بعد فتنة هولندا .. من يقول (نحن أنصار الله)..؟
د. عبد العزيز كامل
30 - 3 - 2008
هل جاء دور هولندا..؟!.. هل دخلت طابور الصائلين، وانضمت إلى حلف المستهزئين...؟ هل يحاول هذا الكيان القصير القامة والقليل القيمة، أن يعيد أمجاد الأجداد الأوغاد الذين قد نسيناهم، وتركنا عقابهم بعد أن استعمروا لصالحهم أوطاننا، وبثوا الفتن والفقر في بلادنا..؟
هل تذكرون أيها المسلمون ذلك البلد الصغير، الذي طالما استولى على خيراتنا، واستباح حرماتنا في المشرق الإسلامي، بالاشتراك مع قوى الاستعباد المسماة بالاستعمار؟ هل تعلمون كيف ومتى وإلى متى عاش هؤلاء في أوطاننا، وعاثوا فيها فسادًا وإرهابًا؟
ها هي هولندا الصغيرة، تعود من باب خَوَنة الخدم، ونافذة حقراء اللصوص، لتقذف على أمتنا الجديد من الشُّهُب والمزيد من الفتن، لإلهائها أو إشغالها، أو صدها عن المعركة المفروضة عليها، لعلها تتعب أو تستسلم أو تستكين حتى تجهَّز السكين..!
كنا قد تناسينا هذه الهولندا؛ لأن التاريخ كاد يواري سوءاتها وراء ذاكرتنا الناسية المنسية، لكن ثيرانها الهائجة أبت إلا أن تذكِّرنا بماضيها الأسود وحاضرها الأسوأ، بعد أن نبتت لها قرون جديدة، تريد أن تجربها في جدارنا القوي الصامد أمام عواصف الغرب الفكرية وقواصفه العسكرية. فهولندا التي تشترك مع حلف الناتو الصليبي بقوة «رمزية» من عسكريين «مسالمين» يمارسون الإرهاب المدجج في بلادنا المحتلة بكل حرية وليبرالية؛ هذه الهولندا يهولها اليوم (إرهابنا الدفاعي الأعزل) في وسط عالم مُتْرَع بالأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية الهجومية، التي يبدو أن «الحضارة» الغربية قد أعدتها لمقاومة الذباب، أو مطاردة الناموس!!، هولندا هذه التي تشارك في التحالف ضد المسلمين تحت راية شعار الناتو (الصليب)، طمعًا في أن تنال شيئًا من الفتات الذي يقتات به المسلمون في أفغانستان والعراق!! هي التي يتحدث يمينيوها وليبراليوها اليوم عن التحذير من (خطر القرآن)، وتستخدم لقطات من خطب المحترقين بنيران الظالمين في التنفير منه والتحذير من المقاومة تحت رايته.
هل نسينا أن هولندا هذه هي التي كوَّنت إمبراطورية استعمارية مترامية الأطراف من الخيرات المغتصبة في بلاد المسلمين المستعمرة؟ هل زال عن ذاكرتنا أن تلك الهولندا التي كادت تنقرض كحيوان الباندا هي التي احتلت إندونيسيا لأكثر من ثلاثة قرون، وقهرت شعبها بالحديد والنار، وامتصت خيراتها ولم تتركها للشيوعيين والبوذيين إلا بعد أن أكلتها لحمًا، وتركتها عظمًا، مع ضمان احتكار بترولها المخزون حتى بعد الانسحاب؟
هل أحصى أحد على الهولنديين الذين يتهمون القرآن اليوم بأنه (كتاب إرهاب وفاشية)، كم من الآلاف بل من الملايين قتلوا من سكان إندونيسيا وماليزيا، في داخل بيوتهم الآمنة، وحقولهم العامرة؟
ها هي هولندا اليوم تستعدينا وتعتدي على ديننا، بعد تاريخ طويل من العدوان على حياة أجدادنا وأسلافنا المسلمين. قد يقال بأن الذي أساء لقرآننا هو شخص موتور في حزب مغمور!! وهذا لون من (ذكاء الأغبياء) حتى تُحْصَر الجريمة في شخص بدلاً من أن تفرق في دماء القبائل!
ونقول: لا؛ إنه ليس مجرد شخص أبله، بل هو شخصية رسمية في حكومة ملكية دستورية، لا تسمح أبدًا أن تتطاول جهة ما -ولو كانت الحزب الحاكم نفسه- على «الذات الملكية» الهولندية أصولاً أو فروعًا، باسم الحرية الشخصية أو «القيم» الليبرالية! فلماذا كل هذا التطاول على الذات الإلهية، وعلى الحضرة الرسولية، وعلى الأمة الإسلامية التي تبلغ ما يقرب من مليار ونصف من سكان العالم؟ ولماذا استفزازهم والإساءة إليهم وكأنهم أمة من الصراصير؟! إن الأوروبيين الذين لا تسمح قيمهم المزيفة بالإساءة إلى الكلاب في الطرقات أو القطط في الشوارع دون عقاب رادع؛ هم الذين يسوِّغون اليوم بإجماع الرعاع «أن يُسَبّ نبي الإسلام، ويُهَان كتاب المسلمين، وها هو رئيس وزراء هولندا (بيتر بالكننده) يقول: «الفيلم لا يخدم قضية سوى الإساءة، ولكن الإساءة (لا يجب أبدًا) أن تكون مسوغًا للتهديدات» ...!!
في شريعتنا أن من سكت عن قول منكر ولم ينكره وهو قادر؛ فهو من قائليه، وله حكم فاعليه، ولهذا قال الله عن اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] مع أن القائلين بذلك هم قلة منهم، ولكن لما كانت الكثرة غير مُنكِرة لذلك، نُسِبَ ذلك القول للجميع. والهولنديون ومعهم الدنمركيون بل غالب الأوروبيين لم يسكتوا عن حملات الإساءة للإسلام، واستباحة حرمات المسلمين فقط، بل شاركوا بشكل أو بآخر معهم، فماذا يريد هؤلاء القوم ؟!
الفيلم البذيء والمسيء الذي أنتجه اليميني الصهيوني، الهولندي (جيرت فيلدرز)، والذي بثه على الموقع الرسمي لحزبه، يوم الخميس (27/3 /2008) هذا الفيلم هو آخر ما تفتّقت عنه ذهنية العدوان الغربي الأوروبي على ديننا وحرماتنا، فالظاهر أن كفار أوروبا تركوا لكفار أمريكا الحرب العسكرية ليتفرغوا هم لحربنا الفكرية (الدنمارك– الفاتيكان– فرنسا– بريطانيا– إيطاليا) واليوم هوامّ هولندا !!
والعدوان الغربي الراهن يراهن على أمور-فيما يبدو- لا بد من التيقظ بعدم الانجرار لها أو الاغترار بخداعها؛ حيث إن مرحلة الرسوم المسيئة، تعقبها الآن مرحلة الأفلام الرديئة، لتتواصل حملات استغضابنا، حتى نخرج عن صوابنا أو نفقد الإحساس بكرامتنا.
ولهذا لا بد من وضع بعض النقاط على بعض الحروف في هذه النازلة الجديدة:
أولاً: الغربيون يعاودون العدوان في كل مرة تحت العنوان نفسه (الإساءة للإسلام)، وتحت الدعوى نفسها (حرية الفكر)، وتحت الهدف نفسه (الاستغضاب والاستفزاز)، وتحت الطلب ذاته (أن نصمت ونصبر)، وتحت الرغبة إياها (أن نساوم ولا نقاوم)، وتحت الأمل بعينه (أن نخرج عن الصواب أو نفقد الإحساس بالكرامة)، والمراقب لردود أفعالنا يشعر أننا نُستدرَج شيئًا فشيئًا إلي ما يريدون، ونحقق ما يشتهون!.
ثانيًا: إذا كُنا كل كَرَّة نُؤْخَذ على غِرَّة، فتختلف اجتهاداتنا، وتتبعها تصرفاتنا وتحركاتنا، فإننا لا عذر لنا هذه المرة، فالمجرم الذي تفنن في العفن المبثوث اليوم؛ لم يفاجئنا بفنه البئيس وفيلمه الخسيس، ولكنه أرجأنا هو ومن وراءه، ليختبرونا حكامًا وشعوبًا، هل سنرتبك في هذا الهجوم كما ارتبكنا في أزمة الرسوم؟ أم أننا وعينا الدرس وعرفنا كيف نُؤلِم مَن آلمنا ونؤذي من آذانا؟! ولو على الأقل باستمرار المقاطعة حتى تؤدي دورها؟
إن هولندا منذ أن انبعث أشقاها ليبدأ (الفتنة)؛ وهي تستعد لردود أفعالنا، أنثور فنفور فننتصر؟ أم نَمَلّ فنبرد ثم نخمد؟! أما رأس الفتنة (جيرت فيلدرز) فقد أعلن على الملأ منذ شهور طويلة، أنه ينوي إنتاج فيلم يهاجم فيه القرآن، مثلما فعل زملاؤه من عبدة الشيطان الدنماركيين الذين أساءوا لسيد النبيين، ورسول رب العالمين إلينا وإليهم وإلى البشر أجمعين (صلى الله عليه وسلم). كأن القوم يتبادلون الأدوار في الإساءة إلينا، ويتدرَّجون في استدراجنا! فلماذا لا نتبادل الأدوار في صد الإساءة إليهم؟ ونتدرج في رد عدوانهم، ولماذا يريد كل «مجتهد» أن يسوق الأمة كلها وراء اجتهاده فقط؟
ثالثًا: اسم الفيلم (الفتنة) تعبير يحمل الكثير من الدلالات، وهو لا يخدم سوى قضية الإساءة كما قال رئيس الوزراء الهولندي، ولا يهدف فيما نرى إلا تحقيق عنوانه (الفتنة)..!! ومع هذه الفتن المعدة للتصدير في كل أنحاء العالم، ومع اعترافهم في كل مرة بأنها إساءة، وعدم قبولهم لأي اعتذار عنها؛ يطلبون بل ويلحون أن يكون ردنا -إن كان لنا حق في الرد– (سلميًّا) أو (دبلوماسيًّا) وألا يكون أبدًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا، والأفضل ألا يكون كليًّا ...!! ..
نقول لهم: ستريكم الأيام كيف يغضب الله لدينه وعِرْض نبيه وشرف كتابه، وينتقم بما يشاء ممن أساء، وعندها نقول بقول الله: { سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } [الملك: 27]، لكن الله تعالى مع ذلك يبتلينا بهم؛ ليعلم هو أننصر دينه كما أمر، أو نؤثر السكوت ونخلد إلى السكون { وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4].
رابعًا: (حرب المقدسات) التي تجري معاركها بتسارع متصاعد، والتي كتبت عنها مرارًا في مجلة البيان وموقع لواء الشريعة، هذه الحرب الممهدة لصراع الحضارات الذي «بشر» به اليهودي الأمريكي صمويل هنتنجتون؛ أخشى ما أخشاه أن تنجلي عن حالة انكسار، يعقبها استهتار بتبعات حملات الإساءة، وهو ما بدأنا نلحظ بعض مظاهره، في خفوت صوت التفاعل مع أحداثها، مقارنة مع ما كان عليه الأمر قبل عام مثلاً!!.. والمحذور هنا أن ينتقل أكابر المجرمين من مرحلة الإساءة النظرية لمقدساتنا، إلى مرحلة الإساءة العملية، فالمسجد الأقصى مثلاً تتصاعد وتيرة السعي لهدمه يومًا بعد يوم، وقد بُحَّتْ أصوات المحذرين من ذلك، دون أن يكون لذلك صدًى رسمي ولا شعبي يتجاوب مع خطورة الكارثة المتوقعة..!
والقرآن نفسه الذي تُبَثّ اليوم حوله سموم الفتنة الجديدة بدعوى أنه (كتاب إرهاب)، كيف سيجري التعامل الدولي في بلاد الغرب مع من يحملونه في متاعهم أو صدورهم، وهل ستعد مساجدهم ومنتدياتهم أوكارًا للإرهاب؟
خامسًا: إذا كان ظل اليهود لم يغب عن حملات الإساءة للإسلام منذ بدأت تلك الحملات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى هذه الحملة الأخيرة ضد الكتاب الذي أُرسِل به؛ باعتبار صهيونية (جيرت فيلدرز) وصهيونية حزبه، إذا كان ذلك كذلك؛ فإن ليبرالية ذلك الصهيوني السابقة لن تكون بعيدة أيضًا عن تفعيل حملته، وقد ظهر ذلك من الآن بحماية الحكومة الهولندية الليبرالية له ودفاعها عن «حقه» في التعبير عن رأيه، والذي أتوقعه أن يستثمر الليبراليون الثمرات الخبيثة لتلك الحملة من وراء ستار أو من أمام ستار، في فصول جديدة وخطيرة من (معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية)، تلك المعركة التي لم تأخذ نصيبها الكافي بعدُ في اهتمام خواص الإسلاميين فضلاً عن عوامهم.
لهذا ينبغي التذكير بأن الطعن في ثوابتنا ومقدساتنا نحن المسلمين على وجه الخصوص، بدعوى (حرية الفكر) و(حرية الرأي)، و(حرية التعبير) و(حرية الفن)، وغير ذلك من حريات الليبراليين «المقدسة»؛ هو الخلفية الذهنية لهذه الجولة الجديدة من (حرب الأفكار)، فالأفكار –كل الأفكار– لها حرية البثّ والبعث والانتشار عند هؤلاء الليبراليين الكفار، إلا الأفكار الإسلامية، فليس لها إلا الحديد والنار!
سادسًا: (أسلمة هولندا) هي هاجس صاحب الفتنة بعد أن وصل عدد المسلمين فيها إلى ما يقرب المليون، فهل تم إرهاب هؤلاء حتى يدخلوا في الإسلام أو يبقوا عليه؟ .. إن هذا أحد أسرار الخوف من الإسلام والتخويف منه.. أنه ينتشر بأقل الإمكانات، وبأضعف الجهود، مقارنة بما يُبْذَل لخداع الناس بالنصرانية، عن طريق الشهوات والشبهات، ولهذا فإنني أرى أن عاقبة هذه الحملة الإجرامية –على ما فيها من شر - يمكن أن تعكس وجوها من الخير، قد لا تكون منظورة الآن، وذلك إذا تعاملنا معها بهداية القرآن، فقد قال الله عز وجل مخففًا من قلق المؤمنين على دينهم من أذى أعدائهم {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [آل عمران: 186].
فالأذى الكثير الواقع والمتوقع من أهل الكتاب، ومن الذين أشركوا، يحتاج إلى صبر، وإلى تقوى مع الصبر، في رد الأذى وصد العدوان مهما كان، وقد أثنى الله تعالى على الذين {إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } [الشورى: 39]، والانتصار لدين الله هنا أنواع متعددة، لكن يحكمها هدي القرآن نفسه الذي أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يجعله منهاج دعوته وسلاح جهاده، مهما كره الكفار والمنافقون ذلك، أو اعترضوا على ذلك، {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [الأحزاب: 48]، { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
أمامنا جهاد كبير بالقرآن وبمنهج القرآن للمنافحة عن هذا القرآن ضد حملات حزب الشيطان.
والمجال مفتوح على مصراعيه لكل من يكشف وجوه الحقارة في تلك الحضارة الغربية المنهارة حتمًا بأفكارها وبأيدي أهلها.
والمجال مفتوح لكل من يبذل جهدًا في إغاظة الكفار؛ بتوسيع انتشار هذا القرآن العظيم علمًا وعملاً، والمجال مفتوح لمن يطرح على المكشوف تلك الزيوف والتخاريف الموجودة في أسفار القوم «المقدسة» التي يعايرون بها الأمة؛ رغم ما فيها من كوارث أخلاقية وتناقضات تاريخية، وكلمات تروج للهمجية باسم الشريعة الإلهية، لا على المستوى التنظيري فحسب؛ بل على المستوى العملي الذي تشهد به إبادات الهنود الحمر، وتسخيرات العبيد الأفارقة، و«تفجيرات» هيروشيما وناجازاكي، وغيرها من القوائم الطويلة والعريضة التي ثبَّتت الرأسمالية الليبرالية بها أقدامها على أنقاض حريات الشعوب وخيراتها.
فمن ينتدب لداعي النصرة لكتاب الله ولعرض رسول الله، من يقول بحق (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) كما قال الحواريون لعيسى ابن مريم، الذي يزعم هؤلاء الموتورون الانتماء لدينه والانتساب لاسمه، من يقول لله: { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ }..؟ ومن يستجيب لنداء الله في قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ } [الصف: 14] ؟
المصدر:موقع لواء الشريعة