ثم وجدت هذا الموضوع: (أبو الحسن الأشعري ورجوعه لاعتقاد السلف):
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو الحسن الأشعري
بقلم : فضيلة الشيخ حماد بن محمد الأنصاري رحمه الله
تقريظ من الشيخ الجليل عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
بسم الله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه .
أما بعد :
فقد اطلعت على هذه الرسالة القّيمة ، التي جمعها أخونا وصاحبنا الشيخ العلامة حماد بن محمد الأنصاري ، المدرس في كلية الشريعة في الرياض ، في بيان شيءٍ من ترجمة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، وبيان رجوعه عن مذهب المعتزلة ، واعتناقه مذهب أهل السنة في إثبات ما ورد في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة من أسماء الله الحسنى وصفاته العلا ، على الوجه الذي يليق بالله سبحانه ، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ ، كما صرح بذلك علماء الحديث ودرج عليه سلف الأمة والصحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسانٍ ، وهذا هو الذي صرح به أبو الحسن في كتبه المشهورة كالمقالات والموجز والإبانة .
ولقد أجاد أخونا الشيخ حماد في هذه الرسالة وأفاد ، وأبرز فيها من النقول المفيدة عن أئمة الإسلام والعلماء الأعلام ما يكشف الشبهة ويزيل اللبس ويرشد إلى الحق ، ويوضح حقيقة مذهب أبي الحسن الذي استقر عليه وناضل دونه ، ورد على من خالفه ، وأبان حقيقة مذهب المعتزلة وشنع عليهم ، وأوضح لأهل الإسلام بطلان ما عليه المعتزلة وتهافت أصولهم وانهيار قواعدهم ، فجزاه الله عما صنع خيرًا وبارك في مساعيه ونفع المسلمين بجهوده ، إنه على كل شيءٍ قديرٌ ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه .
تقريظ فضيلة الشيخ الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري رحمه الله
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد :
فإن مما لا يحفى على من وفق في العقيدة ، أن طريقة السلف الصالح فيها التمسك بنصوص الكتاب والسنة وعدم معارضتها بما سواها .
وقد كان أبو الحسن الأشعري الذي تنتسب إليه الأشعرية ممن اهتدى بفضل الله إلى هذا ، بعد ما تلقى دروس الاعتزال عن زوج أمه شيخ الاعتزال محمد بن عبد الوهاب أبي علي الجبائي ، فتاب وتمسك بالنصوص ، فأثبت لله ما أثبته دون تعطيلٍ ولا تأويلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ ، وصنف في بيان ذلك كتابه " الإبانة عن أصول الديانة " ، وإن كان أكثر المنتسبين إليه في الأعصر المتأخرة جهل ذلك أو تجاهله ، فصار يعارض عقيدة السلف الصالح بأشياء يزعم أنها عقيدة الأشعري وهو في الحقيقة براءٌ منها ، و يزعم البعض منهم أن كتاب الإبانة مدسوسٌ على الأشعري ، فصار ذلك كله خطرًا عظيمًا على العقيدة ، وجنايةً كبرى على ذلك الإمام الأشعري ، الذي وفق للرجوع إلى الحق وفضح المعتزلة وأتباعهم في مصنفاته .
وقد تنبه لهذا كله البحّاثة المدقق الشيخ حماد بن محمد الأنصاري المدرس بكلية الشريعة بالرياض ، فتتبع مصنفات أئمة العلم من مختلف الطبقات ، فاستخرج لنا منها هذه النبذة القيمة ، التي تحمل في طياتها تصريحات الأشعري نفسه بتوبته من كل ما يعتبر مصادمةً لنصوص الصفات وغيرها ، واعتقاده العقيدة التي يعتقدها السلف الصالح التي ضمنها " الإبانة " .
كما تحمل إلى الأشعرية نقول أجلة العلماء من المتكلمين والمحدثين والفقهاء والمؤرخين ، التي تصرح برجوع الإمام الأشعري إلى معتقد السلف الصالح ، وأن كتاب الإبانة تصنيف الأشعري ، فبهذا أدى مؤلف هذه النبذة وأحب العقيدة من ناحية وأحب الدفاع عن الأشعري وكتابه الإبانة من ناحية ، بحيث لم يدع للشك مجالاً في جميع ذلك ، فجزاه الله خير الجزاء ، ونفع بهذا المؤلف القيم ، إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
وبعد :
لما كان أكثر الناس في الأقطار الإسلامية ينتسب عقيدةً إلى أبي الحسن الأشعري ، ومع ذلك لا يعرف شيئًا عن أبي الحسن الشعري ، ولا عن عقيدته التي استقر عليها أمره أخيرًا ، واستحق بها أن يكون من الأئمة المقتدى بهم ، أحببنا أن نفيد أولئك عن حقائق هذا الإمام المجهول عند كثيرٍ ممن ينتسب إليه وينتحل عقيدته حسب ما تتبعنا من المراجع المعتبرة .
وقبل كل شيءٍ أتحف القارئ بنبذةٍ قليلةٍ من ترجمة الأشعري ، فأقول وبالله أستعين :
التعريف بالإمام :
أما أبو الحسن الأشعري فهو عليّ بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري .
ولد سنة ستين ومائتين من الهجرة النبوية ، ترجمه أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي في كتابه " تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري" و " الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " و" ابن خلكان في "وفيات الأعيان " والذهبي في " تاريخ الإسلام " وابن كثير في " البداية والنهاية " و"طبقات الشافعية " والتاج السبكي في " طبقات الشافعية الكبرى " وابن فرحون المالكي في " الديباج المذهب في أعيان أهل المذهب " و " مرتضي الزبيدي في اتحاد السادة المتقين بشرح أسرار إ حياء علوم الدين " وابن العماد الحنبلي في "شذرات الذهب في أعيان من ذهب " وغيرهم .
دخل هذا الإمام بغداد ، وأخذ الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي أحد أئمة الحديث والفقه ، وعن أبي خليفة الجمحي وسهل بن سرح ومحمد بن يعقوب المقريء وعبد الرحمن بن خلف البصريين ، وروى عنهم كثيرًا في تفسيره المختزن ، وأخذ علم الكلام عن شيخه زوج أمه أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة ، ولما تبحّر في كلام الاعتزال وبلغ فيه الغاية ، كان يورد الأسئلة على أستاذه في الدرس ، ولا يجد فيها جوابًا شافيًا فتحيّر في ذلك ، فحكي عنه أنه قال : وقع في صدري في بعض الليالي شيءٌ مما كنت فيه من العقائد ، فقمت وصليت ركعتين وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم ونمت ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليك بسنتي ، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار فأثبته ، ونبذت ما سواه ورائي ظهريًّا .
قال أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ في الجزء الحادي عشر من تاريخه المشهور صفحة 346 :
أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة ... إلى أن قال : وكانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعري فحجزهم في أقماع السمسم .
قال ابن فرحون في الديباج : أثنى على أبي الحسن الأشعري أبو محمد بن أبي زيد القيرواني وغيره من أئمة المسلمين . أ هـ .
وقال ابن العماد الحنبلي في الشذرات الجزء الثاني صفحة 303 :
ومما بيّض به أبو الحسن الأشعري وجوه أهل السنة النبوية وسوّد به رايات أهل الاعتزال والجهمية ، فأبان به وجه الحق الأبلج ، ولصدور أهل الإيمان والعرفان أثلج ، مناظرته مع شيخه الجبائي التي بها قصم ظهر كل مبتدعٍ مراءٍ وهي أعني المناظرة كما قال ابن خلكان : سأل أبو الحسن الأشعري أستاذه أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوةٍ كان أحدهم مؤمنًا برًّا تقيًّا ، والثاني كان كافرًا فاسقًا شقيًّا والثالث كان صغيرًا فماتوا فكيف حالهم ؟ فقال الجبائي : أما الزاهد ففي الدرجات وأما الكافر ففي الدركات وأما الصغير فمن أهل السلامة فقال الأشعري : إن أراد الصغير يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له ؟ فقال الجبائي : لا ، لأنه يقال له : أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بطاعاته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات فقال الأشعري : فإن قال ذلك التقصير ليس مني فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة فقال الجبائي : يقول البارئ جل وعلا : كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقًّا للعذاب الأليم فراعيت مصلحتك فقال الأشعري : فلو قال الأخ الأكبر : يا إله العالمين كما علمت حاله فقد علمت حالي فلمَ راعيت مصلحته دوني فانقطع الجبائي! .
وقال ابن العماد : وفي هذه المناظرة دلالةٌ على أن الله تعالى خص من شاء برحمته واختص آخر بعذابه . أ هـ .
وقال تاج الدين السبكي في " طبقات الشافعية الكبرى " : أبو الحسن الأشعري كبير أهل السنة بعد الإمام أحمد بن حنبل ، وعقيدته وعقيدة الإمام أحمد رحمه الله واحدةٌ لا شك في ذلك ولا ارتياب ، وبه صرّح الأشعري في تصانيفه وذكره غير ما مرة من أن عقيدتي هي عقيدة الإمام المبجل أحمد بن حنبل ، هذه عبارة الشيخ أبي الحسن في غير موضعٍ من كلامه . أ هـ .
وفضائل أبي الحسن الأشعري ومناقبه أكثر من أن يمكن حصرها في هذه العجالة ، ومن وقف على تواليفه بعد توبته من الاعتزال ، رأى أن الله تعالى قد أمده بمواد توفيقه وأقامه لنصرة الحق والذبّ عن طريقه .
وقد تنازع فيه أهل المذاهب ، فالمالكي يدعي أنه مالكي والشافعي يزعم أنه شافعي والحنفي كذلك .
قال ابن عساكر : لقيت الشيخ الفاضل رافعًا الحمال الفقيه ، فذكر لي عن شيوخه أن أبا الحسن الأشعري كان مالكيًّا ، فنسب من تعلق اليوم بمذهب أهل السنة وتفقه في معرفة أصول الدين من سائر المذاهب إلى الأشعري ، لكثرة تواليفه وكثرة قراءة الناس لها.
قال ابن فورك : توفي أبو الحسن الأشعري سنة 324هـ . انتهى .
وبعد ذكر هذه النتفة من ترجمة هذا الإمام نذكر ما يلي :
إثبات رجوعه عن الاعتزال وإثبات نسبة الإبانة إليه ، ننقل ذلك من المراجع الموثوق بها فنقول وبالله التوفيق . انتهى .
رجوع أبي الحسن عن الاعتزال إلى عقيدة السلف
قال الحافظ مؤرخ الشام أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي ، المتوفى سنة 571 هـ في كتابه " التبيين " :
قال أبو بكر إسماعيل بن أبي محمد بن إسحاق الأردي القيرواني المعروف بابن عزره : إن أبا الحسن الأشعري كان معتزليًّا ، وإنه أقام على مذهب الاعتزال أربعين سنةً ، وكان لهم إمامًا ثم غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يومًا ، فبعد ذلك خرج إلى الجامع بالبصرة ، فصعد المنبر بعد صلاة الجمعة وقال : معاشر الناس إني إنما تغيبت عنكم في هذه المدة لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة ، ولم يترجح عندي حقٌّ على باطلٍ ولا باطلٌ على حقٍّ ، فاستهديت الله تبارك وتعالى فهداني إلى ما أودعته في كتبي هذه ، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده ، كما انخلعت من ثوبي هذا وانخلع من ثوبٍ كان عليه ، ورمى به ودفع الكتب إلى الناس فمنها كتاب اللمع وغيره من تواليفه الآتي ذكر بعضها قريبًا إن شاء الله .
فلما قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنة والجماعة ، أخذوا بما فيها وانتحلوه واعتقدوا تقدمه واتخذوه إمامًا حتى نسب مذهبهم إليه ، فصار عند المعتزلة ككتابي أسلم وأظهر عوار ما تركه فهو أعدى الخلق إلى أهل الذمة ، وكذالك أبو الحسن الأشعري أعدى الخلق إلى المعتزلة ، فهم يشنعون عليه وينسبون إليه الأباطيل ، وليس طول مقام أبي الحسن الأشعري على مذهب المعتزلة مما يفضى به إلى انحطاط المنزلة ، بل يقضي له في معرفة الأصول بعلو المرتبة ويدل عند ذوي البصائر له على سمو المنقبة ، لأن من رجع عن مذهبٍ كان بعواره أخبر وعلى ردّ شبه أهله وكشف تمويهاتهم أقدر وبتبين ما يلبسون به لمن يهتدي باستبصاره أبصر ، فاستراحة من يعيره بذلك كاستراحة مناظر هارون بن موسى الأعور ، وقصته أن هارون الأعور كان يهوديًّا فأسلم وحسن إسلامه وحفظ القرآن وضبطه وحفظ النحو ، وناظره إنسانٌ يومًا في مسألةٍ فغلبه هارون فلم يدر المغلوب ما يصنع فقال له : أنت كنت يهوديًّا فأسلمت فقال له هارون : فبئس ما صنعت فغلبه هارون في هذا .
واتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن الأشعري كان إمامًا من أئمة أصحاب الحديث ومذهبه مذهب أصحاب الحديث ، تكلم في أصول الديانات على طريقة أهل السنة وردّ على المخالفين من أهل الزيغ والبدعة ، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين عن الملة سيفًا مسلولاً ، ومن طعن فيه أو سبه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة ، ولم يكن أبو الحسن الأشعري أول متكلمٍ بلسان أهل السنة ، و إنما جرى على سنن غيره و على نصرة مذهبٍ معروفٍ ، فزاده حجةً وبيانًا ، ولم يبتدع مقالةً اخترعها ولا مذهبًا انفرد به وليس له في المذهب أكثر من بسطه وشرحه كغيره من الأئمة .
وقال أبو بكر بن فورك : رجع أبو الحسن الأشعري عن الاعتزال إلى مذهب أهل السنة سنة 300هـ .
وممن قال من العلماء برجوع الأشعري عن الاعتزال أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان الشافعي المتوفى سنة 681هـ .
قال في " وفيات الأعيان " الجزء الثاني صفحة 446 : كان أبو الحسن الأشعري معتزليًّا ثم تاب ، ومنهم عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي المتوفى سنة 774هـ .
قال في " البداية والنهاية " الجزء الحادي عشر صفحة 187 : إن الأشعري كان معتزليًّا فتاب منه بالبصرة فوق المنبر ، ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم ومنهم شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الدمشقي الشافعي الشهير بالذهبي المتوفى سنة 748هـ .
قال في كتابه " العلو للعلي الغفار " : كان أبو الحسن أولاً معتزليًّا أخذ عن أبي علي الجبائي ثم نابذه ورد عليه وصار متكلمًا للسنة ووافق أئمة الحديث ، فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن ولزموها لأحسنوا ، ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء ومشوا خلف المنطق فلا قوة إلا بالله .
وممن قال برجوعه تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي الشافعي المتوفى سنة 771هـ ، قال في طبقات الشافعية الكبرى الجزء الثاني صفحة 246 : أقام أبو الحسن على الاعتزال أربعين سنة حتى صار للمعتزلة إمامًا فلما أراده الله لنصرة دينه وشرح صدره لاتباع الحق غاب عن الناس في بيته ، وذكر كلام ابن عساكر المتقدم بحروفه ، ومنهم برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري المدنيّ المالكي المتوفى سنة 799هـ ، قال في كتابه "الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب " صفحة 139 : كان أبو الحسن الأشعري في ابتداء أمره معتزليًّا ، ثم رجع إلى هذا المذهب الحق ومذهب أهل السنة فكثر التعجب منه ، وسئل عن ذلك فأخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فأمره بالرجوع إلى الحق ونصره ، فكان ذلك الحق ، والحمد لله تعالى.
ومنهم السيد محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى ، قال في كتابه " إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين " الجزء الثاني صفحة3 قال : أبو الحسن الأشعري أخذ علم الكلام عن شيخ أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة ، ثم فارقه لمنامٍ رآه ورجع عن الاعتزال وأظهر ذلك إظهارًا ، فصعد منبر البصرة يوم الجمعة ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن ، وإن الله لا يُرى في الدار الآخرة بالأبصار ، وإن العباد يخلقون أفعالهم ، وها أنا تائبٌ من الاعتزال معتقدًا الرد على المعتزلة ، ثم شرع في الرد عليهم والتصنيف على خلافهم ، ثم قال : قال ابن كثير: ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوالٍ أولها : حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة ، والحال الثاني : إثبات الصفات العقلية السبعة ، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وتأويل الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك ، والحال الثالث : إثبات ذلك كله من غير تكييفٍ و لا تشبيهٍ جريًا على منوال السلف ، و هي طريقته في الإبانة التي صنفها آخرًا .
وبهذه النقول عن هؤلاء الأعلام ثبت ثبوتًا لا شك فيه ولا مرية ، أن أبا الحسن الأشعري استقرّ أمره أخيرًا بعد أن كان معتزليًّا على عقيدة السلف التي جاء بها القرآن الكريم وسنة النبي عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم .
وبعد إتمام هذا البحث حول رجوعه عن الاعتزال نقرأ بحثًا ثانيًا في صحة نسبة " الإبانة في أصول الديانة إليه " ، ردًّا على بعض الأغمار الذين زعموا أنها مدسوسةً عليه ، وهذا هو بيت القصيد فنقول و بالله نستعين :
ثبوت نسبة الإبانة إلى أبي الحسن الأشعري والرد على من أنكر ذلك وزعم أنها مدسوسةً .
وقبل البحث في صحة نسبة هذا الكتاب إلى أبي الحسن الأشعري نذكر نبذةً قليلةً من تواليفه التي ألفها بعد توبته من الاعتزال ، فنقول : قال الحافظ ابن عساكر في كتابه " تبيين كذب المفتري " : ذكر ابن حزم الظاهري أن لأبي الحسن الأشعري خمسةً وخمسين تصنيفًا ، ثم قال : ترك ابن حزم من عدد مصنفاته أكثر من مقدار النصف ، وبعد ذلك سردها فقال : منها كتاب اللمع ، وكتابٌ أظهر فيه عوار المعتزلة سماه بكتاب " كشف الأسرار وهتك الأستار " ، ومنها تفسيره "المختزن " وهو خمسمائة مجلدٍ ، لم يترك فيه آيةً تعلق بها بدعيٌّ إلا أبطل تعلقه بها وجعلها حجةً لأهل الحق وبيّن المجمل وشرح المشكل ونقض فيه ما حرّفه الجبائي والبلخي في تفسيريهما ، ومنها الفصول في الرد على الملحدين والخارجين على الملة كالفلاسفة والطبائعيين والدهريين وأهل التشبيه ، ومنها مقالات المسلمين استوعب فيه جميع اختلافهم ومقالاتهم ، وذكرها الحافظ ابن عساكر بأسمائها وموضوعاتها في كتابه " التبيين " من صفحة 128 إلى صفحة 136 ، وقد أطلعت أنا الجامع لهذه الرسالة على ثلاثةٍ من الكتب المذكورة وهي مطبوعة : اللمع والإبانة والمقالات الإسلامية ، وقال ابن عساكر في صفحة 28 من التبيين : وتصانيف أبي الحسن الأشعري بين أهل العلم مشهورةٌ معروفةٌ وبالإجادة والإصابة للتحقيق عند المحققين موصوفةٌ ، ومن وقف على كتابه المسمى بالإبانة عرف موضعه من العلم والديانة .
ثم قال في صفحة 152 : فإذا كان أبو الحسن كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد مستصوب المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد ، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد ، فلا بد من أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ، ونتجنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركًا للخيانة ، لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة ، فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه بالإبانة ، ونذكر ما يأتي في آخر الرسالة إن شاء الله تعالى .
ثم قال في صفحة 171 في جملة أبياتٍ نسبها لبعض المعاصرين له :
لو لم يصنف عمره غير الإبانة واللمع
لكفى فكيف وقد نفنن في العلوم بما جمع
مجموعةً تربي على المئتـ ين مما قد صنع
لم يأل في تصنيفها أخذًا بأحسن ما استمع
فهدى بها المسترشد ين ومن تصفحها انتفع
تتلى معاني كتبه فوق المنابر في الجمع
ويخاف من إفحامه أهل الكنائس والبيع
فهو الشجا في حلق من ترك المحجة وابتدع
وممن عزا الإبانة إلى أبي الحسن الأشعري الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البهيقي الشافعي المتوفى في سنة 458هـ ، قال في كتاب " الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد " في باب القول في القرآن صفحة 31 : ذكر الشافعي رحمه الله ما دل على أن ما نتلوه من القرآن بألسنتنا نسمعه بآذاننا ونكتبه بمصاحفنا يسمى كلام الله عز وجل ، وإن الله عز وجل كلم به عباده بأن أرسل به رسوله صلى الله عليه و سلم ، و بمعناه ذكره أيضًا علي بن إسماعيل في كتاب " الإبانة " .
وقال في صفحة 32 من الكتاب المذكور آنفًا : قال أبو الحسن علي بن إسماعيل في كتابه يعني الإبانة : فإن قال قائلٌ حدثونا أتقولون : إن كلام الله عز وجل في اللوح المحفوظ قيل له : نقول ذلك ، لأن الله قال : " بل هو قرآنٌ مجيدٌ . في لوحٍ محفوظٍ " فالقرآن في اللوح المحفوظ وهو في صدور الذين أوتوا العلم وهو متلوٌّ بالألسنة ، قال تعالى : " لا تحرك به لسانك " والقرآن مكتوبٌ في مصاحفنا في الحقيقة محفوظٌ في صدورنا في الحقيقة متلوٌّ بألسنتنا في الحقيقة مسموعٌ لنا في الحقيقة كما قال تعالى : " فأجره حتى يسمع كلام الله " .
ثم قال في صفحة 26 بعد سرد الأدلة عل أن القرآن كلام الله غير مخلوقِ : وقد احتج علي ابن إسماعيل الأشعري رحمه الله بهذه الفصول . أ هـ من نسخةِ مخطوطةِ يرجع تاريخ خطها إلى سنة 1086هـ .
وممن ذكر الإبانة وعزاها لأبي الحسن الأشعري ، الحافظ المعروف بالذهبي قال في كتابه " العلو للعلي الغفار " صفحة 278 ، قال الأشعري في كتاب " الإبانة في أصول الديانة " له في باب الاستواء : فإن قال قائلٌ : ما تقولون في الاستواء قيل : نقول إن الله مستوٍ على عرشه كما قال : " الرحمن على العرش استوى " إلى آخر ما في الإبانة .
ثم قال : وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن الأشعري ، شهره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه ونسخه بخط الإمام محيي الدين النووي ، وذكر الذهبي عن الحافظ أبي العباس أحمد بن ثابت الطرقي أنه قال : قرأت في كتاب أبي الحسن الأشعري الموسوم بالإبانة أدلةً على إثبات الاستواء ، ونقل عن أبي علي الدقاق أنه سمع زاهر بن أحمد الفقيه يقول : مات الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري فكان يقول شيئًا في حال نزعه : لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا . ا هـ كلام الذهبي .
وممن نسبها إلى أبي الحسن الأشعري ابن فرحان المالكي ، قال في كتابه "الديباج " صفحة 193 إلى صفحة 194 : ولأبي الحسن الأشعري كتبٌ منها كتاب اللمع الكبير وكتاب اللمع الصغير وكتاب الإبانة في أصول الديانة . أ هـ .
وممن عزاها لأبي الحسن الأشعري أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ ، قال في الجزء الثاني من كتابه " شذرات الذهب في أعيان من ذهب " صفحة 303 : قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة في أصول الديانة ، وهو آخر كتابٍ صنفه : وعليه يعتمد أصحابه في الذبّ عنه عند من يطعن عليه ، ثم ذكر فصلاً كاملاً من الإبانة .
و ممن عزاها لأبي الحسن الأشعري السيد مرتضى الزبيدي ، قال في " إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين " في الجزء الثاني صفحة 2 قال : صنف أبو الحسن الأشعري بعد رجوعه من الاعتزال الموجز ، وهو في ثلاث مجلداتٍ كتابٌ مفيدٌ في الرد على الجهمية والمعتزلة ومقالات الإسلاميين وكتاب الإبانة .
وقد تقدم حكايةً عن ابن كثير أن الإبانة هي آخر كتابٍ صنفه أبو الحسن الأشعري ، وممن ذكر أن الإبانة تأليف أبي الحسن الأشعري : أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الشافعي ، قال في رسالته " الذب عن أبي الحسن الأشعري " : اعلموا معشر الإخوان أن كتاب الإبانة عن أصول الديانة الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده ، وبه كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه من الاعتزال بمنّ الله ولطفه ، و كل مقالةٍ تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه فقد رجع عنها وتبرأ إلى الله سبحانه منها ، وكيف وقد نص فيه على أن ديانته التي يدين الله سبحانه بها ، وروى وأثبت أنه ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين ، وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين ، وأن ما فيه هو الذي يد ل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهل يسوغ أن يقال : إنه رجع عن هذا إلى غيره ، فإلى ماذا يرجع أتراه يرجع عن كتاب الله وسنة نبي الله خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الحديث المرضيون ، وقد علم أنه مذهبهم ورواه عنهم ؟ ! .
هذا لعمري ما لا يليق نسبته إلى عوام المسلين ، وكيف بأئمة الدين ، أو هل يقال : إنه جهل الأمر فيما نقله عن السلف الماضين مع إفنائه جُلّ عمره في استقراء المذاهب وتعرف الديانات ، هذا مما لا يتوهمه منصفٌ ولا يزعمه إلا مكابرٌ مسرفٌ.
وقد ذكر الإبانة واعتمد عليها وأثبتها عن الإمام أبي الحسن الأشعري وأثنى عليه بما ذكره فيها وبرّأه من كل بدعةٍ نسبت إليه ، ونقل منها إلى تصنيفه جماعةٌ من الأئمة الأعلام من فقهاء الإسلام وأئمة القراء وحفاظ الحديث وغيرهم .
وذكر ابن درباس طائفةً من الذين قدمنا ذكرهم ، وزاد الحافظ أبا العباس أحمد بن ثابت العراقي ، وذكر عنه أنه قال في بيان مسألة الاستواء من تأليفه : رأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي علو الله على العرش وتأويل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري ، وما هذا بأول باطلٍ ادعوه وكذبٍ تعاطوه ، فقد قرأت في كتابه الموسوم بالإبانة عن أصول الديانة أدلةً من جملة ما ذكرته على إثبات الاستواء ومنهم الإمام الأستاذ الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني ، ذكر عنه أنه ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا بيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ويظهر الإعجاب بها ، ويقول : ما الذي ينكر عليّ من هذا الكتاب شرح مذهبه ، هذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان ، ومنهم إمام القراء أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الفارسي ذكر الإمام
أبا الحسن الأشعري رحمة الله عليه فقال : وله كتابٌ في السنة سماه كتاب الإبانة صنفه ببغداد لما دخلها ، و ذكر ابن درباس أنه وجد كتاب الإبانة في كتب أبي الفتح نصر المقدسي رحمه الله ببيت المقدس ، وقال : رأيت في بعض تأليفه أصولاً منها بخطه .
ومنهم الفقيه أبو المعالي مجلى صاحب كتاب الذخائر في الفقه ، قال ابن درباس : أنبأني غير واحدٍ عن الحافظ أبي محمد المبارك بن علي البغدادي ، ونقلته أنا من خطه في آخر كتاب الإبانة ، قال : نقلت هذا الكتاب جميعه من نسخةٍ كانت مع الشيخ الفقيه مجلى الشافعي ، أخرجها في مجلدةٍ فنقلتها وعارضت بها ، وكان رحمه الله يعتمد عليها وعلى ما ذكره فيها ، ويقول : لله من صنفه ، ويناظر على ذلك من ينكره ، وذكر ذلك لي وشافني به وقال : هذا مذهبي وإليه أذهب ، نقلت هذا في سنة 540 هـ بمكة ، وهذا آخر ما نقلت من خط ابن الطباخ ، وذكر فيمن عزاها إلى أبي الحسن أبا محمد بن علي البغدادي نزيل مكة ، قال ابن درباس : شاهدت نسخةً من كتاب " الإبانة " بخطه من أوله إلى آخره ، وهي بيد شيخنا الإمام رئيس العلماء الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن بن المفضل المقدسي ، ونسخت منها نسخةً وقابلتها عليها بعد أن كنت كتبت نسخةً أخرى مما وجدته في كتاب الإمام نصر المقدسي ببيت المقدس ، ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيمٍ من عظماء الجهمية المنتمين افتراءً إلى أبي السحن الأشعري ببيت المقدس فأنكرها وجحدها وقال : ما سمعنا بها قط ولا هي من تصنيفه واجتهد آخرًا في إعمال رويته ليزيل الشبهة بفطنته فقال بعد تحريك لحيته : لعله ألفها لما كان حشويًّا ، قال ابن درباس : فما دريت من أي أمرٍ به أعجب أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في تصانيفه من العلماء ، أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته من الاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها ، فإذا كانوا بحال من ينتمون إليه بهذه المثابة ، فكيف يكونون بحال السلف الماضين وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأعلام الفقهاء والمحدثين وهم لا يلوون على كتبهم ولا ينظرون في آثارهم ، وهم والله بذلك أجهل وأجهل كيف لا وقد قنع بعض من ينتمي منهم إلى أبي الحسن الأشعري بمجرد دعواه ، وهو في الحقيقة مخالفٌ لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها ، قد ذهب صاحب التأليف إلى المقالة الأولى وكان خلاف ذلك أحرى به وأولى لتستمر القاعدة وتصير الكلمة واحده ، انتهى كلام ابن درباس رحمه الله .
وممن ذكر الإبانة ونسبها إلى أبي الحسن الأشعري تقي الذدن أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الشهير بابن تيمية ، المتوفى سنة 728هـ قال في الفتوى الحموية الكبرى صفحة 72 : قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه " الإبانة في أصول الديانة " : وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتابٍ صنفه ، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه ، فقال : فصلٌ في إبانة قول أهل الحق والسنة ، وذكر ما في أول كتاب الإبانة بحروفه ، وسيأتي ذكره إن شاء الله قريبًا .
وممن عزاها إلى أبي الحسن الأشعري شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ، المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي المتوفى سنة 751هـ ، قال في كتابه " اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " الطبعة الهندية صفحة 111 : قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولما رجع الأشعري من مذهب المعتزلة سلك طريق أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل ، كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها .
ثم قال ابن القيم : وأبو الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كالحسن الطبري وأبي عبد الله بن المجاهد والقاضي أبي عبد الله بن المجاهد والقاضي أبي بكر الباقلاني ، متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين ، وعلى إبطال تأويلها وليس للأشعري في ذلك ولأبي المعالي الجويني في تأويلها قولان أولها : في الإرشاد ورجع عن تأوليها في رسالته النظامية وحرمه ، ونقل إجماع السلف على تحريمه وأنه ليس بواجبٍ ولا جائزٍ ، ثم ذكر ابن القيم قول أبي الحسن الأشعري إمام الطائفة الأشعرية ، ثم قال : نذكر كلامه فيما وقفنا عليه من كتبه كالموجز والإبانة والمقالات ، وقال ابن القيم في قصيدته النونية التي سماها الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية الطبعة المصرية صفحة 68 : والأشعري قال تفسير استوى بحقيقة استولى من بهتان :
هو قول أهل الاعتزال وقول أتـ باع لجهم وهو ذو بطلان
في كتبه قد قال ذا من موجز وإبانة ومقالة ببيان
وقال في صفحة 69 من الكتاب المذكور آنفًا :
وحكى ابن عبد البر في تمهيده وكتاب الاستذكار غير جبان
إجماع أهل العلم أن الله فو ق العرش بالإيضاح والبرهان
وأتى هناك بما شفى أهل الهدى لكنه مرض على العميان
وكذا علي الأشعري فإنه في كتبه قد جاء بالتبيان
من مؤجز وإبانة ومقالة ورسائل للثغر ذات بيان
وأتى بتقرير استواء الرب فو ق العرش بالايضاح والبرهان
وأتى بتقرير العلو بأحسن التقر ير فأنظر كبته بعيان . انتهى
قلت : هذه نقول الأئمة الأعلام التي تضمنت بالصراحة التي لا يتناطح عليها عنزان ، أن كتاب الإبانة ليس مدسوسًا على أبي الحسن الأشعري كما زعمه الأغمار من المقلدة ، بل هو من تواليفه التي ألفها أخيرًا واستقر أمره على ما فيها من عقيدة السلف التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية ، وبعد هذا رغبت أن أتحف القارئ بقطعةٍ من عقيدة هذا الإمام التي رجع إليها وذكرها في إبانته ، أذكرها بفصها ونصها ليظهر لكل منصفٍ قرأها يفهم أن أبا الحسن الأشعري تاب من التعطيل والتأويل ، كما أنه ليس بممثلٍ بل هو مثبتٌ ومعتقدٌ كل ما أخبر الله به عن نفسه في كتباه أو أخبر به عنه نبيه عليه الصلاة والسلام من غير تعطيلٍ ولا تأويلٍ ولا تمثيلٍ ، أقول : قال أبو الحسن الأشعري في إبانته بابٌ في إبانة قول أهل الحق والسنة : فإن قال لنا قائلٌ : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا عليه السلام وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ، ولما خالف قوله مخالفون ، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمامٍ مقدمٍ وجليلٍ معظمٍ مفخمٍ .
وجملة قولنا : أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله بما جاؤوا به من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا نرد من ذلك شيئًا ، وأن الله عز وجل إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو فردٌ صمدٌ لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا ، وأن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال : " الرحمن على العرش استوى " ، وأن له وجهًا كما قال : " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ، وأن له يدين بلا كيفٍ كما قال : " لما خلقت بيدي " ، وكما قال : " بل يداه مبسوطتان " وأن له عينين بلا كيفٍ كما قال : " تجري بأعيننا " ، وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاًّ ، وأن لله علمًا كما قال : " أنزله بعلمه " ، وكما قال : " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " ، ونثبت لله السمع والبصر ، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ، ونثبت أن لله قوةً كما قال :" أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً " ، ونقول : إن كلام الله غير مخلوقٍ ، وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له : كن كما قال : " إنما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " وأنه لا يكون في الأرض شيءٌ من خيرٍ وشرٍ إلا ما شاء الله ، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل ، وأن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله ، ولا يستغني عن الله ، ولا يقدر على الخروج عن علم الله عز وجل ، وأنه لا خالق إلا الله ، وأن أعمال العبد مخلوقةٌ لله مقدرةٌ كما قال : " خلقكم وما تعملون " ، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وهم يخلقون كما قال : " هل من خالقٍ غير الله : " وكما قال: " لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون " وكما قال : " أفمن يخلق كمن لا يخلق " ، وكما قال :" أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون " .
وهذا في كتاب الله كثيرٌ ، وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالآيات كما زعم أهل الزيغ والطغيان ، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين ، ولو هداهم لكانوا مهتدين ، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم وطبع على قلوبهم ، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ، وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا ، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا إلا بالله كما قال عز وجل ، ونلجئ أمورنا إلى الله ، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقتٍ إليه ، ونقول إن كلام الله غير مخلوقٍ ، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافرٌ ، وندين بأن الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ، كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونقول : إن كافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة ، كما قال عز وجل : " كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون " ، وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا ، وندين بأن لا نكفر أحدًا من القبلة بذنبٍ يرتكبه كالزنى والسرقة وشرب الخمر ، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون ، ونقول إن من عمل كبيرةً من هذه الكبائر مثل الزنى والسرقة وما أشبههما مستحلا لها غير معتقدٍ لتحريمها كان كافرًا ، ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلامٍ إيمانٌ ، وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل وأنه عز وجل يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع ، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وندين بأن لا ننزل أحدًا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنةً ولا نارًا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، ونرجوا الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ، ونقول إن الله عز وجل يخرج قومًا من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقًا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض وأن الميزان حقٌّ والصراط حقٌّ والبعث بعد الموت حقٌّ ، وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين ، وأن الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص ، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلٌ عن عدلٍ حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وندين بحب السلف الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه عليه السلام ، ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم ونتولاهم أجمعين ، ونقول إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكرٍ الصديق رضوان الله عليه وإن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين ، وقدمه المسلمون بالإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ، وسموه أجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه وإن الذين قاتلوه قاتلوه ظلمًا وعدوانًا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ، ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ونكف عما شجر بينهم ، وندين الله بأن الأئمة الأربع خلفاء راشدون مهديون فضلاً لا يوازيهم في الفضل غيرهم ، ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا ، وأن الرب عز وجل يقول : هل من سائلٍ هل من مستغفرٍ وبسائر ما نقلوه وأثبتوه ، خلافًا لما قال أهل الزيغ والتضليل ، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه ، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا ، ولا نقول على الله ما لا نعلم ، ونقول إن الله عز وجل يجيء يوم القيامة كما قال : " وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا " وأن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء كما قال : " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " وكما قال : " ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى " ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل برٍّ وغبره كما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج وأن المسح على الخفين سنةٌ في الحضر والسفر خلاف لمن أنكر ذلك ، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم ، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة ، وندين بإنكار الخروج بالسيف وترك القتال في الفتنة ، ونقرّ بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونؤمن بعذاب القبر ونكير ومنكر ومسائلتهما المدفونين بقبورهم ، ونصدق بحديث المعراج ، ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام ، ونقر أن لذلك تفسيرًا ، ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ، ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرةً وسحرًا وأن السحر كائنٌ موجودٌ في الدنيا ، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارتهم ، ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات وقتل فبأجله مات وقتل ، وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً وحرامًا ، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويسلكه ويتخبطه خلافًا لقول المعتزلة الجهمية كما قال الله عز وجل : " الذين يأكلون الربى لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " وكما قال : " من شر الوسواس الخناس . الذي يوسوس في صدور الناس . من الجنة والناس " آونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عز وجل بآياتٍ يظهرها عليهم ، وقولنا في أطفال المشركين أن الله يؤجج لهم في الآخرة نارًا ثم يقول لهم : اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية ، وندين الله عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون ، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ، ونرى مفارقة كل داعيةٍ إلى بدعته ومجانبة أهل الهوى . انتهى بحروفه.
هذا مجمل عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري التي استقر أمره عليها بعد أن أقام على مذهب الاعتزال أربعين عامًا .
ذكره في أول كتابه الإبانة وفصله بابًا بابًا ، فراجعها إن شئت تجد ما يشفي ويكفي .
فتأمل أيها الأخ المنصف هذه العقيدة ما أوضحها وأبينها ، واعترف بفضل هذا الإمام العالم الذي شرحها وبيّنها ، وانظر سهولة لفظها فما أفصحه وأحسنه ، وكن ممن قال الله فيهم : " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " وتبين فضل أبي الحسن الأشعري واعرف إنصافه واسمع وصفه للإمام أحمد بن حنبل بالفضل لتعلم أنهما كانا في الاعتقاد متفقين وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين .
ولعمري إن هذه العقيدة ينبغي لكل مسلمٍ أن يعتقدها ، ولا يخرج عن شيءٍ منها إلا من في قلبه غشٌ ونكدٌ .
نسأل الله تعالى الثبات عليها ونستودعها عند من لا تضيع عنده وديعةٌ ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ معلم الخيرات ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومٍ تجزى فيه الحسنات .
http://www.sunnah.org.sa/doctrine-modern/66-2010-06-27-12-55-24/506-2010-08-05-01-17-07