"ومن تحريفاته، وتأويلاته:
1 - قوله: "باب ما جاء في الصفات. أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة؛ حدثنا محمد بن يحيى الذهلي؛ حدثنا المقرئ؛ حدثنا حرملة بن عمران التجيبي؛ عن أبي يونس مولى أبي هريرة، واسمه سليم بن جبير؛ عن أبي هريرة؛ أنه قال في هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه وأصبعه الدعاء على عينه. قال أبو حاتم: أراد صلى الله عليه وسلم بوضعه أصبعه على أذنه وعينه؛ تعريف الناس أن الله جل وعلا لا يسمع بالأذن التي لها سماخ والتواء ولا يبصر بالعين التي لها أشفار وحدق وبياض؛ جل ربنا وتعالى عن أن يشبه بخلقه في شيء من الأشياء؛ بل يسمع ويبصر بلا آلة كيف يشاء".
2 - وقوله: "ذكر الخبر الدال على أن هذه الألفاظ من هذا النوع؛ أطلقت بألفاظ التمثيل والتشبيه على حسب ما يتعارفه الناس فيما بينهم؛ دون الحكم على ظواهرها".
3 - وقوله: "ذكر الخبر الدال على أن هذه الأخبار؛ أطلقت بألفاظ التمثيل والتشبيه على حسب ما يتعارفه الناس بينهم؛ دون كيفيتها أو وجود حقائقها. أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي؛ قال حدثنا إبراهيم بن بشار؛ قال حدثنا سفيان عن بن عجلان؛ عن سعيد بن يسار أبي الحباب؛ عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (ما تصدق عبد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً ولا يصعد إلى السماء إلا طيب إلا كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه وفصيله؛ حتى إن اللقمة أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم). قال أبو حاتم رضي الله تعالى عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا كأنما يضعها في يد الرحمن) يبين لك أن هذه الأخبار؛ أطلقت بألفاظ التمثيل؛ دون وجود حقائقها، أو الوقوف على كيفيتها؛ إذ لم يتهيأ معرفة المخاطب بهذه إلا بالألفاظ التي أطلقت بها".4 - وقوله: "هذا الخبر من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة، وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي عصي الله عليها؛ فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب جل وعلا موضعاً من الكفار والأمكنة في النار فتمتلئ؛ فتقول: قط قط. تريد حسبي حسبي؛ لأن العرب تطلق في لغتها اسم القدم على الموضع؛ قال الله جل وعلا {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. يريد موضع صدق؛ لا أن الله جل وعلا يضع قدمه في النار؛ جل ربنا وتعالى عن مثل هذا، وأشباهه".
5 - وقوله: "وهم في هذه اللفظة حماد بن سلمة من حيث (في غمام)؛ إنما هو (في عماء)؛ يريد به أن الخلق لا يعرفون خالقهم من حيث هم، إذ كان ولا زمان ولا مكان، ومن لا يعرف له زمان، ولا مكان، ولا شيء معه؛ لأنه خالقها؛ كان معرفة الخلق إياه؛ كأنه كان في عماء عن علم الخلق؛ لا أن الله كان في عماء؛ إذ هذا الوصف شبيه بأوصاف المخلوقين".
قلت: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "العماء في كلام العرب: السحاب الأبيض، وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، ولا ندري كيف كان ذلك العماء، وما مبلغه، والله تعالى أعم، وأما العمى في البصر؛ فإنه مقصور، وليس هو من معنى الحديث في شيء"اهـ (غريب الحديث 2/ 8)
ونقل الترمذي في سننه عن أحمد بن منيع؛ عن يزيد بن هارون؛ قال: "العماء؛ أي: ليس معه شيء".
6 - وقوله: "والله جل وعلا يتكلم كما شاء بلا آلة، كذلك ينزل بلا آلة، ولا تحرك، ولا انتقال من مكان إلى مكان".
ومعلوم أن مذهب السلف في الصفات الإلهية؛ إمرارها كما جاءت؛ بلا تحريف ولا تعطيل، وبلا تكييف ولا تمثيل.قال الترمذي في سننه: "المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة: مثل سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن المبارك، وابن عيينة، ووكيع، وغيرهم؛ أنهم رووا هذه الأشياء، ثم قالوا: تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث؛ أن يرووا هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها ولا تفسر ولا تتوهم، ولا يقال: كيف، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه، وذهبوا إليه"اهـ
وقال أحمد: "نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حق؛ إذا كانت بأسانيد صحاح"اهـ (إبطال التأويلات 9)
7 - وإنكاره الحد لله سبحانه وتعالى؛ قال الهروي: "سمعت يحيى بن عمار الواعظ، وقد سألته عن ابن حبان؛ فقال: نحن أخرجناه من سجستان؛ كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين؛ قدم علينا فأنكر الحد لله؛ فأخرجناه"اهـ (ذم الكلام 1292)
والمحفوظ عن السلف والأئمة؛ إثبات الحد لله؛ رداً على الجهمية الذين يقولون: إن الله تعالى ليس على العرش؛ بل هو في كل مكان. ومرادهم من ذلك: إثبات أنه سبحانه في السماء؛ مستو على عرشه؛ بائن من خلقه؛ علمه وقدرته في كل مكان، وإليه تنتهي الأمور؛ مع اعتقادهم بأنه ليس منه سبحانه شيء محدود، ولا يبلغ علمه، وقدرته أحد.
قال الدارمي: "وادعى المعرض أنه ليس لله حد، ولا غاية، ولا نهاية .. وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم؛ جميع ضلالاته، واشتق منه جميع أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهماً إليها أحد من العالمين .. فمن ادعى أنه ليس لله حد؛ فقد رد القرآن، وادعى أنه لا شيء؛ لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه؛ فقال:} الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {؛} أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء {؛} يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ {؛} إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ {؛} إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ {؛ فهذا كله، وما أشبهه؛ شواهد ودلائل على الحد، ومن لم يعترف به؛ فقد كفر بتنزيل الله؛ وجحد آيات الله"اهـ (بتصرف من رد الدارمي على بشر المريسي ص 23 وما بعدها)