بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد : قال البخاري رحمه الله:بَابٌ: لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالٌ ...حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: «دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا» أيها الناس هذا مثال حي من سيرة نبيكم فما لكم عن سنته معرضين ولسيرته غير عارفين أيها الناس ما هذه الفرق والأحزاب ما هذه الجماعات والرايات المخالفة لرب البريات تعصب لغيرالسنة والكتاب وعمل بالهوى شتم وطعن وسباب والهجرة الأخرى الى المبعوث بالـ ... حق المبين وواضح البرهان
فيدور مع قول الرسول وفعله ... نفيا وإثباتا بلا روغان
ويحكم الوحي المبين على الذي ... قال الشيوخ فعنده حكمان
لا يحكمان بباطل أبدا وكل ... العدل قد جاءت به الحكمان
وهما كتاب الله أعدل حاكم ... فيه الشفا وهداية الحيران
والحاكم الثاني كلام رسوله ... ما ثم غيرهما لذي إيمان
فإذا دعوك لغير حكمهما فلا ... سمعا لداعي الكفر والعصيان
قل لا كرامة لا ولا نعمى ولا ... طوعا لمن يدعو إلى طغيان
قال ابن القيم رحمه الله :وَاَللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْإِنْصَافَ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ حِلْيَةٍ تَحَلَّى بِهَا الرَّجُلُ، خُصُوصًا مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ حَكَمًا بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْمَذَاهِبِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] فَوَرَثَةُ الرَّسُولِ مَنْصِبُهُمْ الْعَدْلُ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَأَلَّا يَمِيلَ أَحَدُهُمْ مَعَ قَرِيبِهِ وَذَوِي مَذْهَبِهِ وَطَائِفَتِهِ وَمَتْبُوعِهِ، بَلْ يَكُونُ الْحَقُّ مَطْلُوبَهُ، يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ، يَدِينُ دِينَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَيُحَكِّمُ الْحُجَّةَ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي قَدْ شَمَّرَ إلَيْهِ، وَمَطْلُوبُهُ الَّذِي يَحُومُ بِطَلَبِهِ عَلَيْهِ، لَا يَثْنِي عَنَانَهُ عَنْهُ عَذْلُ عَاذِلٍ، وَلَا تَأْخُذُهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْهُ قَوْلُ قَائِلٍ.
وقال الشيخ المعلمي :ورأيت في بعض الكتب حكايةً عن أبي بكر بن عيَّاشٍ القارئ المشهور أنه كان يقول: "يا ملائكتي (2) قد طالت صحبتي لكما، فإن كان لكما شفاعةٌ عند الله تعالى فاشفعا لي" (3). ولا أرى ذلك يصحُّ عنه، ولو صحَّ لم يكن حجَّة، [564] ولا يلزم من ذلك شناعة عليه، وإنما الشناعة على مَن قامت عليه الحجة فأصرّ، أو وقع في نفسه تردُّدٌ فلم يحتط لنفسه. وأما مَن رأى أنَّ عنده سلطانًا من الله تعالى ولم يقصّر في النظر ولا خطر له أنَّ ترْك ذلك الفعل هو الأحوط فقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [آخر البقرة]، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وقد اتَّفق العلماء على تكفير مَنْ أنكر آية من القرآن، أو زاد فيه ما ليس منه، ومع ذلك فقد قال بعضُ الصحابة رضي الله عنهم: إنَّ المعوذتين ليستا من القرآن (4)، فلم يكفِّره غيره من الصحابة بأنه أنكر آية من القرآن، ولا كَفَّرَ هو غيرَه لأنهم زادوا في القرآن ما ليس منه. وزعم رجل منهم من أهل بدر أنَّ الخمر حلال محتجًّا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] فردُّوا عليه خطأه (1) ولم يكفِّروه، مع قول العلماء: إنَّ مستحلَّ الخمر يكفر.
وهكذا اختلفت الأمة في البسملة، فقال بعضهم: هي آية من القرآن، وقال بعضهم: ليست آية من القرآن (2)، ولم يكفِّر أحد من الفريقين الآخر مع قولهم بكفر من أنكر آية من القرآن أو زاد فيه ما ليس منه، [565] وإنَّما حملهم على عدم التكفير في الأمثلة السابقة ونحوها أنَّ المخطئ فيها معذور، فأمَّا الاختلاف في العقائد فحَدِّث عن البحر ولا حرج، وقد استقرَّ عند أهل السنة ألَّا يُكفَّر أحد من المسلمين بخطأ في عقيدة وإن لزم منها ما هو كفر.
وهكذا اتَّفق أهل العلم على أنَّ ما أُحْدِثَ في الدين وليس منه فهو بدعةٌ، وأنَّ إنكار السنة الثابتة بطريقٍ ظنيّ ضلالٌ، ثم اختلف الصحابة فمَن بعدهم في أشياء لا تُحصى، فقال بعضهم: هي من الدين، وقال بعضهم: ليست منه، ومع ذلك لم يحكم أحد منهم على مخالفه بأنه مبتدع أو ضالٌّ، وما ذلك إلاَّ لأنَّ كلاًّ منهم يرى مخالفه معذورًا.
فهكذا نقول في مسألة الدعاء وأمثالها، فنحن وإن قلنا في صورة من صور السؤال ونحوها: إنَّ هذا دعاءٌ لغير الله تعالى وعبادة وشرك، فليس مقصودُنا أن كلَّ من فعل ذلك يكون مشركًا، وإنما يكون مشركًا مَنْ فَعَلَ ذلك غيرَ معذور، فأما من فعلها معذورًا فلعلَّه يكون من خيار عباد الله تعالى وأفضلهم وأتقاهم، ولعلَّه يكون مأجورًا على ذلك الفعل نفسِه (1).
وقد وقع الناس في هذا الباب على طرفي نقيض؛ فمنهم من يأخذ قول بعض الأمة وصالحيها كأنه وحي منزل، ويَرجعُ قولُهُ إلى دعوى أن ذلك العالم أو الصالح معصومٌ كعصمة الأنبياء أو أعظم، فلا يهون عليه أن يسمع قائلًا يقول: لعلَّ هذا العالم أو الصالح أخطأ، وإذا حدَّثته نفسه بأنَّ ذلك العالم أو الصالح أخطأ رأيته يتعوَّذ بالله تعالى، ويجتهد في طرد ذلك الخاطر عن نفسه.
ومنهم مَن إذا ظهر له في شيء من الأعمال أنه شركٌ أو لم يظهر له ولكنه سَمِع شيخه يقول ذلك بادر إلى الحكم على كلِّ مَنْ فعل ذلك من السلف والخلف بأنهم مشركون، لا فرق بينهم وبين عُبَّاد الأوثان.
والحق التوسُّط بين هذين.
وأُعيذُك بالله عزَّ وجلَّ أن يحملك هذا الكلامُ على [566] التهاون بمسألة التوحيد فتهجُم على شيء من الأعمال التي قد قيل إنها شرك قائلاً: إن كان في نفس الأمر شركًا فأنا معذور؛ فإنَّ الخطر عظيم، ولعلَّ عُذْرَكَ لا يكون من القوَّة بحيث يقبله الله تعالى منك، فانظر لنفسك، فإنْ شَكَكْت في شيء فدعه، فلعلَّ الله تعالى يقول لك: لِم صَنَعْتَ كذا وكذا وقد قيل لك: إنه شرك، وليس عندك يقين بأنه ليس بشرك، وأنت تعلم أنك لو تركتَه لما كان عليك إثم ولا حرج؟
وما مَثَلُكَ إلا مَثَلُ رجل وجد امرأة نائمة على سريره وشكَّ أزوجته هي أم أمُّه، فقال لنفسه: لأضطجِعنَّ معها؛ فإنَّ الاضطجاع مع الزوجة مستحبٌّ في الشرع، فإن كان (1) أمي فلم أتعمَّدْها، وقد وقع فلان على أمه معتقدًا أنها زوجته فأفتاه العلماء بأنه لا إثم عليه، بل هو مأجور!
واعلم أنه لو لم يكن في اجتناب ما قيل إنه شرك إلا سدّ باب الاختلاف بين الأمة في هذا الأمر لكان من أعظم القربات عند الله عزَّ وجلَّ.
واعلم أن مَنْ ترك عملًا من الأعمال خوفًا أن يكون شركًا أو معصية فهو مأجور على تركه، وعلى فرض أن ذلك الفعل طاعة في نفس الأمر فإن أجره يُكْتب لهذا التارك؛ لأن الله عزَّ وجلَّ يعلم أنه إنما تركه خوفًا من الله [567] تعالى. ومَن أقدم على فعل يخاف أن يكون معصية فعليه إثمه وإن كان ذلك الأمر في نفس الأمر طاعة.