بسم الله وبعد :
فهذا الجزء الأخير من بحث في أدلة استحباب الإطعام والاجتماع عند أهل الميت : ...
المسألة العاشرة: ذكر خبر جرير المعارض لكل الأحاديث السابقة وبيان وجهه وعلله:
هذا وقد عارض أثر كل الأحاديث السابقة والكثيرة في مشروعية الاجتماع عند أهل الميت، واستحباب الإطعام عنه من ماله أو من طرف أهله أو آله أو غيرهم،
عارض كل هذه الأحاديث خبرٌ واحد فقط وهو أثر موقوف يُروى عن جرير رضي الله عنه، مع اختلاف الرواة عليه فيه، فمرة يُنسَبُ الفعل للصحابة، وتارة يُنسب لفتوى جرير وحده، ومرة فيه النهي عن الإطعام وأخرى فيه النهي عن التعداد فقط، بالإضافة إلى اختلافات وعلل أخرى هذا بيانها :
الأثر الأول : أثر جرير : مداره على إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير واختلف عنه :
1/ فأما رواية هشيم فهي موضوعة، مدلسة عن الكذابين ولا أصل لها من حديث الثقات :
. فقال ابن ماجة 1612 حدثنا محمد بن يحيى ثنا سعيد بن منصور ثنا هشيم ح وحدثنا شجاع بن مخلد أبو الفضل ثنا هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: "كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة"،
هكذا رواه سعيد وأبو الفضل عن هشيم، وجعله ابن منيع بلفظ: "كانوا".
. فقال الطبراني (ك 2/307): حدثنا عبدان بن أحمد ثنا أحمد بن منيع ثنا هشيم عن إسماعيل عن قيس عن جرير قال: كانوا يرون أن اجتماع أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة"،
وهذا إخبار عن الصحابة أو عن بعضهم في أنهم كانوا يرون عموم صنعة الطعام مكروهة مطلقا أيا كان صانع ذلك ، أهل الميت أو أقاربه أو جيرانه أو غيرهم، وهذا يُخالف كل الأحاديث السابقة ، وكل ما صح عن الصحابة على خلاف حديث جرير كما مضى ، وقد صححه جماعة من المتأخرين وهو وهْم شديد تتابعوا عليه .
وقد تفرد بهذا اللفظ هشيم عن اسماعيل وهشيم مدلس كثير التدليس عن المجاهيل والمتهمين، باتفاق الحفاظ وشهرة ذلك بينهم ، ولم يُصرح بالتحديث ههنا ، ولا أراه إلا أخذه عن الكذابين ، ولا أصل له من السنة أبدا ، وهو موضوع .
قال أبو داود في كما في مسائل الإمام أحمد (1867)": ذكرت لأحمد حديث هشيم عن إسماعيل ..., قال: "زعموا أنه سمعه من شريك، قال أحمد: وما أرى لهذا الحديث أصلا "،
فتأمل قوله :" .. لهذا الحديث "، أي لا أصل لذاته بكل طرقه لوهائها ، ولم يقل " هذا طريق لا أصل له"
وهذا يعني أنه لم يسمعه من شريك وهو لين ، بل سمعه من آخر متهم عن شريك ، ولذلك قال :" لا أصل له "، ولا تقال إلا عن المتهمين .
ولا يُعتد أيضا بمتابعة خالد المدائني ولا نصر بن باب له، لأنهما متهمان بالكذب :
. فأما رواية المدائني:
فقال الدارقطني :" ورواه خالد بن القاسم المدائني عن هشيم عن شريك عن إسماعيل "، ومع ذلك لم يسمعه هشيم من شريك لأنه عنعن أيضا ، ولا أصل له .
. وقد رواه نصر عن اسماعيل ، لكن زاد فيه تقييد الكراهة بما بعد الدفن فقط :
2/ فقال أحمد في مسنده (2/204) ثنا نصر بن باب عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعه الطعام بعد دفنه من النياحة "،
ونصر هذا كذاب أو متهم بالكذب عند الأكثرين ، إلا الإمام أحمد فإنه رضي به ، ومع ذلك فالإمام أحمد مع روايته لهذه المتابعة عن نصر فهو لم يعتد بها، وقال بأن الخبر " لا أصل له "، ولم يذكر هذا الأثر في مسند جرير أصلا، بل ذكره في مسند عبد الله تبعًا .
بينما رواه عباد بن العوام وهو ثقة عن اسماعيل بلفظ السؤال والنهي عن التعداد فقط ، ولم يذكر فيه النهي عن الإطعام، وهو الأصح لثقة كل رجاله مع اتصاله :
3/ فقال الطبراني (2/207) 2278 حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني ثنا سعيد بن سليمان عن عباد بن العوام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال قال جرير بن عبد الله: يعددون الميت أو قال أهل الميت بعدما يدفن؟ شك إسماعيل، قلت: نعم، قال: كنا نعدها النياحة "،
ففي هذا الخبر أن جريرا هو الذي سأل قيس بن أبي حازم عن هذا العدد للميت وأنه هو النياحة، لا ذكر فيه للطعام أصلا ، وهذا أصح طريق وحديث في الباب .
والمقصود بالتعداد هو المبالغة في تعداد مآثر الميت بما لا يستحق، وربما من عد الأيام ، كل يوم يفعلون فيه عادة معينة منذ الوفاة .. والله أعلم .
الأثر الثاني : وورد هذا الأثر عن عمر وقيل عن جرير مما يزيد في اضطرابه :
4/ فقد رواه سعيد بن منصور في سننه ولم أجد إسناده، وجعل فيه جريرا سأل عمر بن الخطاب عن هذا الفعل، ولفظ حديثه: أن جريرا وفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هل يناح على ميتكم ؟ قال: لا، قال: فهل تتجمعون عند أهل الميت وتجعلون الطعام ؟ قال: نعم، قال: ذاك النوح"،
وكأنه يرجع إلى الحديث التالي :
قال أبو بكر في المصنف باب ما قالوا في الإطعام عليه والنياحة، حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن طلحة قال: قدم جرير على عمر فقال: هل يناح قبلكم على الميت؟ قال لا، قال: فهل تجتمع النساء عندكم على الميت ويطعم الطعام؟ قال نعم، فقال: تلك النياحة "،
وهذا فيه أن عمر ومن كان معه كانوا يجتمعون ويطعمون، وأن جريرا زعم بأنه من النياحة ، وليس فيه ما يدعي المخالفون من أن عمرا رجع عن قوله، إذ لا يوجد ذلك في الخبر أصلا .
على أنه خبر منكر، ومنقطع بل هو معضلٌ بيْن طلحة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمد بعيد .
وورد عكس ذلك ، وأن الأثر من كلام عمر لا جرير، وهو معضل أيضا، ليس له مرَدّ إلا أنه مأخوذ عن الكذابين المضطربين كما قال الإمام أحمد : لا أصل له :
5/ قال أسلم في تاريخه (126) ثنا عبد الحميد: نا يزيد بن هارون نا عمر أبو حفص الصيرفي وكان ثقة قال: ثنا سيار أبو الحكم قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت بعد ما يدفن من النياحة "، وهذا أكثر إعضالا من سابقه ، مع المخالفة .
وبناءا على هذا فإما أن نسلك أحد المَسْلَكين :
أولاهما : مسلك الترجيح : فنقدم وجوبا أحاديث الجواز الصحيحة والكثيرة، مع أثر طاوس في استحباب الإطعام مطلقا، مع عد الأيام، لأنها أصح وأقوى لعدة أمور :
منها الكثرة وثقة الرجال، مع وجود الاتصال، وعدم الاختلاف فيها، لأنَّ كلَّ الأحاديث الكثيرة تؤيد أثر طاوس في استحباب الصحابة للإطعام عن الميت كما مضى، بالإضافة إلى الشواهد الكثيرة جدا في هذا الباب، العامة والخاصة، كلها تؤيد ذلك، بخلاف حديث جرير المنكر والمضطرب ، فإنه واحد مضطرب ، ثم ليس بصريح، مع الاختلاف عليه فيه :
[ فأما الطريق الأولى ففيها هشيم وهو مدلس، ومعه نصر بن باب وهو متهم وقد زاد التقييد بما بعد الدفن، وأما الطريق الثالثة وما بعدها فهي معضلة ضعيفة، ومع ذلك فقد اختلفوا في الألفاظ ، فرواها بعضهم من فتوى جرير وحده، وجعله آخرون عن الصحابة أو بعضهم، وجعل بعضهم الحوار مع قيس، وجعله آخرون مع عمر بن الخطاب وغير ذلك من العلل التي توجب رد هذا الحديث، كيف وقد خالف الأحاديث الكثيرة في استحباب الإطعام كما مضى ]،
ولم تبق إلا طريق عباد بن العوام عن اسماعيل، وهي صحيحة متصلة ليس فيها ذكرٌ للطعام أصلا، وإنما أفتى فيها جرير بكراهة التعداد عن الميت فقط،
والثاني : مسلك الجمع : وعلى افتراض صحة اللفظ السابق ولم يصح ، فلا بد من أن نسلك مسلك الجمع على بُعْده وكوْنه مرجوحا فنقول:
1/ إن الاجتماع وصنيعة الطعام المنهي عنهما هما ما وافق مجالس النياحة والصياح والغيبة، والجواز إذا لم يكن هنالك نياحة كما مضى من قول البخاري والأحاديث الصريحة في ذلك، وهو قول المالكية،
وقال أشهب: وسئل مالك عن أهل الميت هل يبعث إليهم بالطعام ؟ فقال إني أكره المناحة، فإن كان هذا ليس منها فليبعث"، قال ابن رشد كما في البيان والتحصيل: وهذا كما قال، لأن إرسال الطعام إلى أهل الميت لاشتغالهم بميتهم إذا لم يكونوا اجتمعوا لمناحة من الفعل الحسن المرغب فيه المندوب إليه"،
وفي الفواكه الدواني (1 / 332) قال:" وأما ما يصنعه أقارب الميت من الطعام وجمع الناس عليه فإن كان لقراءة قرآن ونحوها مما يرجى خيره للميت فلا بأس به، وأما لغير ذلك فيكره، ولا ينبغي لأحد الأكل منه إلا أن يكون الذي صنعه من الورثة بالغا رشيدا فلا حرج في الأكل منه، وأما لو كان الميت أوصى بفعله عند موته فإنه يكون في ثلثه ويجب تنفيذه عملا بفرضه".
2/ أو قد يُقال بأن الاجتماع المذموم هو اجتماع النسوة مع بيتوتهن عند أهل الميت ، لأنه يكثر منهن الندب والصياح وإظهار الحزن والغيبة ، فإن ذلك هو النياحة التي نهى عنها جرير، والله أعلم.
خرج عبد الرزاق (3/550) عن معمر عن ليث عن سعيد بن جبير قال: " ثلاث من عمل الجاهلية: النياحة، والطعام على الميت، وبيتوتة المرأة عند أهل الميت ليست منهم ". قال: ذكره الثوري عن هلال بن خباب عن أبي البختري .
3/ وقد يُقال بأن الاجتماع وصنعة الطعام المنهي عنهما ما قصد بهما الرياء والسمعة والمفاخرة، والجواز إذا انتفى هذا القصد .
4/ أو يقال بأن الاجتماع المذموم هو الذي يَسْتَدِيم فيه الْمُعَزِّي الْجُلُوسَ زِيَادَةً كَثِيرَةً عَلَى الحاجة فيحرجهم بذلك، وهو قول للحنابلة .
5/ وقد يُقال بتقييد حديث جرير بالنهي عن صنعة الطعام بعد دفن الميت والجواز على ما قبل ذلك، كما مضى في رواية نصر بن باب لكنها لم تصح وهذا أيضا من أبعد الاحتمالات لمخالفته الأحاديث السابقة .
6/ أو يُقال بأن النهي محمول على العقر وهو الذبح والإطعام عند القبر أو في المقبرة ، أو حمل الطعام إليها، مع تخصيص التعداد في ذلك كما في رواية جرير الصحيحة، فإن هذا هو المنهي عنه،
يؤيد ذلك ما رُوي عن أنس :" لا عقر في اللإسلام "،
قال في البزازية: يكره اتخاذ الطعام في اليوم الأول والثالث وبعد الأسبوع، ونقل الطعام إلى المقبرة في المواسم واتخاذ الدعوة بقراءة القرآن وجمع الصلحاء والقراء للختم أو لقراءة سورة الأنعام أو الإخلاص"، ومع ذلك فقد تعقبه البرهان الحلبي فقال:" ولا يخلو عن نظر لأنه لا دليل على الكراهة إلا حديث جرير المتقدم وهو ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن جرير بن عبد الله: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة اهـ يعني وهو فعل الجاهلية"، وقد تقدم أنه موضوع مدلس عن الكذابين لا أصل له .
7/ وحمله بعضهم على ما لو كانت صنعة الطعام من تركة الصغير، ففي استحسان الخانية:" وإن اتخذ ولي الميت طعاما للفقراء كان حسنا إلا أن يكون في الورثة صغير فلا يتخذ ذلك من التركة". ا هـ
8/ وقيل أن خبر جرير محمول على التبذير والمغالاة ، أو على ما لو وصى الميت بالإطعام عنه بما زاد عن الثلث، فإن الوصية بذلك منهي عنها، وأما الوصية بالإطعام بما دون الثلث مما ليس فيه تبذيرا فلا بأس بذلك كما مر وبالله التوفيق.
والحاصل أن الحديث موضوع ، ولا أصل له من حديث الثقات كما قال الإمام أحمد وأشار لذلك الدارقطني وبالله التوفيق .
كتبه أبو عيسى الزياني