قال القرطبي في قوله تعالى (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُو نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا):
" وَتَعَلَّقَ بِهَا أَيْضًا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْغِنَى أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ، لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالَ الَّذِي يُوصَلُ بِهِ إِلَى صَالِحِ الْأَعْمَالِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ مَا أَحْوَجَ مِنَ الْفَقْرِ مَكْرُوهٌ، وَمَا أَبْطَرَ مِنَ الْغِنَى مَذْمُومٌ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ، لِأَنَّ الْغَنِيَّ مُقْتَدِرٌ وَالْفَقِيرَ عَاجِزٌ، وَالْقُدْرَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَجْزِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ النَّبَاهَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ تَارِكٌ وَالْغَنِيُّ مُلَابِسٌ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ السَّلَامَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيلِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ إِلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى لِيَصِلَ إِلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ، وَلِيَسْلَمَ مِنْ مَذَمَّةِ الْحَالَيْنِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ وَأَنَّ (خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا). وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّاعِرُ الْحَكِيمُ حَيْثُ قَالَ:أَلَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ عَدَمِ الْغِنَى ... وَمِنْ رَغْبَةٍ يَوْمًا إِلَى غَيْرِ مُرْغَبِ" انتهى