الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد .
إن كيفية معرفة العلة الواقعة في الحديث لأمر في غاية الأهمية ، لابد لطالب العلم أن يقف عليه ، وأن يعيه جيدا ، وقبل الشروع في هذا الأمر بشكل مختصر ، لابد من معرفة العلة ابتداء لغة واصطلاحا ، ومن ثم الوقوف على أنواعها ، ثم كيفية معرفتها.
العلة في اللغة :
العلة : مفرد، جمعه : علل .
والعلة : بكسر العين وتشديد اللام المفتوحة ، تطلق على معان متعددة ، يمكن إرجاعها إلى أصل واحد ، هو : معنى يحل بالمحل فيتغير به حال المحل .
ومنه سمي المرض علة ؛ لأن بحلوله يتغير الحال من القوة إلى الضعف .
قال ابن فارس في مقاييس اللغة 4 / 9 :
العِلّةُ: المرض، وصاحبُها مُعتلّ. قال ابنُ الأعرابيّ: عَلّ المريض يَعِلُّ عِلّة فهو عليل . ورجل عُلَلَة، أي كثير العِلَل.ومن هذا الباب وهو باب الضَّعف: العَلُّ من الرِّجال: المُسِنّ الذي تَضاءل وصغُر جسمُه.
وتطلق العلة على السبب ، فيقال : هذه علته : أي سببه ، وهذا علة لهذا : أي سبب له .أهـ
أما العلة في اصطلاح المحدثين :
فهي سبب خفي غامض يطرأ على الحديث فيقدح في صحته .
والحديث المعلل ( أو المعل ) :
قال ابن الصلاح في علوم الحديث ص 90 : هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي اطُّلِعَ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ السَّلَامَةُ مِنْهَا .أهـ
غموض علم العلل ودقته :
قال السخاوي في فتح المغيث 1 / 235 :
هذا النوع من أغمض الأنواع وأدقها ؛ ولذا لم يتكلم فيه - كما سلف - إلا الجهابذة أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب مثل ابن المديني وأحمد والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني ، ولخفائه كان بعض الحفاظ يقول : معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل ، وقال ابن مهدي : هي إلهام لو قلت للقيم بالعلل : من أين لك هذا ؟لم تكن له حجة . يعني : يعبر بها غالبا ، وإلا ففي نفسه حجج للقبول وللرفض .
وسئل أبو زرعة عن الحجة لقوله فقال : إن تسألني عن حديث ثم تسأل عنه ابن وارة وأبا حاتم وتسمع جواب كل منا ولا تخبر واحدا منا بجواب الآخر ، فإن اتفقنا فاعلم حقيقة ما قلنا ، وإن اختلفنا فاعلم أنا تكلمنا بما أردنا . ففعل ، فاتفقوا ، فقال السائل: أشهد أن هذا العلم إلهام .
وسأل بعض الأجلاء من أهل الرأي أبا حاتم عن أحاديث ، فقال في بعضها : هذا خطأ دخل لصاحبه حديث في حديث ، وهذا باطل ، وهذا منكر ، وهذا صحيح . فسأله : من أين علمت هذا ؟ أخبرك الراوي بأنه غلط أو كذب ؟! فقال له : لا ،ولكني علمت ذلك . فقال له الرجل : أتدعي الغيب ؟ فقال : ما هذا ادعاء غيب . قال : فما الدليل على قولك ؟ فقال : أن تسأل غيري من أصحابنا فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف .
فذهب الرجل الى أبي زرعة وسأله عن تلك الأحاديث بعينها ، فاتفقنا ، فتعجب السائل من اتفاقهما من غير مواطأة ، فقال له أبو حاتم : أفعلمت أنا لم نجازف . ثم قال : والدليل على صحة قولنا أنك تحمل دينارا بهرجا - قلت : هو الرديء - إلى صيرفي ، فإن أخبرك أنه بهرج ، وقلت له : أكنت حاضرا حين بهرج ، أو هل أخبرك الذي بهرجه بذلك . يقول لك : لا ، ولكن علم رزقنا معرفته ، وكذلك إذا حملت إلى جوهري فص ياقوت وفص زجاج يعرف ذا من ذا .
ونحن نعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه ، وأن يكون كلاما يصلح أن يكون كلام النبوة ، ونعرف سقيمه ونكارته بتفرد من لم تصح عدالته .
وهو كما قال غيره : أمر يهجم على قلبهم لا يمكنهم رده ، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها ، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر لا ينكر عليهم بل يشاركهم ويحذو حذوهم ، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة ، هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح ،كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله ، ومن تعاطي تحرير فن غير فنه ، فهو متعنت ، فالله تعالى بلطيفعنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين ، فتقليدهم والمشي وراءهم وإمعان النظر في تواليفهم وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم وجودة التصور ومدومة الاشتغال وملازمة التقوى والتواضع يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية ، ولا قوة إلا بالله .أهـ
ولا يفهم من كلام ابن مهدي وأبي زرعة وأبي حاتم المتقدم ذكره ، أن الحكم في العلل أمر مزاجي لا ضابط ولا مسوغ له في لغة العلم ، فليس الأمر كما يتوهمه البعض ، بل إن الأمر كما قال السخاوي تعقيبا على قول ابن مهدي : يعني يعبر بها غالبا وإلا ففي نفسه حجج للقبول وللرفض .
وهذا السبب من أسباب اختلاف المحدثين في الحكم على الحديث قبولا وردَّا ، يعد من أدق أسباب الاختلاف وأخفاها ، حيث نجد بعض الحفاظ يحكمون على حديث من الأحاديث بالصحة لما يظهر لهم من اتصال السند وعدالة الرواة ، ثم يظهر لبعض الحفاظ علة خفية فيه تقدح بصحته ، مع أن ظاهره السلامة منها ، فيحكم بضعفه ووهنه .
ونجد في بعض الأحايين بعض الحفاظ يعل حديثا بعلة وقعت فيه ، إلا أن البعض الآخر لا يعبترها قادحة في صحته ، والآخر يعتبرها قادحة تقدح في صحته ، فيحكم علبه بالضعف ، كما هو الشأن في بعض الأحاديث المضطربة ، حيث إن الاضطراب علة من علل الحديث المؤثرة على صحته ، إلا أن البعض الآخر ينفي أن يكون هذا الاضطراب مؤثرا ، كأن يتمكن من الجمع بين الروايات التي حكم باضطرابها ، فيختلف الحكم حينئذ بين الفريقين .
أنواع العلة :
أنواع العلة القادحة التي يعل بها المحدثون الأحاديث كثيرة ، منها : الانقطاع في الموصول ، والوقف في المرفوع ، والإرسال ، أو إدراج حديث في حديث ، أو غير ذلك مما غلب على ظن النقد ، فيحكم عليه بعدم صحته ، أو على الأقل يتردد فيتوقف فيه ، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه.انظر علوم الحديث لابن الصلاح ص 90 .
وقال الحاكم النيسابوري في معرفة علوم الحديث :
وإنما يعلل الحديث من أوجه للجرح فيها مدخل ، فإن حديث المجروح ساقط واهٍ . وعلة الحديث يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة فيخفى عليهم علمه ، فيصير الحديث معلولًا، والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير.أهـ
وقد يطلق اسم العلة على غير ما ذكر من الأسباب التي تقدح في صحة الأحاديث .
قال أبو عمرو ابن الصلاح في مقدمته :
ثُمَّ اعْلَمْ : أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْعِلَّةِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بَاقِي الْأَسْبَابِ الْقَادِحَةِ فِي الْحَدِيثِ الْمُخْرِجَةِ لَهُ مِنْ حَالِ الصِّحَّةِ إِلَى حَالِ الضَّعْفِ ، الْمَانِعَةِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى لَفْظِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ فِي كُتُبِ عِلَلِ الْحَدِيثِ الْكَثِيرَ مِنَ الْجَرْحِ بِالْكَذِبِ ، وَالْغَفْلَةِ ، وَسُوءِ الْحِفْظِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَرْحِ .
وَسَمَّى التِّرْمِذِيُّ النَّسْخَ عِلَّةً مِنْ عِلَلِ الْحَدِيثِ .
ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهُمْ أَطْلَقَ اسْمَ الْعِلَّةِ عَلَى مَا لَيْسَ بِقَادِحٍ مِنْ وُجُوهِ الْخِلَافِ ، نَحْوَ إِرْسَالِ مَنْ أَرْسَلَ الْحَدِيثَ الَّذِي أَسْنَدَهُ الثِّقَةُ الضَّابِطُ حَتَّى قَالَ : مِنْ أَقْسَامِ الصَّحِيحِ مَا هُوَ صَحِيحٌ مَعْلُولٌ ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : مِنَ الصَّحِيحِ مَا هُوَ صَحِيحٌ شَاذٌّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .أهـ
قال الحافظ العراقي في شرح ألفيته 1 / 290 معقبا على تسمية الترمذي النسخ : علة :
فإنْ أرادَ الترمذيُّ أنّهُ علّةٌ في العملِ بالحديثِ، فهو كلامٌ صحيحٌ فاجنح له، أي مِلْ إلى كلامِهِ ، وإنْ يُرد أنّهُ علةٌ في صحةِ نقلِهِ، فلا؛ لأنَّ في الصحيحِ أحاديثَ كثيرةً منسوخةً .أهـ
يتبع بإذن الله ..