ذ/ عبد الفتاح بن اليماني الزويني : كيف تعامل السلف مع مصادر التشريع؟(ترتيبا واستنباطا)
.............................. ............................
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
(في حوار جرى بين الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن الشيباني ، قال الشافعي : ناشدتك الله ، صاحبنا (مالك بن أنس) أعلم بكتاب الله أم صاحبكم (أبو
حنيفة) ؟ قال : بل صاحبكم .
قال الشافعي : صاحبنا أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم
صاحبكم ؟ قال : بل صاحبكم .
الشافعي : صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أم صاحبكم ؟ قال : بل صاحبكم .
الشافعي : ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس ، ونحن نقول بالقياس ، ولكن من
كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح) (ابن تيمية : الفتاوى 20/328) .
والذي نريد أن نخلص إليه من هذا الحوار بين هذين العالمين الجليلين أن
الشافعي - رضي الله عنه - رتب الأمور ترتيباً صحيحاً ، كتاب الله ، ثم سنة
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ثم أقوال الصحابة ، وهذا الترتيب الدقيق يغفل
عنه كثير من المسلمين في هذه الأيام ، بل ربما عكسوا الآية ، فيضطرب الأمر
عليهم وتضيع الموازين الحقيقية مع أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال : « يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء
فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة
سواء فأقدمهم سناً » ، فقدم - صلى الله عليه وسلم - : العلم بالقرآن على العالم
بالسنة ، وقدم العلم على العمل .
روى الزهري عن عروة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أراد أن
يكتب السنن ثم تردد ، ثم قال : كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا
قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى ، وإني والله لا ألبس كتاب الله
بشيء أبداً . (جامع بيان العلم 1/64) .
أراد عمر - رضي الله عنه - أن يحدد الأولويات وكأنه كان يخشى أن يهجر
القرآن ويضعف العلم به ، ويكب الناس على الشروح والحواشي لتصبح هي
المصدر لفهم الإسلام دون القرآن ، كما أن الذين أسلموا حديثاً في الشام والعراق لا
تقدم لهم كل العلوم الإسلامية دفعة واحدة ، بل لا بد من تربيتهم تربية متأنية تبدأ
بالزصول ثم تندرج بهم إلى الفروع والتفصيلات .
وهذا المعنى يؤكده ابن مسعود - رضي الله عنه - بقوله : (إنما هلك أهل
الكتابين قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا كتاب ربهم ) .
إن عدم ملاحظة هذا الفقه الدقيق يجعل المسلمين لا يفرقون بين المهم والأهم ، بين الواجب والضروري ، بل ربما قدم بعضهم الكمالي على الضروري ، وبذلك
يكونون كمن يضع العربة أمام الحصان .والله تعالى أعلم