الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعدُ:
فهذا كلامٌ عالٍ للعلامة محمد أنور شاه الكشميري (1352هـ) رحمه الله تعالى من أماليه على صحيح البخاري المسمَّاة (فيض الباري)، بيَّن فيها معنى التيسير الوارد في قول الله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر) بما ضلَّ عن كثيرٍ من أفهام الناس .. وقد استفدتُ هذا النقل من العلامة عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله، حيث ذيَّل به وبغيره من الأبحاث الكشميرية العالية على ترجمته له في كتابه الماتع: (تراجمُ ستَّةٍ من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر وآثارُهم الفقهية).
قال العلامة محمد أنور شاه الكشميري [فيض الباري 1: 320 دار الكتب العلمية]:
(اعلم أن فهمَ الحديثِ والإطلاع على أغراض الشارع مما لا يتيسرُ إلاّ بعد علم الفقه، لأنه لا يمكنُ شرحُه بمجرد اللغة ما دام لم يظهر فيه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ومذاهب الأئمة بل يبقى معلقًا، لا يُدرى وجوههُ وطرقه، فإِذا انكشف ما ذهب إليه الذاهبون واختاره المختارون خفَّ عليك أن تختارَ واحدًا من هذه الوجوه، وهو حال الحديث مع القرآن ربما يتعذرُ تحصيلُ مرادِهِ بدون المراجعة إلى الأحاديث، فإذا وردت الأحاديث التي تتعلق به قُرُب اقتناصُ غرضِ الشارع، وهذا من غاية علوه ورفعة محله، بل كلما كان الكلامُ أبلغَ كان في اجتمال الوجوه أزيدَ، ولا يُفهم هذا المعنى إلاّ من عُنِيَ به.
وأما الجاهل فيزعمه سهل الوصول لقوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ) ولا يدري أنه ليس تيسيرُه على قدر ما فهمه، بل معناه أنه يشتركُ في تحصيل معناه والاستفادة منه الأعالي والأداني، لكنه يكون بقدر نصيبهم من العلم.
وهذا من غاية إعجازه، يسمعه الجاهلُ ويأخذ منه علمًا بقدره، ويَرَاه الفحولُ ويُفعِمون منه دِلاءً بقدر أفهامهم، بخلاف كلام الناس فإِنه إن كان ملتحقًا بأصوات الحيوانات فإِنه لا يَلتفِتُ إليه البلغاء، وإن كان في مرتبة من البلاغة لا يُدرِكُ مرادَه الجهلاء.
وهذا كتابٌ بلغ في مراتب البلاغة أقصاهما ولم يزل سحاب علومِهِ مَاطِرًا على كافة الناس، عقلائهم وسفهائهم سواء بسواء،وهذا معنى التيسير لا ما فهموه)
----------
منقول عن مشاري الشثري