أعجبنى و الله هذا المقال فأحببت أن أنقله لكم
حتى نرى حجم الفساد الذى إنتشر بسبب إتجاه الحاكم و وزرائه إلى التجارة و ترى الفساد الذى إنتشر نتيجة إتجاههم إلى التجارة و تركهم حال الأمة .
لا شك أن الفساد في أي أمة يبدأ من رأسها و هو ما يترتب عليه تدمير البنية الإجتماعية و الإقتصادية؛ لأي شعب يُبتلى بمثله، و من أبرز مظاهر هذا الفساد تحول الحكام و الوزراء والولاة إلى تُجار، أو جمعهم بين الحكم والتجارة، و هذه الظاهرة لا تخص بلدًا إسلاميًّا بعينه، بل تكاد تعم بلاد المسلمين جميعًا.
والحاكم وظيفته محددة ومهمته واضحة؛ وهي القيام على أمر الدين والدنيا في حياة الناس، وإقامة العدل بينهم، وحفظ الأمن، والضرب على أيدي المفسدين والمجرمين حتى يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، ويتفرغوا للعمل والإنتاج وعمارة الأرض والبلاد، فإذا اشتغل الحاكم أو من يعاونه من الوزراء أو من هم دونهم في السلطة بالتجارة، فأول ضرر يحصل من ذلك أنهم لم يعودوا متفرغين لمهمتهم الأصلية التي اختيروا من أجل القيام بها؛ لأن تلك المهمة تستغرق الوقت كله، وكل إنفاق لوقت الحاكم ومَن يعاونه في غيرها سيعود بالنقص على أدائها والقيام بـها حق القيام.
وقد تنبَّه إلى هذا الخطر و عالجه تراثنا الإسلامي، بوضع قواعد ترسم الإطار العام وتحدد دور الحاكم ومَن يعاونه من الولاة والوزراء والقضاة وغيرهم وتبين ماهية السلطة والعلاقة بينهم وبين والمحكومين، وقد مارست هذه السياسة الدولة الإسلامية منذ إنشائها على عهد رسول الله- صلى الله وعليه وسلم-، وخلال العصور التاريخية اللاحقة والمتعاقبة
مفسدة الولاة وهلاك الرعية
فطن الخلفاء المسلمون والفقهاء والمهتمون بالنظم السياسية أمثال أبو الحسن الماوردي صاحب كتاب الأحكام السلطانية، وابن خلدون في تاريخه، إلى خطورة استغلال الولاة والوزراء لمناصبهم السياسية في عقد صفقات تجارية، وأن الحاكم ومَن يعاونه ليس لهم الحق في أن يدخلوا الصفقات العامة بائعين أو مشترين، فقد رُوي أن عاملاً للخليفة عمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب ظهر عليه الثراء فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجتُ بنفقةٍ معي فتجرت فيها فقال عمر: "أما والله ما بعثناكم لتتجروا"، وأخذ منه ما حصل عليه من ربح.
وفي أعقاب تولى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، أصدر بيانًا شاملاً فيما يتعلق بهذا الموضوع ذكر فيه ما يلي: "لا يحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فإن الأمير متى يتجر يستأثر ويصيب أمورًا فيها عنت وإن حرص على ألا يفعل"، ومما نقلته كتب التاريخ عن عمر بن عبد العزيز أيضًا قولته المشهورة: "تجارة الولاة مفسدة، وللرعية مهلكة".
ويذكر الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله تعالى عنهما- أن من أشراط الساعة تجارة السلطان، أما العلامة شيخ المالكية جلال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس المصري المالكي مصنف كتاب "الجواهر الثمينة في فقه أهل المدينة" فيرى أن الحاكم لا يشتري بنفسه ولا بوكيلٍ معروفٍ حتى لا يُسامح في البيع، ويذكر محمد بن عبد الحكم أنه لا فرق بين شرائه لنفسه وبين توكيله لذلك, ولا يوكل إلا مَن يؤمن على دينه لئلا يسترخص له بسبب الحكم وما أشبه ذلك.
ورُوي عن البخاري أنه قال: "ما اشتريت منذ وليت من أحد بدِرهم ولا بعت أحدًا شيئًا، فسُئل عن الورق والحبر فقال: كنت آمر إنسانًا فيشتري لي، ويذكر ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية أنه كما حرمت التجارة حرم ما في معناها؛ مما يجلب ربحًا للوالي بسبب ولايته كالمؤجرة والمساقاة والمزارعة.
وقد عقد ابن خلدون فصلاً عن أن "تجارة السلطان مضرة بالرعايا" ذكر فيه أن دخول السلطان ميدان التجارة يضر بالرعايا وينافي الإسلام، فحينما يزاحم الحاكم شعبه في حيازة مصادر الرزق من تجارة وصناعة وزراعة وغيرها، فإن الغلبة ستكون له في النهاية؛ لأنه الأقوى جاهًا وسلطةً، وسوف يخلي الناس له الطريق إلى ما يريد حتى ولو لم يستخدم أجهزة أمنه وجيشه وسيرجع ذلك بالضرر الكبير على حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية، كما أن أعوان السلطان قد يشترون لحسابه الواردات الخارجية ثم يضعون لها ما يشاءون من أسعار لضمان ربح كبير للسلطان، ثم أن تجارة السلطان لا تخضع للمكوس والضرائب التي تخضع لها تجارات الآخرين، وفي هذا ظلم على التجار وعلى الرعية.
واستنتج ابن خلدون بفكره الثاقب ما يمكن أن يترتب على ذلك من الركود الاقتصادي والكساد والخسارة على مستوى المجتمع، وأشار إلى أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية، وهي غلط عظيم وتُدخل الضرر على الرعايا من وجوهٍ متعددة، كمضايقة الفلاحين والتجار في أرزاقهم، واحتكار مصادر رزقهم، وتحول ذلك إلى الحاكم بأبخس الأثمان، فتتعطل مصالحهم، ويذهب رأس مالهم، وتخرب أسواقهم، ويقعدون عن التفكير في أي مشروع، ويصيبهم اليأس والغم والنكد، لاعتقادهم أن تعبهم وثمرة تفكيرهم ستؤول في النهاية إلى يد الحاكم، ولا يبقى عندهم الحافز للعمل والكسب لما يجدونه من العنت والمضايقة عند جباية الضرائب المرتفعة منهم "مما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملةً، ويؤدي إلى فساد الجباية، فإن معظم الجباية من الفلاحين والتجار، وإذا قعد الرعايا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت النفقات وكان فيها إتلاف أحوالهم".
وأعتقد أن الأضرار التي حذَّر منها ابن خلدون من جرَّاء اشتغال الحكام والوزراء باستثمار أموالهم واشتغالهم بالتجارة (بالبزنس) ليست عنا ببعيد ولنسأل أكياس الدم الفاسدة والعبارة المنكوبة.. إلخ.
الهدايا
ومن أوضح المحرمات التي حاربها الإسلام على الحاكم وأعوانه الهدايا، رُوي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "هدايا الأمراء غلول" أخرجه البيهقي والطبراني، وروي عن ابن سعيد الخدري أنه قال "هدايا العمال غلول"، ويدل الحديث على تحريم القبول المطلق للهدية على الحاكم وغيره من الأمراء، وقد أوضح الرسول أن الهدايا للعمال أو الولاة يقصد بها شيء من ورائها، فقد استعمل عليه السلام رجلاً من الأزد على الصدقة فلما عاد وأخذ يُقدِّم ما جمعه من مالٍ للرسول-صلى الله عليه وسلم-، احتجز بعضه وقال: "هذا أُهدي لي".. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ، فهلا جلس في بين أبيه أو بيت أمه فينظر أُيهدى إليه أم لا". ورُوي أن رجلاً أتى الخليفة عمر بن عبد العزيز بتفاحاتٍ فأبى أن يقبلها فقيل له: قد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية.. فقال عمر: "هي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- هدية وهي لنا رشوة"، وردًّا على هذا أبطل عمر أخذ الهدايا التي كان الولاة الأمويون يأخذونها وبخاصة هدايا أعياد النيروز، وهي هدايا تُعطى في مناسبات وأعياد الفرس، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله كتابًا، يُقرأ على الناس، يبطل فيه أخذ التوابع والهدايا، كما أنذر ولاته وعماله من أن يتخذ أحد منهم تلبية طلبات الخليفة أو أحد أهله شيء مُسَلم به.
ويرى الفكر الإسلامي أن قلة مرتب العامل قد تدفعه إلى الشطط، ولذلك اتجه المفكرون المسلمون إلى إعطاء العامل مرتبًا فيه نوع من السخاء حتى يترفع بذلك عن الشبهات، وفي ذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه: "إن على مَن ولي الأمر أن يُفسح لواليه في البذل لتزول بذلك علته وتقل معه حاجته إلى الناس"، ويخاطب الإمام علي ولي الأمر بقوله: "أسبغ على ولاتك الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو نقضوا الأمانة".
وأخيرًا نحب أن ننوه أنه ليس معنى ذلك أن الإسلام ضد حق الملكية الفردية للمال، فالإسلام يقر حق الملكية الفردية للمال طالما حصل عليه الفرد بالطرق المشروعة، كما يقر الإسلام التفاوت في الملكية الفردية تبعًا للجهد الذي يبذله الفرد وبقدر ما يصادفه من توفيق، فقد حثَّ الفكر الإسلامي على العمل وجعله عبادة وحثَّ على المثابرة عليه، يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص: من الآية 77)، ولكن ليس معنى ذلك أن يوجد أغنياء مستغلون لمناصبهم السياسية، ولكن نحن مع الغنَى الذي يأتي بعد قضاء حاجات الناس".
إذاً دخول الحاكم ميدان التجارة فيه هلاك للرعية