وأخيرا ... الذات الشمولية والنهوض الحضاري !!
لم تكن أسئلة النهضة والغوص في عوامل الرقي الحضاري والمبادرة بطرح مشاريع نهضوية شيئا جذاباً لمجرد بهرجة ألفاظه وسير ركبان الإعلام بطرحه واستدعاء النخب للحديث عنه ، بقدر ما يلامس هذا الموضوع من الهموم والمشاعر التي يتفق عليها عموم الآدميين من السعي لتحصيل حياة كريمة يظهر فيها شرف الإنسان بمشروع ثقافي فكري له حظه من التفرد والاختصاص وترك التبعية والانسياق خلف الآخر وسعي في عملية تصدير وإنتاج لسائر الثقافات ، وعمارة دنيوية بمشروع سياسي تمنح فيه الحريات ويطارد الاستبداد ، ويكون هذا المشروع كقوة معنوية تمكن من الحضور والتأثير في المشهد السياسي ، ومشروع لاستثمار الكنوز الأرضية بإنتاج قوة مادية تتمثل بتطور تقني على كافة الأصعدة ونهضة عمارنية تطويرية ، وقبل ذلك كله علو ونزاهة في الصعيد القيمي الذي يشكل منطلقا لسائر المشاريع النهضوية ، فتشبغ بتحقيق ذلك رغبة الإنسان في نيل قدر أكبر من الكرامة التي اختص بها بفضل من الله على سائر المخلوقات (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ))
ومنذ أن وقت هذه الأمة في حبائل الاستعمار وما بعده الذي سمي زورا بعصر النهضة وحتى الآن ونحن في حال من التخلف والانحطاط الشمولي ؛ على المستوى الديني في اختلال جملة من المفاهيم والعقائد في نفوس المسلمين ، وعلى الصعيد السياسي بتمزيق للوحدة الإسلامية بظهور الدولة القطْرية التي جعلت مناطاً للولاء والبراء ومورس في ظلِّها جرائم من الاستبداد والطغيان وكبت الحريات فأحدثت خللاً في المفهوم الشرعي للخطاب السياسي ، وهكذا دواليك في الجانب الثقافي من ضعف في النتاج بلْه الإبداع والاجتهاد ووقوع في التقليد وتعطيل العقول وتجميدها ، وانسياق خلف مفاهيم وتصورات قذفتها لنا الحضارة الغربية فتلقَّفها من تلقفها من أبناء هذه الأمة على حالٍ من الإعجاب والانبهار فقادوا طابورا خامساً يهدف إلى مسار ثقافي منحرف عن جادة هذه الأمة وسبيلها ، وحدث ولا حرج عن التفسخ الأخلاقي الذي يغزو شباب هذه الأمة بوسائل شتى فتلا ذلك تفاهة الاهتمامات وسطحية التفكير وانطماس الوعي ، كل هذا مع اجتياح العدو الخارجي بقوة السلاح جعلنا نعيش حالا من الارتباك والـتأزم جعلت مسيرتنا للنهوض مشوبة بكثير من العقبات !!!
وكان من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن لم يخل عصر من عصور تاريخها إلا وثمة قائم لله بالحجة ، فانطلقت جحافل المصلحين على تنوع وسائلهم وطرائقهم قاصدين العلو والنهوض بهذه الأمة المرحومة الشاهدة على البشرية كلها ؛ فمشروع جهادي يقاوم المحتل ظهرت فيه أسمى التضحيات الإيمانية في سبيل الله جل جلاله فكان عاملا من عوامل نهضتها وإفاقة أبنائها ، ومشروع علمي ثقافي رصين نبذ فيه التعصب المقيت والانسياق البغيض ، وفتح باب الاجتهاد فاسثمرت النصوص واستخرج منها نتائجها بمقدمات عقلية استبان فيها توافق المنقول مع المنقول ، ومشروع سياسي بدعوة إلى تحكيم الشريعة والعودة إلى المنهج الراشدي في السياسة والحكم المتمثل بتحقيق العدل والمساواة بين أفراد الأمة في المشاركة في صنع القرار السياسي واختيار الإمام ، والقسط في توزيع الثروة وقسمتها ، ومشروع دعوي يوقد البشرية من ظلمات التيه والجهل إلى نور الإيمان والبصير ويصنع التدين في أفراد هذه الأمة الذي كان ولا يزال هو شرارة مشاريع النهضة ، ولا تزال – ولله الحمد – هذه المشاريع قائمة تشكل إرهاصاً لقيام نهضة إسلامية شمولية ، وإن كان أتى على بعض ممن قام ببعض هذه المشاريع ما أتى على أهل الكتاب حين قالوا (( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء )).
والمصلحين من قواد هذه المشاريع النهضوية لم تر مشاريعهم النور إلا بعد رحلة شاقة من البناء الذاتي الشمولي ، فتكونت بذلك قواعد من حقائق العلم والإيمان في نفوسهم خولتهم لقيادة فئام من الناس إلى النهضة والرقي ، وعلى قدر البناء والتحصيل الذاتي تكون النتيجة والثمرة ، ولك أن تعتبر بسيرة أعظم المصلحين في تاريخ هذه البشرية محمد صلى الله عليه وسلم وما أمضاه في غار حراء من حال التعبد والتحنث والصلة بالله ولزوم قيام الليل عليه في بادئ الأمر مما حصّل به طاقة إيمانية خولته لتحمّل القول الثقيل فكان بأبي وأمي ونفسي نبراساً أشرقت به البشرية إلى الآن ، ولك أن تعتبر كذلك بحال الفاروق الذي أخبر عنه المصطفى – عليه الصلاة والسلام – بأنه رآه في المنام يشرب لبناً فروى حتى خرج الري من أضفاره قالوا يا رسول الله فما أولته قال ( العلم ) فقاد الأمة عشر سنين بقيادة محكمة تمثل فيها فقهه وعلمه بمعالجة نوازل ومستجدات لم يكن ليقضي فيها غيره رضي الله عن الصحابة أجمعين .
الإخوة الأكارم : إن السنن الإلهية والنواميس الكونية لا تتغير ولا تتبدل ، فلم تنهض أمة بحضارتها إلا بعد بناء أفرادها وتحصينهم ورقي كل فرد منهم ، فهذه هي الشرارة الأولى للنهضة والرقي ، وهي منطلق المشاريع ، ومتى حلَّ التخلف الشمولي استلزم بناء شمولي بتحصيل الحد الأدنى من حقائق العلم والإيمان ومن ثم التخصص بعامل من عوامل النهضة سواء كان مشروعا علميا ثقافيا أو مشروع مقاومة أو مشروع سياسي أو اقتصادي أو نحوها فبالتخصص ينال الإبداع ، أما إهمال الرقي بالذات وترك تطويرها وبنائها والتباكي على حال هذه الأمة وطلب النهضة الحضارية بمجرد أمانٍ بعيدة التحقق فهذه عقوبة ربانية مصداقها قول الباري – جلّ جلاله – (( نسو الله فأنساهم أنفسهم ))!!