مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد
لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
المتوفى سنة 1206ه
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل
مما قال الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام (محمد بن عبد الوهاب) رحمه الله تعالى, لما ارتاب بعض من يدعي العلم من أهل العيينة لما ارتد أهل حريملاء.
فسئل الشيخ أن يكتب كلاماً ينفعه الله به.
فقال رحمه الله تعالى: روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: كنتُ وأنا في الجاهلية أظنُّ أنَّ النَّاسَ على ضلالةِِ, وأنَّهم ليسوا على شيءٍ, وهُم يعبُدُون الأوثانَ, قالَ: فسمعتُ برجلٍ بمكة يخبرُ أخباراً فقعدتُ على راحلتي فقدمتُ عليه فإذا رسول الله صلى اللهُ عليه وسلَّم مستخفياً جرأ عليه قومُه فتلطفتُ حتى دخلتُ عليه بمكة فقلتُ له: ومـا أنتَ؟. قال: ( أنا نبيّ )!. قلتُ: ومـا نبيّ؟ قال: (أرسلني اللهُ)!. فقلتُ: بأي شيء أرسلكَ؟ قال: ( أرسلني بصلة الأرحام, وكسرالأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء)!. فقلتُ له: ومن معك على هذا؟. قال: (حر وعبد)!. قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممَّن آمن معه، فقلتُ: إني متبعُكَ. قال: ( إنك لا تستطيعُ ذلك يومك هذا, ألا ترى حالي وحـال الناس, ولكن ارجعْ إلى أهلك, فإذا سمعتَ بي قد ظهرتُ فأتني). قال: فذهبتُ إلى أهلي وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكنتُ في أهلي، فجعلت أتخبرُ الأخبارَ وأسألُ الناس حين قدم المدينة, حتى قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة, فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا الناس إليه سراع! وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك, فقدمتُ المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: ( نعم! أنتَ الذي لقيتني بمكة). قال: قلت بلى، فقلتُ: يا نبي الله علِّمني مما علَّمَكَ اللهُ وأجهلُهُ, أخبرني عن الصلاة. قال: ( صلِّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس, وحتى ترتفع, فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان, وحينئذ يسجد لهـا الكفار, ثم صَلِّ فان الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح, ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم, فإذا أقبل الفيء فَصَلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر , ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ) وذكر الحديث .
قال أبو العباس رحمه الله تعالى: فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها معللاً ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان, وأنه حينئذ يسجد لها الكفار، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان, ولا أنَّ الكفار يسجدون لها، ثم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة. ومن هذا الباب أنه كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن ولم يصمد له صمداً، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل لما فيه من مشابهة السجود لغير الله. انتهى كلامه .
فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما في هذا الحديث من العبر فإن الله سبحانه وتعالى يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم ليكون للمؤمنمن المستأخرين عبرة فيقيس حاله بحالهم، وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا .
فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلاً بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير, وهذا فسر به قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} أي حرصاً على تعلم الدين: {لَأَسْمَعَهُمْ} أي لأفهمهم, فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدلا منه سبحانه لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين .
فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين, فإذا كان هذا الجاهلي يطلب هذا المطلب, فما عذر مَن ادَّعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه وعنده من يعرض عليه التعليم ولا يرفع بذلك رأساً، فان حضر أو استمع فكما قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}.
وفيه من العبر أيضا أنه لما قال: ( أرسلني الله ). قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بكذا وكذا. فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية، والدعوة النبوية، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان, ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة وتجريد السيف، فتأمل زبدة الرسالة .
وفيه أيضاً أنه فهم المراد من التوحيد، وفهم أنه أمر كبير غريب، ولأجل هذا قال: من معك على هذا؟ قال: ( حر وعبد ) فأجابه أن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر، فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل وأن الباطل قد يملأ الأرض. ولله در الفضيل بن عياض حيث يقول: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وأحسن منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
وفي الصحيحين أن بعث النار من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة وفي الجنة واحد من كل ألف، ولما بكوا من هذا لما سمعوه قال صلى الله عليه وسلم: (( إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا أكملت من المنافقين)) قال الترمذي: حسن صحيح . فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث من صفة بدء الإسلام، ومن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ )) تبين له الأمر إن هداه الله وانزاحت عنه الحجة الفرعونية:{فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} والحجـة القرشية: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ}.
وقال أبو العباس رحمه الله تعالى في كتاب (إقتضاء الصـراط المستقيم ) في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} : ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغيرالله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله فلو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، وهذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين، فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة، وتصريحه أن المنافق يصير مرتداً بذلك، وهذا في المُعَيَّن إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين .