بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل لدراسة فقه الطب وتدوين القانون الطبي الإسلامي
- أمثلة للنوازل الطبية -
الأستاذالدكتور أمل بن إدريس بن الحسن العلمي
أستاذ سابقا بكليات الطب بالمغرب - أخصائي في الجراحة العصبية والمجهرية
تقديم : أصل هذا المبحث محاضرة للكاتب ألقيت بوجدة بدعوة من المجلس العلمي للمنطقة الشرقية يوم السبت 17 دجنبر 1988مبقاعة البلدية والدعوة كانت للعموم.بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة الكرام والعلماء الأفاضل إنه لشرف لي وأي شرف أن أتحدث في مجلسكم هذا الموقر فاسمحوا لي قبل كل شئ أن أشكر أعضاء هذا المجلس العلمي الإقليمي بمدينة وجدة لدعوتهم الكريمة إياي لإلقاءهذه المحاضرة وأطلب من السادة العلماء أن يتجاوزا أخطائي وهفواتي وأستسمحهم لتطفلي على الميدان الفقهي وعذريأني أردت أن أملأ فراغا باهتمامي بالدراسات بين الطب والإسلام فتفطنت لثغرة في الفقه تمس الطب والتطبيب وأخالني أول من كتب حول فقه الطب في مطلع السنة 1979م لذا آثرت الحديث حول هذا الموضوع كمدخل لدراسة عميقة لفقه الطب ومحفز لتدوين القانون الطبي الإسلامي مساهمة مني في تأصيل العلوم الحديثة ولا سيما الطب فتنطبع عليه سمة الشريعة الإسلامية ويستجيب للكتاب والسنة سواء أكان في الممارسة المهنية أو البحث العلمي.
1. فقه الطب :الكل يعلم أن الفقه يعنى بدراسة القوانين المستنبطة من أحكام القرآن والسنة. وقد دون هذه القوانين ثلة من الأئمة الكبار في القرنين الأولين بعد رسول الله فجاءت على أربعة مذاهب فقهية وهي التي يتبعها اليوم معظم مسلمي الأرض وعلى رأسها المذهب المالكي الذي رتبه إمامنا مالك بن أنس رضي الله عنه. والجدير بالذكر أن هذه المذاهب لا تختلف إلا في أمور جزئية متفرعة من أسس ثابتة متفق عليها من طرف الجميع. ويمكن تقسيم الفقه إلى قسمين : فقه العبادات وفقه المعاملات مع ارتباط وثيق بينهما، فالفقه الخاص بالعبادات أكثر ثباتا واستقرارا لأنه يتعلق بشعائر دينية لا تتأثر بتوالي العصور والأجيال وأما الفقه الخاص بالمعاملات فهو أكثر تطورا لأنه أشد تأثرا بالحاجات البشرية المتجددة التي لا تستقر على وضع معين، بحكم تشابك العلاقات، وتغير الأحوال وبروز أوضاع وعلاقات اجتماعية جديدة لم تكن من قبل في الحساب. والذي يهمنا في مجال الطب خصوصا هو فقه المعاملات وحده لأنه هو الذي يتولى تنظيم المجتمع وتصريف الحياة العامة، وتحديد العلاقات والروابط في كل جانب من جوانبها الكثيرة. هذا الفقه هو الاستجابة المتكررة لدواعي الحياة المتجددة في صور تطبيق جزئي للشريعة الإسلامية الثابتة على حالات غير ثابتة في حياة الأمة الإسلامية ...ولقد أصبحت الحاجة ماسة في يومنا هذا لما يمكن أن يطلق عليه تسمية “ فقه الطب “ وهو فقه يعنى بتحديد وتلبية الحاجات لأحكام شرعية في مختلف نوازل الطب الدراسية والمهنية والمتعلقة منها بالبحث العلمي. فما هي يا ترى الخطوط العريضة لهذا الفقه كما نتصورها ؟ لمزيد من الإيضاح أقول : إن ما أريد أن أدل عليه بفقه الطب هو هذا الجزء من الفقه الذي يعنى بجمع ودراسة القوانين المستنبطة من أحكام القرآن والسنة المتعلقة بالطب والطبيب أو المرض والمريض على السواء فتصنف وتبوب مادته بالرجوع إلى المذاهب الأربعة أو إلى أهل الحديث. ثم يستدرك على هذه المادة الأساسية المنصوص عليها بما استحدث من قضايا ونوازل طبية وفتاويها الفقهية.هذا الفقه ليس بجديد في واقع الأمر إذ نجد طي كتب الفقه أو السنة عدة أحكام تتعلق بالمرض والمريض أو الطبيب والعلاج لكنها قد تكون مدرجة ضمن أبواب لا يخطر على الباحث غير المختص الرجوع إليها والانتفاع بها. فيجب قبل كل شيء جمعها وتبويبها تبويبا منهجيا يسهل الرجوع إليها خصوصا بالنسبة للمرضى والأطباء ورجال الفقه. ويمكن لهذا الفقه أن يقسم كذالك كالفقه العام إلى قسمين إلى فقه طبي يتعلق بالعبادات وفقه طبي يتعلق بالمعاملات.وهكذا نستخلص من كل ذلك مادة أساسية لفقه الطب ولكنها غير كافية في حد ذاتها لحل المشاكل التي تطرح حول مستحدثات، سواء بالنسبة للمريض أو للطبيب... لذا نضيف إليها (أي المادة الأساسية ) الأمور المستجدة في عالم الطب لتحديد موقف الشريعة منها.ولإعطاء فكرة حول مادة فقه الطب يمكن مرحليا أن نصنفها على قسمين :- قضايا وأحكام موجودة في كتب الفقه وهي مثل أحكام الحيض والحمل والنفاس والرضاع والإجهاض الخ...- قضايا مستجدة أو نوازل وأحكامها من خلال دراسات فقهية وفتاوى معاصرة : وهي مثل تحديد النسل والاستنجاب الغير الشرعي وأبناك المني وأبناك الحليب وزرع الأجنة داخل رحم مستضيف والتدليس بإعادة البكارة بعملية جراحية وعمليات نقل وزرع الأعضاء، وتشريح الجثة، وإلى غير ذلك من الأمور ...ومجال فقه الطب كذلك كما أسلفنا ذكره يتعلق بأمور يطرحها المرضى لها صلة بالطب أو العبادة منها على سبيل المثال :- حكم المريض الذي خالف إرشاد الطبيب كمن صام وأتلف صحته أو هلك.- حكم من يتعاطى التدخين أو المخدرات أو كل ما يضر بالصحة، وحكم المدمن والإدمان على تلك الموبقات.- الأحكام والترخيصات للمرضى أو العجائز في أمور العبادة (الوضوء والتيمم والمسح على الجبيرة والخف، الصلاة وصفة صلاة المريض، الصيام ورخصه وصيام المريض، الحج والعمرة ورخص المريض والعاجز، وإلى غير دلك وما شابه من القضايا والأحكام ...).ومثل كل هذا وذاك يحدد مجال فقه الطب.وللتصور الإسلامي خصائصه ومقوماته يمكن معها عند التطبيق على الأمور الطبية أن تبرز في شكل تبويب فقهي خاص. ولفهم هذا نضرب مثلا : المحرمات في باب التغذية. إذا نحن استحضرنا شؤون التغذية كلها والملذات المتعلقة بها فتكون الحِرمة بالنسبة لها كما يبدو على وجهين إما مطلقة تخص جميع المسلمين أو مقيدة تخص فئة من الناس دون الأخرى. لنوضح أكثر بالأمثلة:- الحِرمة المطلقة : وهي حِرمة مطلقة بالنسبة لعامة الناس إما بالنص كتحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ( الذبيحة الحرام ) وإما استنبط حكم تحريمها بالاجتهاد كالتبغ والمخدرات وكذا بالنسبة لكل شيء يثبت ضرره.- الحِرمة المقيدة : باعتبار ظروف الشخص الصحية، هي التي يجري حكمها على بعضالناس وتتعلق بفئة منهم وبظروف خاصة مثل المرض. ومن ذلك مثلا تناول بعض الأطعمة التي يطلب طبيا من المريض تجنبها. فإذا أرشد طبيبمسلم ثقة أو غيره (ذمي بشروط)، مريضه لتجنب تناول طعام به ملح (مثلا في حالة ارتفاع الضغط الدموي) صار واجبا شرعا اتباع رأي الطبيب في حق هذا المريض. ويكون تناول الطعام المضر حتما بالنسبة إليه حراما يعرضه لاقتراف ذنب إن هو خالف في هذه الحال إرشاد الطبيب لأن هناك قاعدة فقهية عامة “ لا ضرر ولا ضرار” يجب الأخذ بها... فالإنسان في نظر الإسلام مسؤول عن صحة جسمه “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة“ ،“ وإن لنفسك عليك حقا “،والمسلم القوي خير من المسلم الضعيف لما يمكن أن يقوم به من عبادة وعمل (وهو كذلك عبادة). ونفس الحكم يمكن أن يطلق في حق من ابتلي بمرض السكري وما يحظر في حقه من مأكولات أو مشروبات. وقس على ذلك من الأمور والحالات...ونرى في هذا الباب تداخلا بين أمور الطب والحياة مع العبادة، فلا انفصام بين العبادة والحياة كما هو عموما الشأن في الاسلام.وبعد أن بينا مدلول فقه الطب وحددنا مجاله وعرضنا الأسس التي يجب أن يبنى عليها كيف يمكن أن نستوحي من الإسلام بكيفية تطبيقية على القضايا الطبية المدروسة في مجال فقه الطب ؟ وهل هنالك مجال للاجتهاد وإذا كان كذلك فما هي قواعده وشروطه ؟ولنبدأ بالقضايا الطبية التي قد تطرح نفسها على الشريعة لمعرفة حكم الله فيها. فإنها لا تعدو أن تكون أحد أمرين :
1- الأول : ما ورد فيه نص أو مبدأ عام وفي هذه الحالة ترتسم ثلاثة احتمالات : أ- أن تكون الشريعة قد نصت على حكم معين نصا صريحا فهو إذن واجب التطبيق دون تحوير أو تبديل فثبوت الأحكام لا يعني الجمود لأنه يتعلق بأهداف ثابتة.ومن الأمثلة لهذه الحالة : تحريم الخمر والزنى الخ... بنص صريح. ب- أن تكون الشريعة قد جاءت فيه بنص أو نصوص قابلة للتأويل فيكون حينئذ قابلا للاجتهاد ترجيحا أو توفيقا بين النصوص المختلفة إن كانت، أو بين النص الواحد والحالة المراد تطبيقه عليها وذالك مع الاسترشاد بالتطبيقات العملية في صدر الإسلام إن وجدت، والاستعانة بأقوال الفقهاء في المسألة، ولكن دون التزام كامل بتلك التطبيقات أو بهذه الأقوال التي لم تكن إلا تلبية مباشرة لحاجات العصر الموقوتة. ج) أن تكون الشريعة قد جائت بمبدأ عام، تدخل هذه المسألة الخاصة فيه ضمنا، ولكنه لا ينص عليها تصريحا، وعندئذ يكون الأمر موضع اجتهاد في تطبيق المبدأ العام على الجزئية المعروضة مع الاسترشاد بالسوابق التاريخية والأحكام الفقهية مجرد استرشاد... ومن الأمثلة لهذه الحالة تحريم التبغ والمخدرات وكل ما يضر الجسم قياسا وحسب مبدأ عام فقهي “ حيثما الضرر فثمة الحرمة “.
.2- الثاني : أن تكون الشريعة سكتت عن هذا الأمر فهو متروك إذن للاجتهاد على ألا يصدم الحكم الذي يصل إليه مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسية، ولا أصلا من أصوله التشريعية ولنا أن نسترشد فيه بتصرف فقهاء الإسلام في مثل هذه الأحوال. بهذا نحتفظ للفكر الإسلامي بمرونته، وللنظام الإسلامي بتجدده...وجل النوازل والقضايا المستحدثة في عالم الطب يمكن إدراجها في هذه الحالة إذ لم تكن سابقا وسكتت الشريعة عنها وتركتها للاجتهاد ولإصدار حكم فيها من الفقهاء. وفي إطار تلك الحالات الأربع يمكن لكل القضايا الطبية قديمها ومستحدثها أن تلبى من طرف الشريعة الإسلامية فتستنير بهديها. وعلى أساس ذالك تجمع مادة فقه طبي، يخص الطبيب والمريض وأساليب العلاج، مبوب تبويبا يلائم عقلية العصر فيسهل الرجوع إليه والانتفاع به. ولنا أن نُدَرِّسَ في كليات الطب هذا الفقه التطبيقي المتخصص كفرع من الفقه العام كما لو أنه يُدَرس بمعاهد وكليات الشريعة. ومن المعلوم أن باب الاجتهاد لم يغلق ولن يغلق ما دام هناك نظام إسلامي وبنية علمية إسلامية في المستوى اللائق التي تضمن لنا تكوين العلماء الكبار في مختلف التخصصات والعلوم الإسلامية بالإضافة إلى التخصصات التي يقتضيها العصر. وقد أصبح الاتجاه واضحا نحو تكوين مجالس علمية وفقهية عليا تسهر جماعيا على الاستجابة لمقتضيات العصر وما يستجد فيه من نوازل تهم المسلمين. والمأمول أن تتطور هذه المجامع والمجالس الفقهية إلى المستوى المطلوب على أن تكون ذات استقلالية عن أي تأثير خارجي عن مهمتها كما أرادها الشرع الشريف. نقول ذلك لأن الشروط المطلوبة في المجتهد لا تقتضي إغلاق باب الاجتهاد. فقد اشترط المختصون من علماء المسلمين فيمن يكون أهلا للاجتهاد عدة شروط : - أن يكون كامل العقل، صادق الإيمان بالله ورسوله، حريصا على العمل بالكتاب والسنة، مؤمنا بأن الله تعالى أعلم بمصالح خلقه، وأنه لا يشرع لهم إلا ما فيه الخير لهم...- أن يكون عالما باللغة العربية، وطرق دلالتها على معانيها بمزاولته لعلومها المختلفة، واطلاعه على الكثير من آثار فصاحتها إلى الحد الذي يميز به بين الخاص والعام : من الألفاظ والحقيقة والمجاز والمحكم والمتشابه من النصوص وغير ذلك...- العلم بالقرآن والسنة، وما جاء فيهما من أحكام وما نسخ منهما وما لم ينسخ مع القدرة على ربط المجمل ببيانه، والمطلق بمقيده والعام بمخصصه...- أن يكون قادرا على معرفة علل الأحكام الشرعية، عالما بمقاصد الشارع من تشريعه، قياس الأشياء على أشباهها، أو توجيه الأمثال إلى تحقيق مصالح العباد المشروعة...وإضافة لشروط الاجتهاد والفتوى المتفق عليهما نرى أنه يجب اشتراط طرح القضايا المستحدثة في الطب مثلا من طرف ثلة من الأطباء المسلمين الثقات ذوي الاختصاص وصياغة الأسئلة بدقة مع اطلاع السادة العلماء الأجلاء على كل جوانب الموضوع الذي يدور حوله السؤال ويحسن تشجيع الدراسات والبحوث الجامعية سواء في كليات الطب أو كليات الشريعة حول القضايا المطروحة ( ولقد شرعنا منذ سنوات خلت في هذا العمل بالإشراف على عدد كبير من الرسائل الجامعية بكليات الطب بالدار البيضاء والرباط حول عدة مواضيع تهم الطب الإسلامي، هدفنا من خلالها طرح المشاكل من منظور طبي على العلماء علما منا أن طبيعة السؤال تؤثر إلى حد كبير في طبيعة الجواب. فتكون صياغة الأحكام على أساس افتراضات واقعية لا تتعارض مع الحقائق العلمية ولا مع روح الشريعة الإسلامية، وعلى أي فإن للمجتهد أجرا إن أخطأ وأجرين إن أصاب كما ورد في حديث رسول الله .وأخيرا إن الشريعة الإسلامية، تحتم علينا أن نتخذ من الأحكام المستنبطة من الكتاب والسنة أساس كل قانون أو حكم، لذا يكون فقه الطب نبراسا على هدي الكتاب والسنة ويجب أن نستعين به في وضع دستور إسلامي للطب عوضا عن القانون الطبي الوضعي.ولأهمية هذه المسألة فضلنا الحديث عنها ولو باقتضاب ضمن فقه الطب من حيث امتداد هذا الأخير وصلته بالقانون الطبي.