن.
وهذا الاختلاف على جنادة بن أبي أمية في ألفاظ الحديث ليس من هذه البابة التي يقبلها أهل العلم، لأن هذه الزيادات جاءت مخالفة للصحيح من لفظ الحديث، مع ما بيّناه من علل فيما مضى. ·رواية ابن ثوبان عن عُمير بن هانئ وأصل هذه الزيادة: بعد أن خرّج الإمام أحمد رواية الأوزاعي عن عمير بن هانئ السابقة أتبعها برواية الوليد بن مسلم قال: حدثني ابن ثوبان – هو: عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان - عن عمير بن هانئ حدّثه عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال: «ما لم يأمروك بإثم بواحاً». ورواه ابن أبي عاصم في كتاب «السنة» (2/493) عن دُحيم عن الوليد بن مسلم، به. دون الزيادة. وهذه الزيادة ليست في حديث عمير بن هانئ، وإنما حدّثه بها حُضير السّلمي عن عبادة. رواه أيضاً الطبراني في «مسند الشاميين» (1/141) قال: حدثنا محمد بن أبي زرعة الدمشقي، قال:حدثنا هشام بن عمار [ح]. وحدثنا ابن دُحيم، قال: حدثنا أبي، قالا: حدثنا الوليد بن مسلم، قال:حدثنا ابن ثوبان، قال: حدثني عمير بن هانئ، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله، وإن رأيت أنه لك». قال عُمير: فحدثني خضير أو حضير السُّلمي أنه سمع من عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد: «إلا أن يأمرك بإثم بواحاً عندك تأويله من الكتاب». قال خضير أو حُضير: قلت لعبادة، فإن أنا أطعته؟ قال: "يؤخذ بقوائمك فتلقى في النار وليجئ هو فلينقذك". قلت: ذكره البخاري بالحاء المهملة: "حُضير"، وغيره ذكره بالخاء المعجمة "خُضير"، وغيره وصوبه بالخاء المعجمة: الدارقطني وابن عساكر. (تاريخ مدينة دمشق: 16/453). قال البخاري في «التاريخ الكبير» (3/131): "حضير السلمي: سمع كعباً، روى عنه عمير بن هانئ قوله".وقال ابن عساكر في «تاريخه» (16/452): "الخضر، ويقال: خضير بن ربيعة السلمي، روى عن عبادة بن الصامت وكعب بن ماتع الحبر، روى عنه عمير بن هانئ العنسي الداراني، وكان خضير خاصاً بمعاوية، وله دار بدمشق في سوق الخشب". قلت: وهذه الزيادة: «إلا أن يأمرك بإثم بواحاً عندك تأويله من الكتاب» زادها خضير هذا، ولا يعرف عنه أهل العلم إلا هذا الذي ذكرناه، وهذه الزيادة التي زادها على رواية عمير منكرة، ولا تقبل منه؛ لأن حاله غير معروفة، ولو صحّ أنه كان من خواص معاوية كما ذكر ابن عساكر فهذا الذي كنا نخشاه من أن هذه اللفظة هي التي جعلت أهل الشام يطيعون ويسمعون دون مناقشة، وكثيراً ما كان أهل الشام يتفردون بألفاظ منكرة تخدم المصالح السياسية لأمرائهم. وهل الأمر بالإثم لا يعترض عليه إلا إذا كان براحاً أو بواحاً؟!!! فالأصل في المسلم أن لا يفعل المعصية مهما كانت فكيف إذا أُمِرَ بها!! والراجح في هذه الروايات هي رواية هانئ بن عُمير وهو من أصحاب جنادة المقدّمين فيه، ولم يرو هذه الزيادة عنه. وقد ثبت أن هذه الزيادة من حُضير هذا رواها عن عبادة!!
===
·كلام بعض المعاصرين على رواية ابن ثوبان: قال الشيخ الألباني أثناء تحقيقه لكتاب «السنة» لابن أبي عاصم حديث ابن ثوبان رقم (1028) (2/493): "إسناده حسن، رجاله ثقات رجال البخاري غير ابن ثوبان واسمه: عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان، وفيه كلام من قبل حفظه. ولكنه قد توبع كما يأتي". وقال الشيخ شعيب ورفاقه أثناء تحقيقهم لمسند أحمد حديث رقم (22737) (37/404): "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل ابن ثوبان، وقد تابعه الأوزاعي في الرواية السالفة برقم (22735)". قلت: هذه المتابعة ليس فيها هذه اللفظة الزائدة، وقد تبيّن لنا من أين جاءت، وهي ليست في أصل حديث جنادة بن أبي أمية كما بينتها رواية عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان. فإن قيل: ابن ثوبان متكلم فيه وقد تفرد بهذه الحكاية، فماذا نصنع؟ أقول: ابن ثوبان وإن تكلم بعض أهل العلم فيه، إلا أن بعضهم قبله ومشّاه، وهو صدوق في نفسه، ويُكتب حديثه. فإن كان ضبط هذه الحكاية فبها ونعمت، وإن أبى المعارض علينا قبولها، فتبقى هذه الزيادة منكرة في أصل الحديث؛ لأن الوليد بن عبادة لم يرو هذه اللفظة عن أبيه،
وكذلك في بعض الروايات عن جنادة عن عبادة لا توجد هذه اللفظة، وهذا مما يدعم قبول حكاية ابن ثوبان سيما وهي تخدم أمراً سياسياً عند الشاميين، وهذا كان مما أبتلي به أهل الشام، والله أعلم.
رواية الأوزاعي عن جُنادة: روى اللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» (7/1228) من طريق العباس بن الوليد البيروتي قال: حدثنا عقبة بن علقمة البيروتي قال: أخبرني الأوزاعي: حدثني جنادة قال: قال لي عبادة بن الصامت: «عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك أو أثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحاً - يعني خالصاً». قلت: إسناده موقوف. وقد تفرد به العباس بن الوليد عن عقبة عن الأوزاعي. وقد سبق الحديث عن الأوزاعي، رواه الوليد بن مسلم عنه عن عُمير بن هانئ الشامي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت مرفوعاً دون قوله: «إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحاً». وقد تكلّم أهل النقد في تفردات عقبة عن الأوزاعي. قال ابن عدي في «الكامل»(5/280): "عقبة بن علقمة البيروتي، روى عن الأوزاعي ما لم يوافقه عليه أحد من رواية ابنه محمد بن عقبة وغيره عنه". وقال العقيلي في «الضعفاء»(3/354): "عقبة بن علقمة البيروتي عن الأوزاعي، ولا يُتابع عليه". ·رواية مجاهد وأبي قِلابة عن جُنادة: روى عبدالرزاق في «المصنف» (11/331) قال: أخبرنا مَعمر، عن منصور، عن مجاهد، عن جنادة بن أبي أمية: أنَّ عبادة بن الصامت قال له: «ادن حتى أخبرك بمالَك وما عليك، إن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومكرهك ومنشطك والأثرة عليك، وألا تنازع الأمر أهله إلا أن تؤمر بمعصية الله براحاً، فإن أمرت بخلاف ما في كتاب الله فاتبع كتاب الله». قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: قال عبادة بن الصامت لجنادة بن أبي أمية: «يا جنادة ألا أخبرك بالذي لك والذي عليك، إن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وفي الأثرة عليك وأن تدع لسانك بالقول وألا تنازع الأمر أهله إلا أن تؤمر بمعصية الله براحاً، فإن أمرت بخلاف ما في كتاب الله فاتبع كتاب الله». قلت: كذا رواه معمر مرة عن منصور عن مجاهد عن جنادة، ومرة عن أيوب عن أبي قلابة! فهل كلا الإسنادين صحيح أم أنه وَهِم في واحد منهما؟! قلت: مجاهد كان من أصحاب جنادة وكان قد غزا معه، وإسناد منصور صحيح، ورواية أبي قلابة الجرمي هذه كأنها مرسلة، وكان أبو قلابة يرسل يروي عن أناس سمع منهم وأناس عاصرهم ولم يسمع منهم، فيحتمل أن هذا الحديث سمعه من أهل الشام فأرسله، وكان من ثقات أهل البصرة نزل الشام ومات بها، وأوصى بكتبه لأيوب. وترجيح أحد الإسنادين على الآخر صعب جداً!! وإنما أردت الترجيح لأن الإسنادين تفرد بهما مَعمر عن منصور بن المعتمر، والآخر عن أيوب!! وأستبعد أن يكون كلا الإسنادين محفوظ، والله أعلم.. فإن رجحنا رواية منصور عن مجاهد فهي رواية صحيحة، وإن رجحنا رواية أبي قلابة فهي مرسلة، وإن قبلنا كلا الروايتين فحينها نقبل هذه الرواية المرسلة لأن أصلها صحيح من رواية مجاهد، والقلب أميل إلى أن الصواب هي الرواية المرسلة لأن أصلها من الشام، والله أعلم. وعلى كل حال، فإن كانت كلا الروايتين محفوظتين فإن فيهما زيادة: «إلا أن تؤمر بمعصية الله براحاً، فإن أمرت بخلاف ما في كتاب الله فاتبع كتاب الله». وقد روى البزار في «مسنده» (7/143) من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله: «عليك بالطاعة في عسرك ويسرك وأثره عليك وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بالكفر صراحاً». قال البزار: "وقال غير يحيى: «أن يأمروك بمعصية الله». ولا نعلم روى يحيى بن أبي كثير عن جنادة غير هذا الحديث، وقد روي هذا الكلام عن عبادة من وجوه كثيرة". قلت: يُحتمل أن حديث يحيى هذا أخذه من كتب أبي قلابة؛ لأن بعضهم قال بأنه كتب أبي قلابة وقعت له، وإن أنكر أحمد هذا، وهو لا يُعرف بالرواية عن جنادة إلا في هذا الحديث، ويحيى كان يدلس، فالأظهر أنه أخذه عن بعضهم فدلّسه، والله أعلم. ·رواية مرسلة لقتادة عن عبادة: روى ابن أبي حاتم في «تفسيره» قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى, قال: أنبأ الْعَبَّاسُ بنُ الْوَلِيدِ, قال: حدثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ, قال: حدثنا سَعِيدٌ, عَنْ قَتَادَةَ, قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}, وقدْ ذُكِرَ: "أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ كَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا أَحَدَ نُقَبَاءِ الأَنْصَارِ, وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لا يَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَى ابْنَ أُخْتِهِ جُنَادَةَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ, فَقَالَ: أَلا أُنَبِّئُكَ مَاذَا عَلَيْكَ وَمَاذَا لَكَ؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ, وَيُسْرِكَ, وَمَنْشَطِكَ, وَمَكْرَهِكَ, وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ, وَعَلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ لِسَانَكَ بِالْعَدْلِ, وَأَنْ لا تُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ يَأْمُرُوكَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ بَوَاحًا, فَمَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَاتَّبِعْ كِتَابَ اللَّهِ".
قلت: كثير من الزيادات المنكرة التي لا تصح في الأحاديث المسندة تكون في مثل هذه المراسيل، ومن هذه المراسيل تدخل على بعض الأسانيد الصحيحة.
الخلاصة أن الرواية عن جُنادة بن أبي أمية عن عبادة فيها خلاف في ألفاظها: فرواية بُكير الأشج عن بسر بن سعيد عن جنادة عن عبادة: رواها عنه أهل مصر بلفظ: «وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ؛ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ». ورواها أهل المدينة بلفظ: «وأن لا تنازع الأمر أهله؛ إلا أن ترى كفراً براحاً». وخالفهم أهل الشام في لفظها: فرواها حيّان أبو النّضر عن جنادة عن عبادة بلفظ: «وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك». ورواها عُمير بن هانئ عن جنادة عن عبادة بلفظ: «ولا تنازع الأمر أهله؛ وإن رأيت أن لك». ورواها مجاهد عن جنادة عن عبادة بلفظ: «وألا تنازع الأمر أهله؛ إلا أن تؤمر بمعصية الله براحاً، فإن أمرت بخلاف ما في كتاب الله فاتبع كتاب الله». ورواها يحيى بن أبي كثير عن جنادة عن عبادة بلفظ: «وأن لا تنازع الأمر أهله؛ إلا أن يأمروك بالكفر صراحاً». قلت: رواية أهل الشام أولى بجنادة بن أمية؛ لأنه شامي، سيما وأن رواية أهل الشام تناقض رواية المصريين والمدنيين؛ فهؤلاء جعلوا رؤية هذا الأمر (الكفر أو المعصية) متعلق بالرعية، أي إذا رأى الرعية منه كفراً بواحاً! وأما روايات أهل الشام فجعلوها متعلقة بولي الأمر، أي إذا أمرك ولي الأمر بفعل معصية لله!! وقد يفهم البعض أنه لا خلاف بين اللفظين؛ لأن كل ذلك يرجع إلى ولي الأمر، سواءً ما يُرى منه أم ما يأمر به، وفيه نظر، سيما إذا استطعنا ترجيح لفظ على آخر بالأدلة. والذي يترجّح على قواعد الأئمة النقاد روايات أهل الشام، وقد بينت العلل في ألفاظها، والصواب ما جاء فيها موافق لرواية الوليد بن عبادة عن أبيه، وأقربها رواية عمير بن هانئ عن جنادة عن عبادة.
وترجيحنا لرواية أهل الشام على غيرها لا يعني تصحيحها، كيف ذلك، وهي منكرة! فلا تصح أي زيادة على حديث الوليد بن عبادة؛ لأن هذه الزيادات منكرة وهي تخدم الحالة السياسية التي كانت سائدة في الشام. ولهذا لم تظهر هذه الزيادة إلا في تلك الأوقات، وإلا فقد حصل هناك اقتتال كثير على الخلافة بعد وفاة عبادة بن الصامت صاحب هذا الحديث الذي توفي سنة (34هـ)،
وكانت بداية الفتن بعد مقتل عثمان – رضي الله عنه – الذي قتل سنة (35هـ)، وصار اقتتال بعد ذلك بين علي – رضي الله عنه – والخوارج، ولم يعرف الناس هذه الزيادة في تلك المرحلة، وإنما ظهرت وأمثالها في أيام معاوية وما بعدها. فيبقى الحديث الصحيح دون زيادة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تنازع الأمر أهله»، أي عدم منازعته صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر،
ولا يتفق ذكر «الكفر البواح» مع شروط البيعة إذ المُبايَع هو النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يخرج منه الكفر!!! فهم يبايعونه على السمع والطاعة وأن لا ينازعوه في الأمر، فكيف يقول: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان»!!! وهل يخرج الكفر ممن جاء يحاربه ويدعو للتوحيد!!
والزيادة التي في حديث ابن وهب: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» قد بينا فيما مضى أنها جاءت في الرواية مفصولة عن الحديث كما هو في حديث الوليد بن عبادة، وهذا يؤيد أنها ليست في أصل حديث جنادة، والله أعلم. وعبادة بن الصامت – رضي الله عنه - شهد البيعتين بالعقبة الأولى والثانية، فالبيعة الأولى بالعقبة، بايعهم النبي صلى الله عليه وسلم بيعة النساء إلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن يقولوا بالحق لا تأخذهم لومة لائم، وأن لا ينازعوا الأمر أهله، والبيعة الثانية بالعقبة على حرب الأحمر والأسود، وضمن لهم بالوفاء بذلك الجنة. وفي النفس من أن الذي حدث في رواية بكير أنه قد يكون حصل تحريف في كتابه، فأصل الرواية عند الشاميين: "تؤمروا" أو "تؤمر"، فيحتمل أن هذه تحرّفت إلى: "تروا" أو "ترى"، والله أعلم. وهذه الزيادة في هذا الحديث من الوهم في روايات الأمصار! فإن كانت محفوظة في حديث المصريين والمدنيين فالأقرب أنها من قول عبادة ليست مرفوعة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظ الشاميين أقرب للصواب، فيكون عبادة أوصى جنادة بما عليه من السمع والطاعة إلا إذا أُمر بمعصية أو كفر براح مخالف لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة أنه لا طاعة في معصية. وهذه الزيادة المختلف فيها لا توجد في حديث الوليد بن عبادة عن أبيه، ولا يوجد خلاف في حديثه، وعنده: «... وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ». فهذا النّص هو الصواب، وكأن ما جاء في الرواية عن جنادة تحريف لهذا النص! ولهذا اختلفوا فيه، ومن هنا أشار سفيان إلى أن بعضهم زاد «مَا لَمْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا» دون تعيينه! كما سيأتي. فقول الحقّ كان من شروط البيعة، وهذه الزيادة لا تتفق مع ذلك إذ قول الحقّ يكون عند الكفر البواح وغيره، ولا يقتصر على الكفر فقط!
·إشارة سفيان بن عيينة إلى ضعف هذه الزيادة:
وقد مر معنا عند الحديث عن حديث عبادة بن الوليد، رواية ابن عيينة التي أخرجها الإمام أحمد في «مسنده» (1/192) قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الْوَلِيدِ بنِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ: سَمِعَهُ مِنْ جَدِّهِ - وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَعُبَادَةُ نَقِيبٌ وَهُوَ مِنْ السَّبْعَةِ– «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي العُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَلا نُنَازِعُ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، نَقُولُ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لانَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ». قَالَ سُفْيَانُ:"زَادَ بَعْضُ النَّاسِ: مَا لَمْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا".قلت: فقول سفيان هذا إشارة إلى تضعيفه لهذه الزيادة، فهو يعرف أن بعض أهل المدينة رووا هذه الزيادة في حديث بكير بن الأشج، فأشار – رحمه الله – إلى تعليلها؛ لأن المحفوظ هو ما في حديث عبادة بن الوليد
·كيف يُخرِّج البخاري ومسلم بعض الزيادات المنكرة؟!
وقد يُقال: كيف تضعف رواية أخرجها البخاري ومسلم وقد اتفقا عليها؟ فأقول: لقد اجتهد الإمام البخاري – رحمه الله – فأخرجها؛ لأن الحديث مشهور ومعروف، وهو عادة يُخرِّج الحديث الذي يوافق تبويبه وإن كان فيه بعض الألفاظ التي لا تؤثر في استدلاله، وهي شاذة عند غيره، والله أعلم. وأما الإمام مسلم فإنه ساق أولاً عدة روايات من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبي عن جدّه، ثم ساق رواية بكير التي فيها الزيادة متابعة لأصل الروايات التي ساقها في الأصول، وهي رواية صحيحة لا شك، ولكن الزيادة منكرة، فربما أراد – رحمه الله – أن يبين أن هناك زيادة في حديث جنادة على حديث الوليد بن عبادة، والله أعلم.
تقييد السمع والطاعة بالحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
وبعد؛ فلا أدري كيف أخذ العلماء – رحمهم الله – هذه الزيادات في هذه الأحاديث وجعلوها مسلّمة وبنوا عليها بنياناً هشّاً ضعيفاً أوهى من بيت العنكبوت، فحاربوا كلّ من لم يحتج بها، وما درى هؤلاء أنهم دخلوا في باب الإرجاء الذي سوّغ لمن ولي أمراً من أمور هذه الأمة فعل الأفاعيل دون الاعتراض عليهم؛ لأن عندهم هذا الحديث وأمثاله الذي يوجب عليهم الطاعة ولو فعلوا الأفاعيل، ولو أخذوا الأموال وجلدوا الظهور!! وما زال الأدعياء أفراخ هؤلاء يقفون في وجه كل من عارضهم، وينسبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً، وهو لم يقله ولم يتفوه به بأبي هو وأمي. ويجب أن نتنبه إلى مسألة مهمة وهي «الألفاظ التي تأتي في بعض الأحاديث» كـ «الأمير» و«الإمارة» و«الأمراء» و«الاستعمال» وغير ذلك كألفاظ «الجور» وما يشتق منه، فإن هذه الألفاظ يجب أن تحرر وتوضع في مكانها المناسب من خلال النص النبوي، بحيث لا تعمم هذه الألفاظ الواردة في بعض الأحاديث في مسائل خاصة، وتسحب على كل زمان ومكان. وكذلك التوسع في مسألة المفاسد والمصالح والمآلات عند بعض أهل العلم، فإن التوسع فيها يؤدي إلى نتائج عكسية وجنايات على النصوص النبوية.
=
وما جاءنا البلاء إلا من بعض الشروحات المتأخرة التي بدأت في عصرٍ سيطر فيه مذهب المتكلمين على عقل الأمة فدمره فتأخرنا وتخلفنا عن ركب التقدم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا لا يعني أننا نرفض هذه الشروح برمتها، بل ننبه إلى أنه دخلها ما دخلها بسبب تعاطي علم الكلام وتسلّط الأمراء. ومع ذلك فإن كثيراً من طلبة العلم عندما يستشهدون بأقوال هؤلاء الشرّاح إنما يأخذون منه ما يؤيد مذاهبهم دون النظر في مجمل كلامهم. وليعلم أنه لا بدّ من وجود خليفة للمسلمين ويجب طاعته ما دام يحكم الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا طاعة لهم في معصية الله ومخالفة الكتاب والسنة، وعلى هذا إجماع الأمة. ولا يجوز الخروج على ولي الأمر الذي وصل إلى الحكم بطريق شرعيّ ما دام يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو جار في بعض الأمور، وعلى هذا تُحمل الأحاديث في السمع والطاعة. والأمة منذ عصر الخلفاء الراشدين ومن بعدهم كانوا يحكمون بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن تخلل ذلك بعض المخالفات من بعضهم، ولكن كان الدستور هو كتاب الله لا محيد عنه. أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبدالله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: «ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل»، قال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه، قال: «دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثم يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ في نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قد سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ آيَتُهُمْ رَجُلٌإحدى يديه - أو قال: ثدييه - مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أو قال: مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَتَدَرْدَرُ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: "فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَوُجِدَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَ". قال الحافظ في «الفتح» (12/301): "وفيه جواز قتال من خرج عنطاعة الإمام العادل، ومن نصب الحرب فقاتل على اعتقاد فاسد، ومن خرج يقطع الطرق ويخيف السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، وأما من خرج عن طاعة إمام جائرأراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور؛ ولا يحل قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته... وقد أخرج الطبري بسندٍ صحيحٍ عن عبدالله بن الحارث عن رجلٍ من بني نضر عن علي - وذكر الخوارج – فقال: إن خالفوا إماماً عدلاً فقاتلوهم، وإن خالفوا إماماً جائراً فلا تقاتلوهم؛ فإن لهم مقالاً. قلت: وعلى ذلك يُحمل ما وقع للحسين بن عليّ ثم لأهل المدينة في الحرة ثم لعبدالله بن الزبير ثم للقرّاء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث، والله أعلم". قلت: لم يتعرض عليّ – رضي الله عنه –، ولا ابن حجر ولا غيرهما لمسألة الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا لو أن الحاكم لم يحكم بهما فهذا أمره معروف أنه يجب أن يقاتل، وهذا لم يكن ببالهم أصلاً، ولو أنه حصل أو خطر ببالهم لما تأخروا في القول بوجوب الخروج عليه. والنظر إلى الحجاج من باب أنه كان جائراً لا أنه كان كافراً، وإن كفره بعض أهل العلم، ولكن الأمر تعلّق بجوره لا بتحكيمه لكتاب الله أم لا! فإذا كان الخروج على الإمام الجائر الذي يتخذ القرآن دستوراً ويحكم به عمّاله في الأمصار جائز عند السلف، فكيف بمن عطّل شرع الله، وحيّد القرآن والسنة، وقدّم عليهما القوانين البشرية؟!!
وقد يظن البعض بأن تضعيفنا لهذه الزيادة يعني أن الخروج على الحاكم لا يجوز البتة؛ لأن الخروج بحسبها مقيّد بظهور الكفر البواح منه، وبتضعيف هذه اللفظة، فلا يجوز الخروج أبداً!! وهذا فهم سقيم عقيم! لأن التعامل مع الحديث يجب أن يكون بمجموع الروايات كلها، وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن السمع والطاعة للحاكم منوط بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما حصل من خروج من السلف على بعض الأمراء إنما كان من أجل الظلم والجور، لا من أجل عدم تحكيم كتاب الله، وهذا يدعم ما ذهبنا إليه من ضعف هذه الزيادة؛ لأنها لو صحت ما كان ينبغي لهؤلاء الذين خرجوا أن يخرجوا لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الخروج الذي تضمنته هذه الزيادة لن يحصل أبداً لوجود التأويل الذي يختلف فيه أهل العلم، وقد نصت الزيادة على أن يكون الكفر صريحاً!! وهذا لن يكون مع انتشار مذهب المرجئة الخبيث!!
شرح ابن حجر لحديث عُبادة واعتماده على شرح من قبله، ومناقشته وغيره فيه. قال الحافظ في «الفتح» (13/8): "قوله: (عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَة): أَيْ لَهُ. (فِي مَنْشَطِنَا): بِفَتْحِ الْمِيم وَالْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون بَيْنَهُمَا. (وَمَكْرَهِنَا) أَيْ فِي حَالَة نَشَاطنَا وَفِي الْحَالَة الَّتِي نَكُون فِيهَا عَاجِزِينَ عَنْ الْعَمَل بِمَا نُؤْمَر بِهِ. وَنَقَلَ اِبْن التِّين عَنْ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْمُرَاد الْأَشْيَاء الَّتِي يَكْرَهُونَهَا، قَالَ اِبْن التِّين: وَالظَّاهِر أَنَّهُ أَرَادَ فِي وَقْت الْكَسَل وَالْمَشَقَّة فِي الْخُرُوج لِيُطَابِقَ قَوْله مَنْشَطنَا. قُلْت: وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عُبَيْد بْن رِفَاعَة عَنْ عُبَادَةَ عِنْدَ أَحْمَد "فِي النَّشَاط وَالْكَسَل". قَوْله: (وَعُسْرنَا وَيُسْرنَا) فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيلَ بْن عُبَيْد: "وَعَلَى النَّفَقَة فِي الْعُسْر وَالْيُسْرِ"، وَزَادَ: "وَعَلَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَرِ". قَوْله: (وَأَثَرَة عَلَيْنَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْمُثَلَّثَة ، وَالْمُرَاد أَنَّ طَوَاعِيَتهمْ لِمَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ لَا تَتَوَقَّف عَلَى إِيصَالهمْ حُقُوقهمْ بَلْ عَلَيْهِمْ الطَّاعَة وَلَوْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ. قَوْله: (وَأَنْ لا نُنَازِع الْأَمْر أَهْله) أَيْ الْمُلْك وَالْإِمَارَة، زَادَ أَحْمَد مِنْ طَرِيق عُمَيْر بْن هَانِئ عَنْ جُنَادَةَ: "وَإِنْ رَأَيْت أَنَّ لَك" - أَيْ وَإِنْ اِعْتَقَدْت أَنَّ لَك - فِي الْأَمْر حَقًّا فَلَا تَعْمَل بِذَلِكَ الظَّنّ بَلْ اِسْمَعْ وَأَطِعْ إِلَى أَنْ يَصِل إِلَيْك بِغَيْرِ خُرُوج عَنْ الطَّاعَة، زَادَ فِي رِوَايَة حِبَّان أَبِي النَّضْر عَنْ جُنَادَةَ عِنْدَ اِبْن حِبَّانَ وَأَحْمَد: "وَإِنْ أَكَلُوا مَالَك وَضَرَبُوا ظَهْرَك"، وَزَادَ فِي رِوَايَة الْوَلِيد بْن عُبَادَةَ عَنْ أَبِيهِ: "وَأَنْ نَقُوم بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَاف فِي اللَّه لَوْمَة لَائِم". قَوْله: (إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا) بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَة. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: "مَعْنَى قَوْله بَوَاحًا يُرِيد ظَاهِرًا بَادِيًا مِنْ قَوْلهمْ بَاحَ بِالشَّيْءِ يَبُوح بِهِ بَوْحًا وَبَوَاحًا إِذَا أَذَاعَهُ وَأَظْهَرَهُ"، وَأَنْكَرَ ثَابِت فِي الدَّلَائِل بَوَاحًا وَقَالَ: إِنَّمَا يَجُوز بَوْحًا بِسُكُونِ الْوَاو وَبُؤَاحًا بِضَمِّ أَوَّله ثُمَّ هَمْزَة مَمْدُودَة، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَنْ رَوَاهُ بِالرَّاءِ فَهُوَ قَرِيب مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَصْل الْبَرَاح الْأَرْض الْقَفْرَاء الَّتِي لَا أَنِيس فِيهَا وَلَا بِنَاء، وَقِيلَ الْبَرَاح الْبَيَان يُقَال بَرَحَ الْخَفَاء إِذَا ظَهَرَ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ مِنْ مُسْلِم بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضهَا بِالرَّاءِ. قُلْت: وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَة أَحْمَد بْن صَالِح عَنْ اِبن وَهْب فِي هَذَا الْحَدِيث "كُفْرًا صُرَاحًا"، بِصَادٍ مُهْمَلَة مَضْمُومَة ثُمَّ رَاء، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة حِبَّان أَبِي النَّضْر الْمَذْكُورَة: "إِلَّا أَنْ يَكُون مَعْصِيَة لِلَّهِ بَوَاحًا"، وَعِنْدَ أَحْمَد مِنْ طَرِيق عُمَيْر بْن هَانِئ عَنْ جُنَادَةَ: "مَا لَمْ يَأْمُرُوك بِإِثْمٍ بَوَاحًا"، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن عُبَيْد عِنْدَ أَحْمَد وَالطَّبَرَانِي ِّ وَالْحَاكِم مِنْ رِوَايَته عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَادَةَ: "سَيَلِي أُمُوركُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَال يُعَرِّفُونَكُم ْ مَا تُنْكِرُونَ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَة لِمَنْ عَصَى اللَّه"، وَعِنْدَ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيق أَزْهَر بن عَبْداللَّه عَنْ عُبَادَةَ رَفَعَهُ: "سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاء يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا تُنْكِرُونَ فَلَيْسَ لِأُولَئِكَ عَلَيْكُمْ طَاعَة". قَوْله: (عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّه فِيهِ بُرْهَان) أَيْ نَصّ آيَة أَوْ خَبَر صَحِيح لا يَحْتَمِل التَّأْوِيل، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لا يَجُوز الْخُرُوج عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلهمْ يَحْتَمِل التَّأْوِيل، قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَة، وَمَعْنَى الْحَدِيث: لا تُنَازِعُوا وُلاة الْأُمُور فِي وِلايَتهمْ وَلا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الإسْلام؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ اِنْتَهَى. وَقَالَ غَيْره: الْمُرَاد بِالْإِثْمِ هُنَا الْمَعْصِيَة وَالْكُفْر، فَلَا يُعْتَرَض عَلَى السُّلْطَان إِلَّا إِذَا وَقَعَ فِي الْكُفْر الظَّاهِر، وَاَلَّذِي يَظْهَر حَمْل رِوَايَة الْكُفْر عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْمُنَازَعَة فِي الْوِلايَة فَلا يُنَازِعهُ بِمَا يَقْدَح فِي الْوِلَايَة إِلَّا إِذَا اِرْتَكَبَ الْكُفْر، وَحَمْل رِوَايَة الْمَعْصِيَة عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْمُنَازَعَة فِيمَا عَدَا الْوِلَايَة، فَإِذَا لَمْ يَقْدَح فِي الْوِلَايَة نَازَعَهُ فِي الْمَعْصِيَة بِأَنْ يُنْكِر عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَيَتَوَصَّل إِلَى تَثْبِيت الْحَقّ لَهُ بِغَيْرِ عُنْف، وَمَحَلّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَادِرًا، وَاَللَّه أَعْلَم. وَنَقَلَ اِبن التِّين عَنْ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاء فِي أُمَرَاء الْجَوْر أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى خَلْعه بِغَيْرِ فِتْنَة وَلَا ظُلْم وَجَبَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِب الصَّبْر. وَعَنْ بَعْضهمْ: لا يَجُوز عَقْد الْوِلَايَة لِفَاسِقٍ اِبْتِدَاء، فَإِنْ أَحْدَثَ جَوْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَاز الْخُرُوج عَلَيْهِ، وَالصَّحِيح الْمَنْع إِلا أَنْ يُكَفِّر فَيُجِبْ الْخُرُوج عَلَيْهِ" انتهى. قلت: هكذا شرح الحديث ابن حجر ونقل كلام أهل العلم المتأخرين فيه، ولم يفرّق بين الاختلاف في ألفاظه، ولم يُرجّح! وهذا هو منهج الشروحات المتأخرة، والسلف لم يكن عندهم شروحات هكذا، بل لم يصنّفوا في ذلك، وأقدم من شرح كتاب البخاري هو الإمام الخطابي، ولكن شرحه كان مختصراً جداً. ومن بعد ابن حجر اعتمد كتاب «الفتح» كالشوكاني في «نيل الأوطار». وقال ابن بطّال في «شرحه على البخاري»: "في هذه الأحاديث حجة فى ترك الخروج على أئمة الجور، ولزوم السمع والطاعة لهم، والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «سترون بعدي أثرةً وأمورًا تنكروها»، فوصف أنهم سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها، وأمرهم بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور، وذكر علي بن معبد، عن علي بن أبي طالب أنه قال: لا بد من إمامة برة أو فاجرة. قيل له: البرة لابد منها، فما بال الفاجرة؟ قال: تقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويقسم بها الفئ، ويجاهد بها العدو. ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: «من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهليةً». وفي حديث عبادة: « بايعنا رسول الله على السمع والطاعة» إلى قوله: «وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا» فدل هذا كله على ترك الخروج على الأئمة، وألا يشق عصا المسلمين، وألا يتسبب إلى سفك الدماء وهتك الحريم، إلا أن يكفر الإمام ويظهر خلاف دعوة الإسلام، فلا طاعة لمخلوق عليه". قلت: أما مسـألة الإمام المتغلّب فليس هذا مكان نقاشها، وأما ما ذكره من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «سترون بعدي أثرةً وأمورًا تنكروها» فهذا قد حصل – والخطاب كان موجهاً للأنصار – ومع هذا فكان الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان الجهاد قائماً، وأما قوله الأخير بمنع الخروج مطلقاً إلا إذا أظهر الإمام خلاف دعوة الإسلام فهذا لن يحصل بوجود التأويل الذي ذكرناه قبل!! وقال النووي في «شرحه على كتاب مسلم»: "وَمَعْنَى الْحَدِيث: لَا تُنَازِعُوا وُلَاة الْأُمُور فِي وِلَايَتهمْ، وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ، وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ، وَأَمَّا الْخُرُوج عَلَيْهِمْ وَقِتَالهمْ فَحَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَة ظَالِمِينَ.وَقَ