الصراحة المظلومة
ا.د.ابراهيم الحمد
http://toislam.net/content/719/
كثيراً ما يُثنى على فلان من الناس بأنه صريح من جهة أنه يجهر بما في نفسه من نحو الآراء، والعواطف؛ فلا يكتمها، ولا يَدُلُّ عليها بتعريض، أو كنايات خفية.
وكثيراً ما تسمع من بعض الناس فخره بنفسه بأنه صريح، وأن صراحته وليدة الشجاعة، والإخلاص، والسلامة من النفاق والمواربة.
وقد يأتيك إنسان _أحياناً_ فيقدم لك مقدمة يقرر فيها: أن المؤمن مرآة أخيه، ثم يمطر عليك بعدها وابلاً من الملاحظات دون مراعاة للذوق، أو أسلوب النصيحة.
ثم يختم ذلك بقوله: أنا صريح أضرب بالوجه مباشرة!.
وما هكذا تورد الإبل، ولا كان ذلك من سنن الإسلام، ولا من هدي سيد الأنام؛ فلقد بوب الإمام البخاري في كتابه الأدب من صحيحه باباً سماه: (باب من لم يواجه بالعتاب) وساق تحته حديث: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؛ فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم خشية له(6101).
وحديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي " أشد حياءً من العذراء في خدرها؛ فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه (6102).
وفي مقابل ذلك تجد من يبدي الملاحظات تلو الملاحظات في المجالس والمنتديات على فلان من الناس في غَيبته.
وإذا لامه أحدٌ على هذا الأسلوب، قال: أنا صريح، ولا أوافق على الأخطاء، ولابد لي من إبداء الملاحظات التي أراها.
وإذا قيل له: واجهْ صاحبَ الخطأ خصوصاً إذا كان ذلك ميسوراً _ تعلل بأنه يستحيي منه، ولا يريد مواجهته بما يكره.
ولا ريب أن هذا المفهوم للصراحة ظلم لها، ووضع لها في غير مواضعها.
والحقيقة أن الصراحة التي تعد من خصال الحمد _ واقعة بين طرفين مذمومين؛ فطرف الإفراط فيها يرجع إلى العجلة، والطيش، وقلة التروي، وضمور الذوق، وقلة النظر فيما تثيره بعض الأقوال الصريحة من عداوات خاصة، أو فتن عامة، وما تجلبه من أذى، وهمٍّ لمن تُوَجَّه إليه.
وجانب التفريط فيها يرجع إلى علة الجبن، أو الطمع، أو الجهل بما تأتي به الصراحة من خير كثير، وثمارٍ يانعة.
فليس من شرط الصراحة أن يكون الإنسان صفيقاً، قليل الذوق، لا يراعي المشاعر، ولا يتحرى الأساليب التي تجعل الصراحة خفيفة الوقع على الأسماع.
وليس من شرطها أن يُفْصح الإنسان عما بَدَا له في أي صورةٍ ما؛ دون مراعاة لعامل الزمان، والمكان، والأحوال، والأشخاص.
ثم إن المرآة _كما يزعم بعضهم أنه مثلها_ لا تأتي إلى الإنسان لتريه عيوبه، وإنما هو الذي يجيء إليها.
كما أنها لا تريه عيوبه فحسب، بل تريه _ مع ذلك _ محاسنه.
كما أنها تريه ظاهره لا باطنه ومقاصده، وتريه وجهه لا قفاه، إلا إذا كان ذلك بجمع مرآتين.
وليس من شرط الصراحة ألا يبدي الإنسان إلا العيوب، والمكاشحة بالعداوة، كما يصرح بعضهم لفلان من الناس بأنه يبغضه، وأنه صريح في ذلك.
بل قد تكون الصراحة في إبداء المشاعر الطيبة، والعواطف النبيلة، والتكرم بإظهار الشكر، والاعتراف للمحسن؛ فهذا نوع من الصراحة المحمودة،وبعض الناس لا تطاوعه نفسه على التصريح بمثل هذه المشاعر.
ومن الإفراط في الصراحة _كما يقول العلامة الشيخ محمد الخضر حسين_ ما يقوم به أولئك الذين لا يحكمون سياسة الأمور، ولا يرون أن الدهاء خصلة محمودة، ولا يرون أن من الدهاء أن يُبقي الرجل بعض آرائه في نفسه، ولا يحرك بها لسانه؛ حيث يرى أن بعض النفوس لم تتهيأ لقبولها، أو أن الحال لا يساعد على إنفاذها، فتراهم يصرحون بما يجلب الضرر، ويفسد علائق الود.
ومن التفريط في الصراحة أن يرى الإنسان عِرْضَ أخيه المسلم يُنْتَهك في مجلس، وأن الظلم يقع عليه من قبل من لا يرجون لله وقاراً؛ فلا يتحرك للذبِّ عن أخيه، مع أنه قادر على ذلك.
ومن التفريط في الصراحة ما يكون من بعض من لهم كلمةٌ ودالة، وقَدْرُ سِنٍّ أو علم؛ فيرى الخطأ من فلان على فلان رأي العين، ولا يخطر بباله أن يرد الخطأ على صاحبه، مع أن ذلك لا يجلب له أدنى ضرر؛ ولكنها المهانة والخور يضربان عليه سرادقاً من الإحجام عن تلك المبادرة النافعة.
وليس من الإفراط في الصراحة أن يخشى الرجل في سكوته عن قول الحق ضياعَ الحق، وظهور الباطل مكانه؛ فيصدع بكلمة الحق موطناً نفسه على احتمال ما يلاقيه من أذى؛ فلا يُعَدُّ القاضي مالكُ بنُ سعيد الفاروقي قد أفرط في الصراحة؛ إذ أمره الحاكم العبيدي بأن يكتب سبّ الصحابة على أبواب المساجد، فأبى أن يفعل، وكتب عليها: [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] التوبة: 117 .
ولما قال له الحاكم: هل فعلتَ ما أمرتك به؟ قال: نعم، فعلتُ ما يرضي الرب _عز وجل_ وقرأ عليه الآية، فأمر بضرب عنقه، فمات شهيداً، وحماه الله من أن تكتب يمينه شيئاً يجر إليه عاراً في الدنيا، وخزياً في الآخرة.
ولكن ينبغي أن يراعى أن الذي قام بذلك العمل قاضٍ له وزنُه، ونظرتُه، وتدبره في العواقب، ومعرفته ما يجب عليه.
ويمثل ذلك الطريق المعتدل للصراحة _كما يقول الشيخ الخضر_ أولئك الذين يجمعون إلى الإخلاص والغيرة على الإصلاح رويةً ودهاءًا؛ فالإخلاص والغيرة يمنعانهم من التفريط في الصراحة؛ إذ لا يكون مع الإخلاص والغيرة جُبْنٌ ولا طمع، ولا إيثار المنافع الشخصية على المنافع العامة.
والرويةُ والدهاءُ يمنعانهم من الإفراط في الصراحة؛ إذ يرون ببصائرهم المضيئة، وألمعيتهم المهذبةِ المواطنَ التي يكون السكوتُ عن شيء، أو استعمال الكنايات الخفية أفضلَ من التصريح به.
ويظهر فضل الصراحة جلياً متى وقع بجانب الكلام المبهم أو المَطْلي بشيء من المواربة؛ كما يروى في قصة عمر بن هبيرة والي العراق في عهد يزيد بن عبدالملك؛ إذ استدعى الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والشعبي، وقال لهم: =إن يزيد خليفة الله أخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون،فيكتب لي بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون؟+.
فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية.
فأقبل ابن هبيرة على الحسن البصري، وقال له: ما تقول يا حسن؟ .
فقال: يا ابن هبيرة! خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، حتى قال له: فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
فموقف الحسن البصري في هذه القصة ظاهر الفضل، وبمقارنته بموقف ابن سيرين والشعبي ازداد فضله ظهوراً.
وإذا اقتضى الحال الصراحة فإن لها أساليب تختلف باختلاف أحوال المخاطبين، فمن حسن بيان المتكلم أن يراعيها، ويصوغ عبارته في الأسلوب المناسب؛ حتى تأتي الصراحة بثمراتها الطيبة.
والخلاصة أن الطريق المعتدل للصراحة، وهو الذي يعد فضيلة أن يجهر الإنسان بما له من آراء وعواطف؛ حيث يكون في الجهر مصلحة، ولا يتوصل إليها بطريق التعريض أو الكنايات الخفية، وأن الصراحة _في أصلها_ خلق نبيل مرتبط بمنظومة الأخلاق التي تتلاقى لتتعاون على البر والتقوى؛ فلا غنى للصريح عن الذوق، والعقل، ومراعاة المصالح و المفاسد.