هذ المصطلح - وغيره - يذكر غالبا في باب "مفهوم المخالفة" من كتب أصول الفقه .
ومفهوم المخالفة ، يسمى أيضا: "دليل الخطاب" ، ومعناه : أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص .
انظر " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم رحمه الله 1 / 46 .
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله في "العدة في أصول الفقه" 2 / 449 :
ويعبر عنه بأن المسكوت عنه يخالف حكم المنصوص عليه بظاهره ، وقد نص أحمد - رضي الله عنه - على هذا في مواضع : فقال في رواية صالح : " لا وصية لوارث".
دليل أن الوصية لمن لا يرث ".
وقال الخطيب رحمه الله في " الفقيه والمتفقه " 1 / 234 :
وأما دليل الخطاب فهو : أن يعلَّق الحكم على إحدى صفتي الشيء ، فيدل على أن ما عداها بخلافه ؛ كقوله تعالى: ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) ، فيه دلالة على أن العدل إن جاء بنبإ لم يتبين ، وكذلك قوله تعالى : ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) ، فيه دليل على أن المبتوتات غير الحوامل : لا يجب عليهن الإنفاق " انتهى .
وقد استعمل الصحابة رضوان الله عليهم دليل الخطاب ( مفهوم المخالفة ) في حديثهم ، فعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة ، وقلتُ أخرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من مات وهو يجعل لله ندَّا ؛ دخل النار ». قال عبد الله : وأنا أقول : من مات وهو لا يجعل لله ندا ؛ أدخله الله الجنة . ولم يقل عبد الله هذا إلا من ناحية دليل الخطاب ، فدل على أنه من لغة العرب " .
انظر : " الفقيه والمتفقه للخطيب " 1 / 323 باختصار.
ومفهوم المخالفة : له أقسام عديدة عند الأصوليين .
قال القرافي رحمه الله في " الفروق " 2 / 36 - 37 :
" فهو ينقسم إلى عشرة أقسام :
مفهوم العلة ؛ نحو : ما أسكر كثيره : فهو حرام ؛ مفهومه : ما لم يسكر كثيره فليس بحرام .
ومفهوم الصفة : في الغنم السائمة : الزكاة ؛ مفهومه : ما ليس بسائمة لا زكاة فيه .
ومفهوم الشرط : من تطهر صحت صلاته ؛ مفهومه : من لم يتطهر لا تصح صلاته .
ومفهوم المانع : لا يُسقط الزكاةَ إلا الدين ؛ مفهومه : أن من لا دين عليه لا تسقط عنه .
ومفهوم الزمان : سافرت يوم الجمعة ؛ مفهومه : أنه لم يسافر يوم الخميس .
ومفهوم المكان : جلست أمامك ؛ مفهومه : أنه لم يجلس عن يمينك .
ومفهوم الغاية : ( أتموا الصيام إلى الليل ) ؛ مفهومه : لا يجب بعد الليل .
ومفهوم الحصر : إنما الماء من الماء ؛ مفهومه : أنه لا يجب من غير الماء .
ومفهوم الاستثناء : قام القوم إلا زيدا ؛ مفهومه : أن زيدا لم يقم .
ومفهوم اللقب : تعليق الحكم على أسماء الذوات ، نحو : في الغنم الزكاة ؛ مفهومه : لا تجب في غير الغنم ، عند من قال بهذا المفهوم ؛ وهو أضعفها " انتهى .
فأسقط رحمه الله مفهوم العدد من الأقسام ، وقد عدّه غيره منها .
مفهوم العدد :
هو مصطلح أصولي معناه: تعليق الحكم الشرعي بعدد معين مخصوص ، كقوله تعالى ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) [النور: 2] ، فقيد الحكم الشرعي وهو وجوب جلد الزاني بعدد معين ، وهو مائة جلدة .
وأيضا الحديث الذي أخرجه مسلم ( 279 ) من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ ) .
وقد اختلف الأصوليون في حجية مفهوم العدد ، بمعنى : هل تقييد الحكم بعدد معين ، يدل على انتفائه – أي الحكم المعين – فيما عدا ذلك العدد ، أو لا يدل ؟
هذا محل خلاف بين الأصوليين .
فذهب جمهور الأئمة من الأصوليين إلى حجيته ؛ واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
ما أخرجه البخاري ( 4670 ) ، ومسلم ( 2400 ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ : " لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ ، فَأَعْطَاهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ ، وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) [التوبة: 80] ، وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ " قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا، وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) [التوبة: 84] " .
ووجه الاستدلال ،كما قال العلماء : هو أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن حكم ما زاد على السبعين خلاف حكمها.
وذهب بعض الأصوليين من الحنفية والمعتزلة وغيرهم إلى عدم حجيته ، والراجح الأول .
قال العلامة الشوكاني رحمه الله في "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" (2 / 45) :
"والعمل به معلوم من لغة العرب ، ومن الشرع ، فإن من أمر بأمر ، وقيده بعدد مخصوص ، فزاد المأمور على ذلك العدد ، أو نقص عنه ، فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص ، كان هذا الإنكار مقبولا عند كل من يعرف لغة العرب ، فإن ادعى المأمور أنه قد فعل ما أمر به ، مع كونه نقص عنه أو زاد عليه ، كانت دعواه هذه مردودة عند كل من يعرف لغة العرب " انتهى.
ولكن شرط القول بحجيته ألا يُقصَد بذكر العدد مجرد المبالغة والتكثير ، فإن قصد بها المبالغة أو التكثير لم يعتبر العدد .
قال الزركشي رحمه الله في " البحر المحيط في أصول الفقه " 5 / 172 : " مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّكْثِيرُ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِهِ كَالْأَلْفِ وَالسَّبْعِينَ ، وَغَيْرِهِمَا ، ممَا جَرَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْمُبَالَغَةِ ، فَلَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى التَّحْدِيدِ " انتهى.