محمد مصطفى
6/24/2015
نَشْأَةُ الْكُلِّيَّاتِ: مَعَاهِدُ الْعِلْمِ عِنْدَ الْـمُسْلِمِينَ وَفِي الْغَرْبِ.
المؤلف: جورج مقدسي.
نقله الى العربية: محمود سيد محمد.
مراجعة وتعليق: أ.د: محمد على حبشي، أ.د عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان.
الناشر: مدارات للأبحاث والنشر.
الطبعة: الأولى عن المركز.
سنة النشر: 2015.
عدد الصفحات: 611 تشمل الفهارس والتذييلات والملاحق.
الطبعة الإنجليزية الأولى صدرت عام 1981.
قراءة: محمد مصطفى
_____________________________
مُقدِّمةٌ
إنْ أردت أنْ تعرف كيف تفاعل المسلمون مع الوحي، وماذا كانت نتيجة هذا التفاعل على مرِّ القرون، وإلى أي مدى يزال النص قادرًا عبر تعاطي المؤمنين معه على إنتاج أبنية ومناهج تعليمية، ونظم ومؤسسات دراسية، وشبكات اتصال اجتماعية، فبُغيتك هنا في «نشأة الكُلِّيات» لجورج مقدسي.
وُلد جورج أبراهام مقدسي (1920م)، وتُوفي (2002م) بمدينة ديترويت، ولاية ميتشغان، لأسرة من أصول عربية، وتلقى تعلميه الأَوليَّ بالولايات المتحدة الأمريكية، حصل في عام 1947م على الدرجة الجامعية الأُولى من جامعية ميتشغان، ثُمَّ على الدرجة الجامعية الثانية من جامعة جورجتاون بواشنطن العاصمة في العام الذي يليه، وهي نفس الجامعة التي حصل منها على درجة الماجستير في عام 1950م، وحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون سنة 1964م، وكان موضوع الرسالة حول أبي الوفا بن عقيل الحنبلي التي لا تزال مرجعًا رئيسًا حول تاريخ الحنابلة والتاريخ الفكري للإسلام في القرن الخامس الهجري، وقد تأثر في اختيار موضوع الرسالة بأستاذه هنري لاووست (1905-1983م)، الذي كان عمله الرئيس حول ابن تيميه، توسع مقدسي في دراسة التاريخ الفكري الإسلامي والأوروبي الوسيط على السواء، وكان من ثمار هذه الدراسة كتاب «تطور العلوم الإنسانية» الذي نشر 1990م، وكتابنا الذي نعرض له «نشأة الكليات» والذي نشره 1981م.
يحتوي كتاب «نشأة الكليات» على أربعة فصول:
الأول بعنوان: «النظم»، ويحتوي على ثلاثة أبواب، يتطرق أولهما إلى: نشأة المذاهب الفقهية، وتطورها، وعلاقة المذاهب بالمدرسة، وحركات علم الكلام، ومدى تعلقها بالمذاهب، والثاني في: تصنيف معاهد العلم من المساجد والجوامع، إلى المدارس والمكتبات، والثالث في: نظام الوقف، وقانونه، وشروطه، وأهدافه، والأحكام الشـريعة المتعلقة به، وعلاقته بالضمير الإنساني.
أمَّا الفصل الثاني بعنوان: «التعليم»، وهو عبارة عن ثلاثة أبواب، أولهما: تقسيمات حقول المعرفة، ويتحدَّث فيه المؤلف حول العلوم الشـرعية، والعلوم المنطقية والفلسفية، وعلوم الأدب والنحو وغيرها، والباب الثاني بعنوان: «نظام التعليم»، تحدث فيه عن المنهج الدراسي، والمقررات الدراسية، مُكرِّسًا مساحةً خاصة للسيرة التعليمية لعدد من العلماء المتقدمين، أما الباب الثالث والذي بعنوان: «طريقة التعلم»، تحدث فيه عن تنظيم العملية التعليمية، وطريقتها في خمسة عناصر أساسية: «التذكر ووسائله، الاستظهار، الإعادة، الفهم، المذاكرة، دفتر المذكرات»، وأعطى مساحة كبيرة لـما تعنيه الطريقة المدرسية، سيما الجدل والمناظرة، والخلاف والتقرير/ التعليقة.
الفصل الثالث بعنوان: «مجتمع أهل العلم»، تناول المدرسون وألقابهم، ومنزلتهم في المجتمع، وأهمية التدريس والدروس الافتتاحية، ومصادر الدخل لهم في الباب الأول، وفي الباب الثاني: تحدث عن الطلبة وتصنيفاتهم، وجوانب من حيواتهم، وفي الباب الثالث: تحدث عن المناصب والمِهن والوظائف المتعلقة بكل فرع من فروع العلوم الشـرعية، كذا المتعلقة بكل بنية من المباني التعليمية.
أما الفصل الرابع: فهو مقارنة متضمنة كل عناصر الفصول الثلاثة بين العالـم الإسلامي والغرب في العصـر الوسيط، وقد تبلور اتجاهان في هذا الصدد:
الأول: ينفي تمامًا أيَّ مناصة أو تماس أو تأثر، وهو رأي جي. إي. فون جرونيباوم في كتابه: «الإسلام في العصـر الوسيط»، حيث يقول: «عندما يتم تحليل الحضارة الغربية، بعد أن تبلورت خلال العصور الوسطى وعصـر النهضة، إلى مكونتها وعناصرها الأساسية، يظهر بوضوح التأثير المحدود لاتصالاتها الممتدة، وإن كانت سطحية نوعًا ما، مع العالـم الإسلامي، وقد يقول قائل: إنَّ الحضارة الإسلامية أسهمت بالشـيء الكثير من التفاصيل، وإنَّها قامت بدور العامل المساعد، غير أنَّها لـم تؤثر في البنية الأساسية للغرب، وقد تختلف الآراء ويدور النقاش حول الذي يمكن الذهاب إليه في تفسير الحضارة الغربية الحديثة على أنَّها استمرار للحضارة الكلاسيكية، ولكن ممَّا ينافي العقل: أنْ يصل الأمرُ إلى حدِّ التساؤل عمَّا إذا كان عنصـر من عناصرها الأساسية قد نشأ بتأثير إسلامي.. وفيما عدا فلسفة ابن رشد؛ يبدو أنَّه لـم يحدث مطلقًا أنْ أثَّر فكر إسلامي أصيل في الفكر الغربي تأثيرًا على نحو يستمر معه ردحًا من الزمن، كمؤثر حيوي يلتحم به التحامًا تامًا ويصبح ضروريًّا لاستمرار نموه».
أما الرأي الثاني؛ فيمثله و. مونتجومري واط في كتابه: «تأثير الإسلام على أروربا في العصـر الوسيط»، حيث يقول: «عندما يُلم المرء بجميع جوانب المجابهة بين المسيحية والإسلام في العصور الوسطى، يتضح له أنَّ تأثير الإسلام على العالـم المسيحي الغربي أكبر ممَّا يقدر عادة، فقد شارك الإسلام أوروبا الغربية في كثير من المنتجات المادية، والاكتشفات التقنية، وحفز أوروبا فكريًّا في مجالات العلم والفلسفة، ولـم يقتصـر الأمر على ذلك، بل إنَّه استثار أوروبا، وحملها على أن تكون صورة جديدة عن نفسها، ولـما كانت أوروبا في موقف المقاومة والمعارضة للإسلام؛ فإنَّ ذلك جعلها تُقلِّل من شأن تأثير المسلمين، وتُبالغ في اعتمادها على تراثها الإغريقي والروماني، ولذلك؛ فقد أصبح من الواجبات المهمة الملقاة على عاتق أبناء أوروبا الغربية ـ ونحن ندخل في عصـر العالـم الواحد ـ أنْ يُصحِّحوا هذا التركيز الخاطئ، وأن يعترفوا اعترافا تامًا بما نحن مدينون به للعالـم العربي والإسلامي».
في نهاية الكتاب يوجد مُلحقان:
§ الأول: مراجعة نقدية، ويحتوي على رأي خوليان ريبرا في التأثير الإسلامي، والمدرسة في رأي فان برشم، والمدرسة في رأي إجناس جولدتزيهر، المدرسة في رأي ج. بيدرسن، والمدرسة في رأي يوسف إيخه ومناقشة مقدسي لهذه الآراء.
§ والثاني: يتضمن ذكر أهم المراجع المركزية المتعلقة بالدراسة ككتاب النعيمي: «الدارس»، و«الجامع المختصـر»، لابن الساعي، و«universities» لرشدال غيرهم.
تعقَّب المراجعون المُؤلِّف في بعض المواضع اليسيرة، أهمها في:
حديثه عن قوة المذاهب الفقهية، وتأثيرها، والتي ـ وَفقَ رأيِه ـ ألجأت المذاهب الاعتقادية المخالفة لأهل السُّنَّة للتستر بها، حيث أوردوا التعليق الآتي: «المؤلف هاهنا يَفصل بين ما لا فصل فيه، فليست الأشعرية طائفة منفصلة عن الشافعية أو المالكية، وليست المعتزلة بمنفصلة عن الحنفية، بل دخلت الأصول الأشعرية بأصول الشافعية، وكذلك الأمر بالنسبة للمعتزلة، ولـم يحدث ما زعمه المؤلف من أنَّ انتساب بعض الطوائف الكلامية إلى مذاهب فقهية كان الغرض منه التستر بشـرعيَّةٍ مُعترَفٍ بها»، وأرى أنَّهما لـم يفهما كلامه بصورة صحيحة، حيث إنَّ مقصود مقدسي - حسب تصوري - هو احتياج المذاهب العقدية إلى الشـرعية المستمدة من قانون الشـريعة، والذي تمظهر في المذاهب كحوامل وممرات عبور للجُمل الاعتقادية، وهذا معروف تاريخيًّا، ويظهر في كيفية اختيار كل اتجاه عقدي مذهبًا فقهيًّا، كما فعل الأشاعرة بتمذهبهم بالمذهب الشافعي على سبيل المثال؛ لأنَّه مرتبط بالممارسة اليومية المجتمعية، وبسلطة الشـريعة، فيسهل تمرير العقدي هاهنا وبثه.
والنقد الثاني: مُتعلِّقٌ برؤية مقدسي لصـراع أهل السنة مع المعتزلة، والذي عبَّر عنه بنصرتهم على المذهب العقلي بإطلاق، حيث علَّق المؤلفان بقولهما: «إنَّما انتصر أهل السُّنة على المذهب العقلي المنحرف، حيث إنَّ أهل السُّنة لا يستبعدون التفكير العقلي المنضبط».
وإليكم عرض الكتاب عبر جولة سريعة ومكثفة:
نشأة المذاهب الفقهية:
يبدأ جورج مقدسي رحلته بالحديث عن نشأة المذاهب الفقهية، ويشير إلى مفتاح فهم ظاهرة المذاهب الفقهية الكامن في التفاعل بين الفقه / أهل الرأي / المعتزلة من جانب، وأهل الحديث من جانب آخر، والذي أدَّى لتحول طبيعة المذاهب من نسبتها إلى الجغرفيا / المكان (مذهب أهل الكوفة، البصرة، المدينة.. إلخ) إلى الأشخاص (أبوحنيفة، مالك، الشافعي، ابن حنبل، ابن جرير... إلخ)، ومنها إلى روابط مدنية ذات سمة تنظيمة، لافتًا النظر إلى أنَّ استمرار مذاهب بعينها واندثار أخرى لـم يكن راجعًا للسلطة السياسية أو مشايعة الحاكم، فهذا ـ في اعتقاد مقدسي ـ وضع للعربة أمام الحصان؛ لأنَّ السياسيين يُولون تأييدهم لما يُحقِّقُ مصلحتهم الكبرى، ويؤيدون وينصـرون مراكز القوة القائمة بالفعل، إنَّما كانت العوامل الرئيسية بعد قوة المذهب، وسُلطة المُؤسِّس الفقيه: نشـر أصحابه وتلاميذه للمذهب، والمحافظة على تدوين دروسه وتعاليمه، والأوقاف التي كانت لتدريس مذهب فقهي معين، والتي كانت تعتبر أداةَ حشد للأتباع، واعتبار أهل السُّنة تعدد المذاهب عاملَ ضعفٍ وفُرقة في صراعهم مع مخالفيهم من المعتزلة وغيرهم، وقد تشكَّلت المذاهب على هيئة مماثلة للنبي وأصحابه، فمثلما كان النبي إمامًا لأتباعه؛ كذلك كان كل مذهب يتألف من إمام وأصحابه.
أمَّا عن إغلاق الباب، أمام تكوين مذاهب جديدة يقول مقدسي: إنَّه لا يُمكن أن يحدث إلَّا نتيجة لرفض الفقهاء أنفسهم لتكوينها، فليست هناك سلطة أو جهة أخرى في الإسلام يمكنها أن تُخرج إلى حيِّز الوجود مذهبًا جديدًا، ولـم تنقرض المذاهب إلَّا عندما تضاءل عدد أنصارها ودعاتها تدريحيًّا إلى أن وصلوا إلى حدِّ الانقراض.
يربط المقدسي بين الإسلام / الشـريعة التي هي حكم القانون حسب تعبيره: «لكنَّه نظام قانوني غير مرتبط برجال الدين، وبلا هيئة كهنوتية»، وبين تطور المذاهب الفقهية، حيث اعتبرها وسيلة تعبير لأهل السُّنة عن معتقداتهم، وحيث يُمثِّل المذهب الحنبلي الشكل النهائي لانتصارهم، ويرى المقدسي أنَّ قوة المذاهب الفقهية وشرعيتها المستمدة من القانون / الشـريعة ألجأت المذاهب العقدية كالمعتزلة والأشاعرة إلى التسلُّل إليها؛ لاكتساب هذه الشرعية.
المدارس، المعاهد:
أفرزت المذاهب الفقهية الأبنية التعليمية، في أول الأمر كان «الجامع بحلقاته والمسجد»، وهو المساحة الرئيسية للتعليم، حيث كان يتم فيه تدريس جميع العلوم الشـرعية بما فيها الفقه، وهو ـ على حسب تصنيف مقدسي ـ المعهد الذي لا يُدرِّس العلوم الدخيلة / علوم الأوائل «المنطق، وعلم الكلام، والفلسفة اليونانية، والطبيعيات»، ثم نشأت المعاهد التي تُدرَّس فيها العلوم الدخيلة بالتوازي، والتي كانت تسمى بعدد من المسميات: «دار، بيت، خزانة»، ثم نشأت المدرسة إمَّا بدون مسجد أو بمسجد ملحق بها، وقد اختصت بتدريس العلوم الشـرعية فقط خاصة الفقه.
كانت المدرسة تَطوُّرًا طبيعيًّا لمؤسستين ظهرتا قبلها، وهما: المسجد بصفته مدرسة للفقه، والخان الذي كان يُقام إلى جواره؛ لينزل فيه الطلاب الذين يدرسون الفقه في المسجد كمسكن لهم، ومن ثَمَّ تطور هذا المعهد العلمي أو الكلية على ثلاث مراحل: من المسجد إلى «مجمع المسجد / الخان» إلى المدرسة، وعن المدرسة الأولى تطورت عدة مدارس (المدرسة الثنائية، المدرسة الثلاثية، المدرسة الرباعية، المدرسة ذات المسجد، المدرسة ذات الجامع، المدرسة بدار الحديث، المدرسة بتربة، المدرسة بدار الحديث وتربة، المدرسة بخانقاه، المدرسة برباط، المدرسة البيمارستان، المدرسة / مدرسة الطب، المدرسة / الزاوية، المدرسة ـ المشهد)، وكان عدد الطلبة في المدرسة الأشرفية: مائتين وخمسة وأربعين طالبًا ما بين مستمع ومشتغل، وفي الوقف الذي لـم يكن يحدد عدد الطلبة كان ممكن قبول مزيد من الطلبة مع تخفيض نصيب كل منهم من غلة الوقف، وكان يحدث هذا التخفيض في الأوقات التي تنخفض فيها غلة الوقف.
بجوار المدرسة ظهرت مؤسستان على قدر كبير من الأهمية، هما: المكتبات، والبيمارستانات (المستشفيات)، وكان النشاط الذي يجري في المكتبات يتعلَّق بالكتب، مثل: القراءة، والاطلاع، والنسخ، ومن المعروف أنَّه كانت تعقد فيها لقاءات المناقشة والمناظرة، وما أشبه ذلك، ولـم يتمَّ فيها تدريس برامج أو علوم إلَّا على وجه الاستثناء، أمَّا المستشفيات؛ فكانت مدارسًا للطب وعلومه بجوار وظيفتها الرئيسية.
الوقف:
يحسن بي الثناء هنا على مقدرة المقدسي على التجول بين المراجع والحصول على المعلومات من غير مظانِّها، حيث إنَّه لـما كانت المادة المؤلفة التي وصلت إلينا عن تاريخ الوقف وقانونه قليلة، وغير كافية؛ لجأ المُؤلِّف إلى كتب الفتاوى الخاصة بالوقف ومشكلاته المختلفة التي نشأت بصدد معاهد التعليم.
ترتبط المعلومات الأساسية التي تتيح لنا سبر أغوار المؤسسات التعليمة بقانون الوقف الذي أُسست عليه معاهد العلم في الإسلام، والتي وفَّرت تعليمًا فرديًّا في تنظيمه، ومتاحًا لكلِّ مَن يرغب من المسلمين، كان الوقف من حيث التمويل يُمثِّل دعمًا شخصيًّا بالأساس، ومن حيث التأسيس يُمثِّل ملكية خاصَّة، وإرادة حُرَّة من الواقف لا تتدخل فيها السلطة بأيِّ شكل من الأشكال، فلم يكن للدولة أو السلطة الحاكمة إشرافٌ على المناهج أو طرق التدريس بأكثر ممَّا كان لها من إشرافٍ على إنشاء معاهد التعليم ذاتها! فكان الوقف يُمثِّل التحرُّر الكامل على مستوى الإنشاء والممارسة.
ورغم أنَّ الوقف جامد بطييعته، فإنَّ ممارسة المناظرة، واستمرار البحث والاستقصاء جعل التعليم يفيض حيوية ونشاطًا، إلى أن جاء الوقت الذي عثرت فيه السلطة الحاكمة على طريقة للتدخل بنجاح لكبح جماح البحث والاستقصاء المنطلقة بلا قيود، وذلك بإحداث وظيفة براتب للمفتي، ولكن علماء الفقه أكَّدوا حقَّهم في حُرِّية البحث والفكر، كما تتمثل في ممارسة الاجتهاد، برفضهم تولِّي هذا المنصب مثلما رفضوا منذ العهد الأول للإسلام تَقلُّد منصب القضاء الذي كانوا يقبلونه في أغلب الأحيان بشـرط الاحتفاظ بحريتهم في الحكم دون قيود، وطبقًا لـما تمليه عليه ضمائرهم ودون ضغط من السلطة الحاكمة لاستصدار حكم شرعي مُقرَّرٍ سلفًا، غير أنَّ العلماء الذين عارضوا هذا الاتجاه كانوا يخوضون معركة خاسرة؛ لأنَّ عامَّة الناس لجؤوا إلى المفتي الذي يتقاضى راتبه من الدولة؛ لتفادي دفع أجرة المفتي الخاص، وقد أدَّى ذلك في نهاية الأمر إلى وقف تدفق الفتاوى التي بلا قيود، وتوقف المناظرات المفعمة بالحيوية، الأمر الذي ترتَّب عليه تدهورُ طريقةِ النظر، التي أصبحت مجردَ تمرين مدرس، فقدت وظيفتها الديناميكية التي كانت لها في السابق.
وكان الغرض من الوقف هو خيري بالأساس، ومُتمثِّل في وقف الأموال من أجل تقدُّم العلم، والذي كان مرادفًا لتقدُّم الدين في العصـر الأول للإسلام، وقد كان دافعُ الشـريعة من التصـريح بالأوقاف هو تمكين الواقف أو الواهب من تحقيق التقدُّم الروحي في الحياة الآخرة، والحصول على محبة الناس في هذه الحياة الدنيا بنفس الطريق التي يحظى بها من يُقدِّم الهدايا والعطايا، وإن يكن بدرجة أكبر، وتتمثَّل صور الوقف في: المدرسة، المسجد، الخوانق، الجوامع، المارستان، الرباط، الصدقة، عتق أسرى الحرب من سجون الكفار، بناء الجسور وغيرها الكثير.
ثَمَّةَ أمور متعلقة بشخص الواقف، على رأسها: الأهلية المتمثلة في كونه بالغًا رشيدًا، مالكًا ملكية صريحة للعقار الذي يرغب في وقفه، فإذا توفَّرت هذه الشـروط؛ كان للواقف حرية الاختيار التامة، فالشـروط التي يضعها الواقف لها قوة القانون «نصوص الواقف كنصوص الشـرع من حيث الوجوب»، والمُطَّلع على الفتاوى الصادرة عن فقهاء العصور الوسطى فيما يختص بمسائل الوقف يدرك على الفور أنَّ الشـروط الواردة في وثيقة الوقف لها حرمتها، ويجب العمل بموجبها عندما تصبح معروفة، وعليها تتأسس الفتوى.
كانت تُصرف أموال الوقف إذا كان عبارة عن مدرسة ملحق بها مسجد على الفقهاء المشتغلين، وعلى الطلبة المشتغلين، وعلى مدرس الفقه، وإمام المسجد، والمؤذن، والقيِّم، وعمارة المبنى، وصيانته بشكل عام، وتتم إدارة الوقف عبر المتولي / القيِّم / الناظر / المشـرف / نقيب الأشراف في أوقاف المتصوفة، أو عبر لجنة إشراف تدير شؤون الوقف والعاملين فيه، ويعلم بوجود الوقف عبر دواوين القضاة المكلفين بحفظ كتب الوقف أو السجلات الأميرية التي تحتوي على معاملات خاصة بالأوقاف حفظًا للحقوق، وتسهيلًا للتقاضي إذا تطلب ذلك، فالقاضي تشمل مهامه الإشراف على الأوقاف من أجل حماية العناصر التي يتألف منها الوقف، وزيادة غلته وجمعها، وإنفاقها في أوجه الصرف الصحيحة.
تقسيمات حقول المعرفة:
يذكر الطبيب ابن بطلان الأقسام الكبرى للعلوم التي ظهرت في بلاد الإسلام في منتصف القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي، وهي العلوم الإسلامية، والعلوم الفلسفية والطبيعية، وعلوم الأدب، كان للعلوم الإسلامية السيادة التامة على معاهد العلم، وفي القلب منها: سلطان العلوم الفقه الإسلامي، بينما كانت علوم الأدب في منزلة الوصيفات، على أنَّه مع ظهور علم الجدل واستعماله في دراسة أصول الفقه؛ توارت علوم الأدب إلى الظِّلِّ، أمَّا علوم الأوائل أي الإغريق؛ كانت تلقى معارضة من كل علماء المسلمين من ذوي العقيدة الإيمانية، وكانت هذه العلوم تُدرَّس سِرًّا، ولـم تكن تُدرج ضمن مقررات الدراسة المعتادة في معاهد التعليم الإسلامية، واستبعدت تمامًا من معاهد العلم بأكملها، استنادًا لسلطة الوقف الذي كان يحظرها باعتبارها مناهضة لتعاليم الإسلام والتوحيد إلَّا أنَّها وجدت متنفسها في المكتبات التي كانت تحتفظ بالكتب الإغريقية، والتى كانت تُعقد المناظرات بها حول الموضوعات العقلية والفلسفية.
وكان لجلب مؤلفات الإغريق إلى بلاد الإسلام أثرٌ عميقٌ في تطور الفكر والتعليم الإسلاميين، فقد أصبح علماء المسلمين يواجهون مشكلة واجهها آباء الكنسية من قبلهم، وتتمثَّل في كيفية استيعاب معارف الإغريق الوثنية ضمن مفهوم الإسلام للعالـم، والذي يقوم على أساس أنَّ الله هو خالقه، فظهر فكر إسلامي حاول إيجاد حلٍّ لهذه المعضلة، سواء في نطاق التعليم المنهجي داخل المعاهد أو خارجها، وقد جاء الحلُّ نتيجة للتفاعل بين أهل الحديث، تُمثِّلُهم المدرسة وما شابهها من المعاهد، وأهل الكلام العقليين تمثلهم دار العلم وأشباهها.
«وفي الوقت الذي كسبت فيه مؤسسات التعليم السُّنية المعركة ضد مؤسسات العقليين واستوعبتها، كانت قد استوعبت معها قدرًا كبيرًا من العلوم التي كانت تعارضها من قبل؛ إذ تسـربت أسلحة الجدل تدريجيًّا إلى الفقه؛ لأنَّ التفوق في الفقه يتحقَّق من خلال المناظرة القائمة على الخبرة في مجاليين أساسيين هما الخلاف والجدل».
نظام التعليم:
المنهج الدراسي: كان يوجد تسلسل تتابعي للمقررات الدراسية ينبغي اتباعه والالتزام به، ولُوحظ من خلال الكتب التي تتحدَّث عن التربية الإسلامية وتراجم العلماء ـ التي لجأ إليها المقدسي عندما لـم يجد مصنفات مفردة في المناهج الدراسية بالقدر الكافي ـ نمطًا عامًّا للدراسة، إلَّا أنَّه غير مترجم لبرامج موحدة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنَّ مؤسس المعهد التعليمي كانت له حرية الاختيار في تنظيم مؤسسته بما في ذلك اختيار المقررات التي تدرس فيها.
التتابع النظري للمقررات الدراسية:
أورد المقدسي نموذجين:
§ أولهما: للهيتمي، حيث ذكر الترتيب الآتي «تفسير القرآن، الحديث، الأصول: (أصول الدين، وأصول الفقه)، المذهب، الخلاف، الجدل».
§ الثاني: حاجي خليفة، يضع خليفة ترتيبًا للمواد الدراسية طبقًا لأهميتها، مُشيرًا إلى أنَّ المواد التمهيدية يجب أن تسبق المواد الدراسية المطلوبة لذاتها؛ فإنَّ جميع المواد التي تتعلَّق بدارسة الألفاظ والعبارات يجب أن تكون تمهيدًا للمواد التي تتناول المفاهيم، وعلى هذا النحو ينبغي دراسة الأدب قبل المنطق، ودراسة هاتين المادتين قبل مبادئ الفقه، ودراسة هذه المبادئ قبل الخلاف، ثم يذكر ثلاثة أسباب لدراسة مادة قبل أخرى: «تفاوت الأهمية، أن تكون إحداهما مدخلًا للأخرى، أن تكون إحدهما جزءًا من الأخرى».
الحلقات:
كانت طريقة التعليم في الجامع تُسمى حلقة، وهي اصطلاحًا: اجتماع الطلبة حول مدرس، وبالتالي: برنامج دراسي أو دروس متتابعة، وأيضًا قاعة يعقد فيها شخص له مكانته اجتماعات، أو يُلقي محاضرات، أو التي يعطي فيها مدرس دروسه، وكان ترتيب الجلوس بحسب المستوى العلمي، فكُلَّما ازدادت معرفة الطالب بموضوع الدرس، وقويت معرفته بالفقه؛ زاد قربه إلى الشيخ، ومن هنا نشأ التعبير الشهير: «قرَّبه إليه»، وعندما يصل الطالب إلى المرحلة النهائية؛ ينشأ مفهوم الصحبة، حيث يتخذ الفقيه / العالـم من المنتهين أصحابًا له، وكانوا يتولَّوْن المناظرة دون تدخل من العالـم عندما تعرض مسألة بعينها، إلَّا عندما تدعو الحاجة إلى إيضاح، أو لمساعدتهم على إنهاء المناظرة، وتبدأ الحلقة بالدعاء، وتنتهي بالدعاء.
يتبع.