العمرة في رمضان خاصة أم عامة؟
بحث للدكتور: فهد بن عبد الرحمن اليحيى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فقد استشكل البعض ما ورد عن سعيد بن جبير رحمه الله من اختصاص فضل العمرة في رمضان بالمرأة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ومن أجل ذلك راجعت كلام أهل العلم فتبين لي ما يلي :
أولا الحديث في الصحيحين عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان «ما منعك أن تكوني حججت معنا؟» قالت: ناضحان كانا لأبي فلان - زوجها - حج هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر يسقي عليه غلامنا، قال: «فعمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي» البخاري برقم (1782) ومسلم برقم (1256) ، واللفظ لمسلم .
ثانياً الفضل الوارد في الحديث (كحجة) عام في كل أحد لم يرد ما يخصصه ، وعلى هذا عامة أهل العلم نص طائفة منهم عليه من شراح الحديث وفي كتب الفقه من جميع المذاهب ، وبعضهم يذكر الحديث تاركاً فضله على عمومه دون تخصيص وبعضهم بّوب عليه تبويباً عامة ، وكثير منهم لم يذكر أصلا مخصصا له أو قائلا بالتخصيص .
تبويب الأئمة على الحديث :
في دوواين السنة الأبواب التالية على الحديث :
صحيح البخارى (3 / 603) باب عمرة فى رمضان .
صحيح مسلم (2 / 917) باب فضل العمرة في رمضان .
سنن الترمذي (4 / 7):عمرة في رمضان تعدل حجة .
سنن ابن ماجه (2 / 233):عمرة في رمضان تعدل حجة .
صحيح ابن حبان (9 / 12):ذكر البيان بأن العمرة في رمضان تقوم مقام حجة لمعتمرها .
مصنف ابن أبي شيبة (3 / 158):في عمرة رمضان وما جاء فيها .
وسيأتي ما في صحيح ابن خزيمة .
وكذلك في الكتب الجامعة مثل :
الترغيب والترهيب (2 / 114) : الترغيب في العمرة في رمضان.
فيض القدير (4 / 361):عمرة في رمضان تعدل حجة .
وجاء عن بعض السلف العموم والعمل فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (3 / 158):عن الشعبي سئل: هذا الحج الأكبر، فما الحج الأصغر؟ قال: «عمرة في رمضان» .
وفي الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (6 / 49) برقم (3246) عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: كنت من ركب مع مروان حين ركب إلى أم معقل وكنت فيمن دخل عليها من الناس فسمعها حين حدثت بهذا الحديث فكان أبو بكر لا يعتمر إلا في العشر الأواخر من رمضان حتى لقي الله عز وجل لما سمع من أم معقل. وذكره ابن حزم في حجة الوداع (1 / 129) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه مختصراً (3 / 159):عن أبي بكر بن عبد الرحمن: «لا يعتمر إلا في رمضان» .
ما جاء في شروح الحديث :
قال ابن حجر في فتح الباري (3 / 605):"والظاهر حمله على العموم" .
وقال العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (10 / 117):"والظاهر حمله على العموم".
وقال في دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7 / 77):"ولا تخصيص بكونه وارداً في امرأة تخلفت عن الحج معه - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: اعتمري إن عمرة إلخ، وذلك؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" .
وفي شرح النووي على مسلم (9 / 2) وعون المعبود (5 / 322) وتحفة الأحوذي (4 / 7) وحاشية السندي (2 / 233) ونيل الأوطار (4 / 358) لم يذكروا قائلا بالخصوص .
ما جاء في كتب الفقه :
الحنفية :
في البحر الرائق شرح كنز الدقائق (3 / 62):واختلفوا في أفضل أوقاتها فبالنظر إلى فعله - عليه السلام - فأشهر الحج أفضل وبالنظر إلى قوله فرمضان أفضل للحديث الصحيح «عمرة في رمضان تعدل حجة» .
المالكية :
في مواهب الجليل (3 / 23):أن العمرة لا تختص بزمن معين كالحج فقد اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أشهر الحج وأمر عبد الرحمن بن الصديق أن يعمر عائشة في ذي الحجة «، وقال: عمرة في رمضان تعدل حجة» أو قال: «حجة معي» ، ثم قال في (3 / 29):وقد رغب الشرع في العمرة في رمضان لما يرجى من تضاعف الحسنات ففي الموطإ .. فذكر الحديث ، وفي مختصر الواضحة، ونقله ابن فرحون أفضل شهور العمرة رجب ورمضان انتهى. وقال في القوانين: وتجوز في جميع السنة إلا لمن كان مشغولا بالحج وأفضلها في رمضان انتهى. والحديث في فضلها في رمضان، وأنها تعدل حجة معه - عليه الصلاة والسلام - ثابت في صحيح البخاري وغيره، وقد استمر عمل الناس اليوم على الإكثار منها في رجب وشعبان ورمضان وبعد أيام منى لآخر الحجة، والله أعلم.
الشافعية :
في المهذب للشيرازي (1 / 367):فصل: وأما العمرة فإنها تجوز في أشهر الحج وغيرها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفي شوال وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة" .
قال في المجموع شرح المهذب (7 / 148): يستحب الإكثار منها بلا خلاف عندنا ، قال أصحابنا : ويستحب الاعتمار في أشهر الحج وفي رمضان للأحاديث السابقة قال المتولي وغيره : والعمرة في رمضان أفضل منها في باقي السنة للحديث السابق .
الحنابلة :
قال ابن قدامة في المغني (3 / 221): فصل: وروى ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عمرة في رمضان تعدل حجة» . متفق عليه. قال أحمد: من أدرك يوما من رمضان، فقد أدرك عمرة رمضان.
وقال في الفروع (5 / 320):فصل: العمرة في رمضان أفضل, فذكر الحديث .. ثم قال : وفي غير أشهر الحج أفضل عندنا, ذكره في الخلاف, قال: لأنه يكثر القصد إلى البيت في كل السنة ويتسع الخير على أهل الحرم, وحكي عن أحمد, نقل ابن إبراهيم هي في رمضان أفضل, وفي غير أشهر الحج أفضل, وكذا نقله الأثرم, قال: لأنها أتم; لأنه ينشئ لها سفرا, ...وظاهر كلام جماعة التسوية.
ثالثاً هذا الحديث ورد من طرق كثيرة ، فقد روى الترمذي كما في السنن (3 / 267) الحديث بسنده إلى أم معقل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة» ثم قال الترمذي :وفي الباب عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وأنس، ووهب بن خنبش ، ويقال: هرم بن خنبش ، ... وحديث أم معقل حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقال أحمد وإسحاق: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن عمرة في رمضان تعدل حجة» ، قال إسحاق: معنى هذا الحديث مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ: قل هو الله أحد فقد قرأ ثلث القرآن ".
وقال ابن عبد البر في التمهيد (22 / 55):"وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عمرة في رمضان تعدل حجة من وجوه كثيرة من حديث علي بن أبي طالب وأنس وابن عباس ووهب بن خنيش وأبي طليق وأم معقل "
وانظر في طرقه أيضاً مسند الإمام أحمد (23 / 107) ،سنن ابن ماجه (2 / 996) ، مصنف ابن أبي شيبة (3 / 158) ، وغيرها .
ووروده من طرق يؤيد العموم وأنه لا يخص المرأة ، ولا سيما أن بعضها ليس فيه قصة بل ورد بلفظ عام .
قال الزرقاني في شرحه على الموطأ (2 / 403): "ووقعت لأم طليق قصة مثل هذه، أخرجها ابن السكن، وابن منده في الصحابة، والدولابي في الكنى من طريق طلق بن حبيب: «أن أبا طليق حدثه أن امرأته أم طليق قالت له – القصة بطولها، وفي آخرها قال: فإنها تسألك ما يعدل الحج، قال: عمرة في رمضان» ، وسنده جيد.
قال الحافظ: وزعم ابن عبد البر أن أم معقل هي أم طليق، لها كنيتان، وفيه نظر، لأن أبا معقل مات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق بن حبيب، وهو من صغار التابعين، فدل على تغاير المرأتين، ويدل عليه تغاير السياقين أيضا ، ثم ذكر قصة أم سنان الأنصارية في الصحيحين ، وقصة أم سليم عند ابن حبان ، قال :وبالجملة فهي وقائع متعددة " ا.هـ مختصرا .
رابعا معنى الحديث أشار إليه إسحاق كما تقدم وكذلك في تبويب ابن خزيمة ففي صحيح ابن خزيمة (4 / 360):
باب فضل العمرة في رمضان، والدليل على أنها تعدل بحجة، مع الدليل على أن الشيء قد يشبه بالشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني، لا في جميعه، إذ العمرة لو عدلت حجة في جميع أحكامها لقضي العمرة من الحج، ولكان المعتمر في رمضان إذا كان عليه حجة الإسلام تسقط عمرته في رمضان حجة الإسلام عنه، فكان الناذر حجا لو اعتمر في رمضان كانت عمرته في رمضان قضاء لما أوجب على نفسه من نذر الحج .
وقال ابن بطال في شرحه على صحيح البخارى (4 / 438):"قوله: (كحجة) يريد فى الثواب، والفضائل لا تدرك بقياس، والله يؤتى فضله من يشاء".
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (4 / 106):ي"ريد والله أعلم في التطوع لكل واحد منهما والثواب عليهما أنه سواء والله يوفي فضله من يشاء والفضائل ما تدرك بقياس وإنما فيها ما جاء في النص ".
وقال النووي شرحه على مسلم (9 / 2):"تقضي حجة أي تقوم مقامها في الثواب لا أنها تعدلها في كل شيء فإنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة ".
وفي فتح الباري لابن حجر (3 / 604):"قال بن العربي :حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها ، وقال ابن الجوزي :فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت" .
وقال في فيض القدير (4 / 361): "أي تقابلها وتماثلها في الثواب لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت ذكره المظهر. قال الطيبي: وهذا من باب المبالغة وإلحاق الناقص بالكامل ترغيبا وبعثا عليه وإلا كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج" اه.
وفي تحفة الأحوذي (4 / 7) وحاشية السندي على سنن ابن ماجه (2 / 233) نحو ما تقدم .
خامساً أقدم من أشار لكونه خاصا بالمرأة هو سعيد بن جبير ؛بل لم أجد غيره قال بذلك ، ففي مسند أبي داود الطيالسي (3 / 238):
بعد روايته للحديث قال شعبة: فحدثني أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة خاصة .
نعم جاء في سنن أبي داود (2 / 204) برقم (1989) عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن جدته أم معقل ...الحديث قالت :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «.. فأما إذ فاتتك هذه الحجة معنا فاعتمري في رمضان فإنها كحجة» فكانت تقول: "الحج حجة، والعمرة عمرة، وقد قال: هذا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري ألي خاصة ؟"
ولكن ذلك لا يعدو كونه احتمالا إن صح ذلك عنها حيث لم يرد في رواية الصحيحين ولهذا لم يصححها الألباني في صحيح أبي داود ، وعلى كل حال فعبارة " ما أدري ألي خاصة" جاء نحوها في أحاديث أخرى مع الإجماع على عمومها.
سادساً ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً قد يفهم منه نوع من التخصيص وإن كان أوسع مما جاء عن سعيد بن جبير حيث قال في مجموع الفتاوى (26 / 293):"ومعلوم أن مراده أن عمرتك في رمضان تعدل حجة معي فإنها كانت قد أرادت الحج معه فتعذر ذلك عليها فأخبرها بما يقوم مقام ذلك ، وهكذا من كان بمنزلتها من الصحابة ، ولا يقول عاقل ما يظنه بعض الجهال: أن عمرة الواحد منا من الميقات أو من مكة تعدل حجة معه فإنه من المعلوم بالاضطرار أن الحج التام أفضل من عمرة رمضان والواحد منا لو حج الحج المفروض لم يكن كالحج معه فكيف بعمرة ، وغاية ما يحصله الحديث: أن تكون عمرة أحدنا في رمضان من الميقات بمنزلة حجة ، وقد يقال هذا لمن كان أراد الحج فعجز عنه فيصير بنية الحج مع عمرة رمضان كلاهما تعدل حجة لا أحدهما مجردا " ا.هـ
وينبغي لفهم كلام شيخ الإسلام أن نلاحظ ما يلي :
1. كلامه كان في سياق مناقشة ما يسمى ( العمرة المكية ) وهو أن يخرج إلى التنعيم ليكرر العمرة وهو واضح لمن قرأ الصفحات السابقة لكلامه واللاحقة فقد أطال في ذلك ، وفرق بين تقرير مسألة ابتداء وبين ذكرها استطرادا .
2. قد تبين من كلام أهل العلم السابق معنى الحديث في كون العمرة في رمضان تعدل حجة ، وكلامه هنا لا ينفي الفضل والثواب ولكنه ينفي المساواة المطلقة والتامة وهذا واضح وعليه يحمل كلامه وكلامهم رحمهم الله جميعا.
3. صرح في الأخير بنفي الخصوصية بقوله :"غاية ما يحصله الحديث: أن تكون عمرة أحدنا في رمضان من الميقات بمنزلة حجة " وهذا موافق لقول عامة أهل العلم السابق وأما قوله :"وقد يقال ...الخ " فهذا احتمال لم يقف عنده كثيرا ولم يحرره ولم يقرره فلا ينسب إليه بإطلاق مع إشكاله لعدم الدليل عليه وهو أن الأصل العموم، وقوله الموافق لعامة العلماء أولى.
سابعاً بقيت مسألة يسيرة وهي المفاضلة بين العمرة في رمضان والعمرة في أشهر الحج ، أيهما أفضل ؟
قال ابن القيم في زاد المعاد (2 / 90):والمقصود أن عمره كلها كانت في أشهر الحج مخالفة لهدي المشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون: هي من أفجر الفجور، وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل منه في رجب بلا شك.
وأما المفاضلة بينه وبين الاعتمار في رمضان، فموضع نظر، فقد صح عنه أنه أمر أم معقل لما فاتها الحج معه أن تعتمر في رمضان، وأخبرها أن عمرة في رمضان تعدل حجة.
وأيضا: فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان، وأفضل البقاع، ولكن الله لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم في عمره إلا أولى الأوقات وأحقها بها، فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره، وهذه الأشهر قد خصها الله تعالى بهذه العبادة، وجعلها وقتا لها، والعمرة حج أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج وذو القعدة أوسطها، وهذا مما نستخير الله فيه فمن كان عنده فضل علم فليرشد إليه.
وقد يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهم من العمرة، ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة، فأخر العمرة إلى أشهر الحج ووفر نفسه على تلك العبادات في رمضان مع ما في ترك ذلك من الرحمة بأمته والرأفة بهم، فإنه لو اعتمر في رمضان لبادرت الأمة إلى ذلك، وكان يشق عليها الجمع بين العمرة والصوم وربما لا تسمح أكثر النفوس بالفطر في هذه العبادة حرصا على تحصيل العمرة وصوم رمضان، فتحصل المشقة، فأخرها إلى أشهر الحج، وقد كان يترك كثيرا من العمل وهو يحب أن يعمله خشية المشقة عليهم.
ولما دخل البيت خرج منه حزينا، فقالت له عائشة في ذلك؟ فقال: «إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي» ، وهم أن ينزل يستسقي مع سقاة زمزم للحاج، فخاف أن يغلب أهلها على سقايتهم بعده. والله أعلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري (3 / 605): الذي يظهر أن العمرة في رمضان لغير النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ، وأما في حقه فما صنعه هو أفضل لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه فأراد الرد عليهم بالقول والفعل وهو لو كان مكروها لغيره لكان في حقه أفضل .
وقد أشار الشوكاني في نيل الأوطار (4 / 358) إلى هذا الخلاف دون ترجيح .
وقد تقدم في كتب المذاهب الفقهية ترجيح أكثرهم عمرة رمضان ، ونص الحنابلة على قولين عندهم أشهرها تفضيل عمرة رمضان ؛ بل عدم استحباب العمرة في أشهر الحج ، والقول الآخر عندهم التسوية بينهما ، كما تقدم في الفروع ، وكما في كشاف القناع (2 / 520) قال :"(وهي) أي: العمرة (في غير أشهر الحج أفضل) منها في أشهر الحج، نقله الأثرم وابن إبراهيم عن أحمد ،واختار في الهدي أن العمرة في أشهر الحج أفضل، وظاهر كلام جماعة التسوية " (وأفضلها في رمضان ويستحب تكرارها فيه) أي: في رمضان (؛ لأنها تعدل حجة) لحديث ابن عباس مرفوعا «عمرة في رمضان تعدل حجة» متفق عليه ، قال أحمد :من أدرك يوما من رمضان فقد أدرك عمرة رمضان ".
والذي يظهر في مسألة التفضيل ما يلي :
1. أنها مسألة يسيرة والأمر فيها واسع لا ينبغي التشويش على الناس في شأنها فالعمرة كلها خير ، كما أن المفضول قد يكون فاضلاً لأسباب أخرى ، فليس ثم فاضل مطلقاً إلا عند التماثل من كل وجه .
2. لهذا فما أشار إليه ابن القيم في تعليل ترك النبي صلى الله عليه وسلم العمرة في رمضان وجيه جداً ، وله نظائر أخرى غير ما ذكر كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم».
وكما هو جواب وجيه في عدم عمرته في رمضان فهو جواب أيضاً في مسائل أخرى كعدم صيامه عشر ذي الحجة مع حثه على العمل الصالح فيها والذي يشمل الصيام، وعدم تمتعه في الحج مع حثه وأمره وتأكيده ، وعدم صيامه شهر محرم مع قوله :"أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم " وغيرها .
وأما قوله قبل ذلك :" لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم في عمره إلا أولى الأوقات وأحقها بها" فهذا حين يتجرد الفعل من قول معارض أو مقابل له ؛ فأما مع وجود نص في الأفضلية فلا يمكن الإطلاق لأننا نقول : نعم هو في حقه صلى الله عليه وسلم هو الأفضل بخلاف سائر الناس ولهذا فضل كثير من المحدثين – ومنهم الإمام أحمد – التمتع في الحج مطلقاً أي سواء ساق الهدي أم لا ؛ مع أنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارنا ؛وذلك لصريح قوله بفضيلة التمتع .
3. من أراد في هذه المسألة تحرير القول في التفضيل فيها وفق القواعد فالذي يظهر والله أعلم تفضيل عمرة رمضان لورود فضلها أنها تعدل حجة (بل حجة معه صلى الله عليه وسلم إن صحت اللفظة للخلاف في ثبوتها) ، وهذا لم يرد مثله في العمرة في غير رمضان سواء في أشهر الحج أو غيرها ، ومجرد الفعل لا يقابل مثل هذا الفضل لاحتماله احتمالات كثيرة كما تقدم .
أخيراً
شاعت وسائل الاتصال وسهل الإرسال فبمجرد لمسة يمكن لطفل فضلا عن غيره أن يرسل للعشرات والمئات ما شاء ؛ جرّاء ذلك أصبح الناس يتناقلون أشياء كثيرة منها مسائل علمية قد يكون بعضها قاله بعض أهل العلم من غير قصد إشاعته ، إما لأنه في مجلس مدارسة ومذاكرة وقد كان أهل الحديث يفرقون بين رواية المذاكرة والرواية في مجلس الرواية ، وإما لأنه لم يحرر المسألة فذكرها استطرادا ، أو لغير ذلك ، فيتعجل البعض فيذكرها ويرسلها بل مع الوصية بنشرها ،ولو رجعنا إلى المنهج القرآني لوجدنا الله تعالى يقول : {وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ }، قال القرطبي في تفسيره (5 / 291):المعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم (أو الخوف) وهو ضد هذا (أذاعوا به) أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته ، قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم) أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه،أو أولوا الأمر وهم أهل العلم والفقه، (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم.
وقال ابن كثير في التفسير (2 / 365):قوله: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة. وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" ا.هـ
فالمقصود أن الواجب على عامة الناس حين يقفون على مسألة جديدة أو حكم مغاير للمشهور أن يسألوا عنه من هو أعلم منهم ، وقد تكون بعض المسائل مما يستساغ مناقشتها بين أهل العلم لكنها تحدث تشويشاً حين يتناقلها الناس .
وهو منهج قرآني عظيم يجب التعامل به في الأخبار أيضاً وفي سائر العلم والمعلومات أن ترد إلى المختصين بها ولا نتعجل بنقل الشائعات ، ومن الطريف أن يرسل البعض الرسالة ليسأل عنها وهو بذلك شريك في إشاعتها حين يسأل من ليس مختصا في شأنها .