علة الإمساك عن وصول شيء إلى الجوف
ومدى تحققها في المسائل المعاصرة
للشيخ أكرم بن مبارك عصبان

لقد خاض الفقهاء في بيان العلة في المفطرات، ول يكونوا بمعزل عن الاستفادة من علم الطب كما يظهر ذلك في المتون والمختصرات فضلا عن الشروح والمطولات، ومثاله ما يعبرون عنه بقوة الإحالة، وهو وجه عند الشافعية عناه الإمام النووي في كتاب الصيام في المنهاج بقوله ( وقِيل يشتَرط مع هذا ـ أي وصول عين إلى الجوف ـ أَن يكونَ فِيهِ قوة تحِيل الغذاء أَو الدواء )، وعلله ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج بقوله : أَن ما لا تحِيله لا ينتفِع به البدن فَكَان الواصِل إليه كَالواصلِ لغَير جوف، واستدرك عبد الحميد في حاشيته على التحفة نقلا عن العلامة البصري أن أهل التشريح يثبتون للعين منفذا إلا أنه خفي وصغير فألحقوه بالمسام .
وحديثنا في النظر إلى المناط أو ( العلة ) بتخريجها أولا ثم شفعناها تنقيحا وعززناها بالتحقيق .
المسألة الأولى : تخريج العلة
وهو استخراج العلة، وقد اتفق جمهور الفقهاء على أن شرط الصوم الإمساك عن المفطرات وهي ما دلت عليها النصوص اسما كالأكل والشرب والجماع لقوله تعالى: ( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ )، ومن المفطرات ما تحققت فيه العلة من جهة المعنى كما يدل عليه حديث لقيط بن صبرة مرفوعا : ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) رواه لإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة .
فالعلة إذا كل ما دخل إلى الجوف من منفذ مفتوح مع ذكره للصوم ، وفيها ثلاثة قيود:
1 ـ الجوف : وقد اتفق جمهور الفقهاء أنه المعدة ، زاد المالكية الأمعاء، وزاد الأحناف الدماغ وجعلوه أحد الجوفين، وزاد الشافعية المثانة وفي قول قوة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء .
2 ـ المنافذ : واتفقوا على أنه كل ما وصل إلى الجوف عن طريق الفم أو الأنف كالسعوط، أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر كالحقنة، أو ما يصل من جائفة ـ جرح في البطن ـ أو مأمومة ـ جرح يصل الى الدماغ ـ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل خلافا للشافعية والأحناف، أو الإحليل ـ الذكر ـ خلافا للحنابلة .
3 ـ أن يكون ذاكرا للصوم : فلو دخل شيء إلى جوفه ناسيا أو مكرها أو غير قاصد فلا يفطر لحديث أبي هريرة مرفوعا : ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ) متفق عليه، وفي المنهاج فَلَو وصل جوفَه ذباب، أَو غبار الطريق لم يفطر.
المسألة الثانية : تنقيح العلة :
إذا تقرر استنباط العلة من النصوص بقي تهذيبها عن ما لا يصلح أن يكون علة، فلا اعتبار بالمنفذ المعتاد وهو الفم كما أفاده حديث لقيط بن صبرة المذكور، ولا اعتبار بمسمى الأكل ولا الشرب، فكل ما وصل إلى الجوف فإنه في معناه، فالمنطوق به في الآية هو الطعام والشراب، فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق به ما ليس في معناه, ومن رأى أن المقصود منها إنما هو الإمساك عما يرد الجوف، سوى بين الأمرين .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره إلى أن العلة في الفطر التقوي والتغذي لا لمجرد كونه واصلاً إلى الجوف فقال: ( الصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوي فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء، لا عن حقنة ولا كحل ) ا هـ .
المسألة الثالثة : تحقيق العلة :
لقد عرفت علة الحكم وتصفيتها عن ما سواها، وبقي تحقيق وجود تلك العلة في الفروع، وبقي الحديث عن وصول الدواء إلى الجوف عن طريق المنافذ التالية :
1 ـ الفم : وهو المنفذ المعتاد للطعام والشراب، وتتحقق فيه العلة اسما ومعنى، فيفطر كل ما وصل إلى الجوف عن طريقه فمقتضى مذهب الجمهور أن بخَّاخ الربو الذي يحتوي على ماء وأكسجين إن وصل إلى جوفه أفطر، أما قلع السن أو تنظيفها ودواء الغرغرة لا يبطل الصوم .
2 ـ الأنف : دل حديث ( وبالغ بالاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) على أن الأنف منفذ إلى الحلق، ثم المعدة، وذكر الفقهاء أن السعوط يكون عن طريق الأنف ويفطر لوصوله إلى الجوف، وعليه فالتقطير في الأنف يفطر .
3 ـ الأذن : اتفق الفقهاء على أنه إذا صب دهن في الأذن أو أدخل الماء أفطر قال ابن قدامة في المغني ( أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ )، وفي وجه عند الشافعية أنه لا يفطر بناء على اشتراط قوة الإحالة، وعليه فالتقطير في الأذن لا يبطل الصوم لأنه لا منفذ من الأذن إلى الدماغ وهو ما أفاده الطب الحديث، وهو المختار .
4 ـ العين : اختلف الفقهاء هل يوجد منفذ بين العين والجوف فأثبته المالكية والحنابلة وقالوا إذا وجد في الحلق طعم الكحل أفطر ، ونفاه الأحناف والشافعية وأهل التشريح يثبتونه ، وعليه فلا يفطر بالتقطير في العين وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو المختار .
5 ـ الحقنة: وهي ثلاثة أنواع أولها : ما ذكره الفقهاء ويقصدون بالحقنة ما تكون عن طريق الدبر، ولم يختلفوا في القول بأنها من المفطرات، وعليه فالتحاميل تفطر حيث إنها تدخل إلى الجوف، واختاره من العاصرين من يرى أنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا بمعناهما .
وثانيهما : الحقن الجلدية والعضلية والوريدية غير المغذية ووصولها إلى الجوف عن طريق الدورة الدموية يقضي بالفطر على قول الجمهور ، أما مقتضى قول شيخ الإسلام ابن تيمية واختاره جمع من المعاصرين أنها لا تفطر لأنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما .
وثالثها : الحقنة المغذية التي يُستعاض بها عن الأكل والشرب فإنها تفطر لورود العلة معنى، والقول بجواز الحقنة المغذية فيه إبطال معنى الصوم ومقصوده .
6 ـ التبرع بالدم : ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بعدم الفطر بالحجامة خلافا للحنابلة لحديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ) رواه البخاري ، وقيس بالحجامة الفصد، ويقاس عليهما التبرع بالدم فلا فطر بذلك ومن قياس الأولى أخذ الدم للتحليل .
7 ـ الجائفة والمأمومة : الجائفة هي الجرح يكون في البطن والمأمومة جرح في الرأس ويصل إلى الجوف إذا وضع فيهما دواء، وذهب الجمهور إلى القول بالفطر بناء على وجود العلة، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية عدم الفطر لأنهما ليسا في معنى الطعام والشراب والأول أصح.
8 ـ ما دخل عن طريق ذكر الإنسان : ذكر الفقهاء ما إذا قطّر في إحليله شيئا، وذهب جمهورهم إلى أنه لا يفطر لأنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ خلافا للشافعية بأن المثانة من الجوف، وفي وجه أنه لا يفطر لأنه لا يحيل الدواء وهو ما أفاده الطب الحديث وهو المختار .
9 ـ المنظار يفطر تخريجاً على العلة بأن كل عين دخلت الجوف تفطر، وأما مقتضى ضابط التغذي فلا فطر .
10 ـ الدهانات والمراهم واللصقات العلاجية : ذكر الفقهاء أنه َلا يَضرّ وصول الدهنِ بِتشربِ المسَام وعليه فالدهانات والمراهم واللصقات العلاجية لا تفطر وما يمتص إلى الدم بطيء جداً .
كتبه أكرم مبارك عصبان