هما لفظان بينهما اشتراك في المعنى وافتراق
فالتوبة هي الرجوع والانابة الى الله (من تاب أي رجع وآب) وتكون بالقلب و قد تكون باللسان
فهي عامة من هذا الوجه
وتكون بعد ارتكاب المعاصي بتركها والانتهاء عنها وهذا الأغلب وهذا واجب على كل مسلم بلا استثناء .
وقد يكون الرجوع الى الله بفعل الطاعات , والترقي في أحوال الايمان بالأعمال الصالحة والقربات
و الناس مختلفون ومتفاوتون في هذه التوبة
فالأنبياء هم أعظم نصيبا منها ثم الأمثل فالأمثل
قال تعالى في سورة التوبة (( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار))
والله تعالى هو الذي ابتدأ عباده بالتوبة فوفقهم اليها و هداهم الى طريقها وهو المبادر عباده بالاحسان والتفضل والانعام فذكرهم قبل أن يذكروه واجتباهم فعرفوه وتابوا ورجعوا وآبوا اليه , كل حسب منزلته ودرجته
والنبي عليه الصلاة و السلام هو أعلاهم منزلة و أسناهم مرتبة , وتوبته الى الله لا يعلم حقيقتها الا هو , فهو كل حين أواب ((نعم العبد انه أواب))
لا يغفل طرفة عين عن ذكر الواحد التواب , لذلك قال لعائشة رضي الله عنها : تنام عيني ولا ينام قلبي .
فقلبه دائما سابح في أحوال الترقي والتقرب
والصحابة الأخيار أيضا يحتاجون الى التوبة كما لا تستغني أبدانهم عن الطعام والشراب
فقد تابوا الى الله تعالى بعد أن قدموا هذا العمل العظيم حين خرجوا مع النبي الكريم عليه السلام في غزوة تبوك لكن تخلف عنها ثلاثة منهم فوجب في حقهم توبة خاصة يصحبها ندم كبير وحزن عميق أن تخلفوا عن أصحابهم وخالفوا أمر برهم .
فهده توبة خاصة ليست كتوبة أصحابهم العامة , والأولى عن معصية والثانية انتقال من أحوال الكمال الى أكمل منها ومسارعة الى فعل الطاعات والتزلف بالقربات
أما الاستغفار فهو مأخوذ من الستر والغطاء ومن ذلك المغفر الذي يوضع و يغطي الرأس
وهو خاص باللسان بطلب الستر والعفو من الرحمن
وهل هو خاص بارتكاب الذنوب أو عام في كل عمل ؟
أما من الذنوب فهذا واجب على كل مسلم وحتى الأنبياء قد يقع ذلك منهم فيستغفرون كما وقع لآدم عليه السلام ثم يتوبون
وهنا يطهر الفرق بينهما
فالتوبة تسبق من حيث تعلقها بالله تعالى فهو الذي يبدؤك فيتوب عليك (ولا يقال يستغفر عليك ) لذلك قال في الثلاثة الذين خلفوا ( تاب عليهم ليتوبوا)
وقال أيضا (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)
والاستغفار هو السابق من حيث تعلقه بالعبد فيقوله بلسانه ويعترف بخطيئته ثم يتوب الى الله ويرجع اليه بقلبه وبدنه كله
وفي الدعاء المشهور في الركوع والسجود («سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ»
وكذا في دعاء كفارة المجلس
وفي الصحيحين عن أبي هريرة سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»
وأصرح من هذا ما رواه أحمد وغيره وقال عنه الترمدي حسن صحيح
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ يَقُولُ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ "
فبدأ بالاستغفار تم أتبعه بالتوبة من حيث تعلقه بالعبد
والعكس بالنسبة الى الله تعالى فانه يتوب عليك ثم يغفر لك
والأستغفار أيضا كالتوبة يكون بعد المعاصي وبعد الأعمال الصالحة
لأن العبد مهما قدم من عمل صالح فلا بد أن يعتريه النقص ويدخل عليه التفريط أو يكون فيه خلل من حيث الاخلاص أو مخالف في ظاهره لهدي النبي عليه السلام
وقد يشتغل بعمل صالح ولكن انشغل به عن عمل خير منه وأكمل ولهذا كان النبي عليه السلام يستغفر في كل مجلس وفي كل يوم سبعين مرة أو أكثر مع أنه لم يذنب
فلأجل كل هذا ينبغي للعبد أن يعقب عمله بطلب المغفرة من الله تعالى لذلك شرع الاستغفار بعد انقضاء العبادات وفي المواقف العظيمة
فبعد الصلاة يستغفر العبد ثلاث مرات
وفي الحج قال تعالى ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله))
وفي الصيام علم النبي عليه السلام عائشة ان هي أدركت ليلة القدر وهي في العشر الأواخر أن تطلب العفو وهذا مما تقدم من تقصير في الصيام أو القيام ومن الذنوب جميعا
أما الزكاة والصدقة فلا تحتاج الى الاستغفار لأنها هي ذاتها طهرة من الذنوب وزكاة للنفس
وعباد الله تعالى المحسنين يختمون أعمالهم كل يوم وليلة بالاستغفار بالأسحار, وهذا الوقت يتقرب اليهم العلي الغفار وينزل الى سماء الدنيا في آخر كل ليلة فيتقربون اليه بالصلاة والسجود فيستغفرونه على كل ما تقدم من عمل (وبالأسحار هم يستغفرون )
وقال أيضا في عباده الذين حققوا أعلى صفات العبودية ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار)) فبعد كل هذه الأعمال الصالحة يستغفرون مولاهم سرا في ظلمة الليل
وقال امام الحنفاء وهو أعلى شيء يرجوه في الموقف العظيم
( والذي أطمع أن يفغر لي خطيئتي يوم الدين ))
وفي نفس السورة قال قبله السحرة بعد أن آمنوا بالله وكفروا بفرعون وما زادهم وعيده الا ايمانا وتسليما
(( انا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين))
فهذا كل ما يطمعون فيه وهذا كل ما يرجون
وقال المجاهدون في سبيل الله بعد أن قتل أنبياؤهم في المعركة (( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ))
وقد حدث للصحابة ما حدث يوم أحد بعد أن سمعوا أن النبي عليه السلام قد قتل , فقص الله عليهم قصة السابقين الأولين الذين لم يكن قولهم الا أن استغفروا من ذنوبهم و واعترفوا بالاسراف في أمورهم
وسألوا الثباث والنصر على عدوهم .
فان كان مثل هؤلاء يقولون مثل هذا مع ما قدموا فماذا نقول نحن بعد الذي قدمنا ؟
اللهم تب علينا ووفقنا الى التوبة النصوح انك أنت التواب الرحيم
والحاصل أن التوبة أكثر تعلقها بالقلب وتكون بعد عمل السيئات وأيضا تكون في كل وقت
والاستغفار يكون باللسان بعد عمل السيئات وأيضا بعد كل عمل
وبقي فرق أخير بينهما وهو أن الاستغفار يكون من العبد نفسه وقد يكون من غيره فيستغفر له
(فاستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات))
وقد يلحقه أيضا الاستغفار بعد موته من ولده أو من غيره ممن يدعون له بذلك
والله أعلم