قيل: الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم؛ واستدلوا على ذلك بِحَدِيثِ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ»([1]).
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ»([2]).
وَعَنْ رَافِعٍ بِنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ»([3]).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ([4]).
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ([5]).
والصحيح أنَّ مَنْ حجم أو احتجم لا يَفْسَدُ صومُهُ؛ ودليل ذلك حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ([6]).
وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ([7]).
وأُجيب عن الأحاديث التي فيها إفطار الحاجم والمحجوم بأنها منسوخة.
فَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَفْطَرَ هَذَانِ»، ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ للصَّائِمِ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ([8]).
قال النووي رحمه الله: ((وَأَمَّا حَدِيثُ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ، فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: جَوَابُ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَهُ فِي الْأُمِّ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْخَطَّابِىُّ وَالْبَيْهَقِىّ ُ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذَكَرْنَا؛ وَدَلِيلُ النَّسْخِ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَالْبَيْهَقِيّ َ رَوَيَاهُ بِإِسْنَادِهِمَ ا الصَّحِيحِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَانَ الْفَتْحِ فَرَأَى رَجُلًا يَحْتَجِمُ لِثَمَانِ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ». قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَابْنُ عَبَّاسٍ إنَّمَا صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مُحْرِمًا فِي حَجَّةِ الْوَداَعِ سَنَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَصْحَبْهُ مُحْرِمًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ الْفَتْحُ سَنَةَ ثَمَانٍ بِلَا شَكٍّ، فَحَدِيثُ اِبْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ حَدِيثِ شَدَّادٍ بِسَنَتَيْنِ وَزِيَادَةٍ، قَالَ: فَحَدِيثُ اِبْنِ عَبَّاسٍ نَاسِخٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيَدُلُّ عَلَي النَّسْخِ أَيْضًا: قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ فِي قِصَّةِ جَعْفَرٍ: «ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ.
قَالَ: وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ السَّابِقُ أَيْضًا فِيهِ لَفْظُ التَّرْخِيصِ وَغَالِبُ مَا يُسْتَعْمَلُ التَّرْخِيصُ بَعْدَ النَّهْيِ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ، وَيُعَضِّدُهُ أَيْضًا الْقِيَاسُ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ))([9]).
[1])) أخرجه أحمد (15828)، وأبو داود (2371)، والنسائي في ((الكبرى)) (3120)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1136).
[2])) أخرجه أحمد (17112)، وأبو داود (2369)، وابن ماجه (1681)، والنسائي في ((الكبرى)) (3126)، وصححه الألباني في ((المشكاة)) (2012).
[3])) أخرجه الترمذي (774)، عن رافع بن خَدِيج وقال: «حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (931).
[4])) أخرجه ابن ماجه (1679).
[5])) أخرجه الحاكم (1567).
[6])) أخرجه البخاري (1938).
[7])) أخرجه البخاري (1940).
[8])) أخرجه الدارقطني في ((السنن)) (2260)، والبيهقي في ((الكبير)) (8302)، والضياء في ((المختارة)) (1748)، وقال الدارقطني: ((رجاله كلهم ثقات ولا أعلم له علة)).
[9])) ((المجموع)) (6/ 349- 352)، مختصرًا.