هل صحيح أن كل الأحاديث الواردة في تحريم الغناء فيها مقال؟
ليس هذا صحيحا، ولكن هذا إنما هو رأي لأبي محمد علي بن حزم ولأبي بكر محمد بن العربي ولغيرهما وذلك بحسب علمهم، وقد طعن ابن حزم في واحد وعشرين حديثا ذكرها في المحلى تحرم الغناء، وابتدأها بالحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح وهو حديث أنه سيكون في آخر الزمان أقوام يمسخون قردة وخنازير لأنهم يستحلون الخمر والحر والمعازف، فهذا الحديث لم يستطع ابن حزم الطعن في دلالته، وإن كان هو أصوليا بارعا لم يستطع الطعن في دلالته، ولم يستطع كذلك الطعن في إسناده فالحديث لا يمكن أن يضعف من ناحية الإسناد لكنه طعن فيه فقط من جهة واحدة هي من جهة كونه زعم أنه معلق، والمعلق عند المحدثين معناه ما حذف بعض إسناده من أوله، معناه مما يلي المحدث منه، والبخاري قال في هذا الحديث: قال هشام ابن عمار حدثنا صدقة، هشام بن عمار شيخ البخاري، وهو ثقة من أئمة أهل العلم ومن الأثبات، وهو حدث بهذا الحديث عن صدقة وصرح فيه بالتحديث، فإذن البخاري قطعا لم يكن ليجزم بأن هشام بن عمار قال هذا إلا إذا كان سمعه منه، فإذن الحديث إسناده متصل ولا إشكال فيه وليس فيه سقط، وما زعم ابن حزم من أن البخاري حذف فيه شخصا بينه وبين هشام بن عمار ليس واردا، وإن كان احتمالا فهو احتمال ضعيف جدا، فلذلك فإن أهل التوسط من أهل الحديث ذهبوا إلى أن القول الذي يقول فيه البخاري قال فلان وينسب ذلك إلى شيخه فإنه يكون بمثابة المعنعن، والمعنعن في الحديث هو ما ذكره المحدث بصيغة (عن فلان)، وهذا إن كان المحدث مدلسا لا يقبل إلا إذا صرح بالسماع، وإن كان غير مدلس فليست العنعنة علة للحديث، ولذلك فإن كثيرا من الأحاديث التي في الصحيحين تأتي بلفظ العنعنة ولا يأتي فيها التصريح بالسماع لأن رواتها غير مدلسين، إذن رد العراقي في الألفية على ابن حزم في زعمه أن هذا الحديث معلق فقال في المعلق في الألفية:
.
وإن يكن أول الاسناد حذف** مع صيغة الجزم فتعليقا عرف
ولو إلى آخره أما الذي** لشيخه عزا بقال فكذي
عنعنة كخبر المعازف** لا تصغ لابن حزم المخالف
.
إذن نصيحة الحافظ العراقي لطلاب العلم أن لا يصغوا لابن حزم المخالف في هذه المسألة، ونصيحة العراقي ليست نصيحة له وحده، بل قد سبقه إليها النووي وكذلك ابن الصلاح وأيضا أخذ بها من بعده أئمة المسلمين كالحافظ بن حجر وغيره، فالراجح إذن أن الحديث الذي في البخاري ليس فيه إشكال، ولو كان فيه إشكال فقد ورد أيضا عند أبي داود نفس الحديث بإسناد ليس فيه قال هشام بن عمار فبذلك انتفت الريبة فالحديث صحيح، وأيضا ثمة أحاديث أخرى صحيحة لا يتطرق إليها احتمال ولا شك وفيها ما يدل على تحريم الغناء، سواء منها ما كان في حكم الرفع وكان موقوفا كالأثر الثابت عن عبد الله بن مسعود أنه أقسم بالله الذي لا إله إلا هو الذي يحلف به ابن مسعود أن قول الله تعالى : {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} أنها المعازف فهذا لا يمكن أن يعرف إلا بالتوقيف، ولا يمكن أن يقسم ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو الذي يحلف به ابن مسعود على أمر لم يسمعه من الرسول r في تفسير القرآن وهو الذي كان يخاف كثيرا من تفسير القرآن.
أما الأحاديث التي طعن فيها ابن حزم وأورد مجموعة منها، فكثير منها يمكن أن نوافقه في طعنه وبعضها لا نوافقه، فمثلا ابن حزم طعن في ثلاثة أحاديث من أحاديث تحريم الغناء بأن في إسنادها عبد الملك بن حبيب، وعبد الملك بن حبيب من أئمة المالكية وهو مؤلف كتاب الواضحة الذي هو من أهم كتب المالكية، وقد ذكر الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب ترجمة لطيفة لعبد الملك بن حبيب وعبد الملك ليس من رجال الكتب الستة، ولكنه يذكر في رجال الكتب الستة تمييزا، والتمييز معناه أن يشترك الشخص في اسمه واسم أبيه مع رجل من رجال الكتب الستة، فيذكر لينبه إلى أنه ليس من رجالها، ولذلك تجدون كتب الرجال يذكرون فلانا ويقولون تمييز، تمييز لم يرمز له بحرف من الحروف المعروفة، مثلا الشخص إذا رمز له بالعين معناه أنه روى له الجماعة كلهم، إذا رمز له بالخاء والميم معناه أخرج له البخاري ومسلم في الصحيحين، إذا رمز له بالميم فقط معناه مسلم فقط، إذا رمز له بالميم ورقم 4، معناه مسلم والسنن الأربعة، إذا رمز له بالدال معناه أبو داود، بجه معناه ابن ماجه، بالنون معناه النسائي، وهكذا بالتاء معناها الترمذي، إذن هؤلاء الرموز إذا وجدتم شخصا من الرجال رمز له بأحد هذه الرموز تعرفون من أخرج له، أما إذا لم يذكر له رمز من هذه الرموز وكتب عنده تمييز، فمعناه أنه ليس من رجال الكتب الستة ولكن ذكر لاشتراكه في اسمه واسم أبيه مع رجل من رجال الكتب الستة، لما ترجم الحافظ في تهذيب التهذيب لعبد الملك بن حبيب قال: وقد رماه ابن حزم بالكذب ولم يكن أحد يتجرأ عليه به غير ابن حزم فلا يسلم له، فابن حزم وحده هو أول من تجرأ على ابن حبيب بأن رماه بالكذب، وإلا فابن حبيب من أئمة المالكية الأعلام وكان موازيا وموازنا لسحنون بن سعيد، وسحنون تعرفون أنه من أئمة الدين المتفق على إمامتهم لدى الجميع، وهو الذي روى المدونة عن ابن القاسم وهو الذي ولي قضاء القيروان سبعين سنة لم يأخذ عليها درهما واحدا ولا دينارا، ولي القضاء سبعين سنة لم يأخذ دينارا واحدا ولا درهما من بيت المال، ولما كان يولي القضاة كان يأخذ لهم الأرزاق لكن يشترط أن يأخذ الجزية من اليهود مباشرة يأخذها هو بيده ليعلم أنها خالصة وأنه لم يظلمهم ولم يأخذ منهم إلا الحق الواجب عليهم، فلذلك فإن ابن حبيب كان موازيا لسحنون سحنون في القيروان وابن حبيب في الأندلس، فلا يمكن الجراءة عليه بما تجرأ عليه به ابن حزم، ولذلك يقول الشيخ محمد سالم بن عدود في نظم له لرجال الكتب الستة يقول فيه:
ابن حبيب قد رمى بالكذب** أبو محمد بن حزم وأبي
إذ لم يكن من قبله من يجتري** به عليه قاله ابن حجر
فابن حجر ذكر أنه لم يتجرأ عليه أحد بهذا